11 أيلول توقظ روائيي أمريكا من غيبوبتهم
شكّل الحادي عشر من أيلول 2001 نقطة تحوّل في مشاغل الروائيين الأميركيين ومنعطفاً حاسماً في منحاهم الإبداعي. لحظة تاريخية أدخلتهم عنوة حلبة الاهتمام بأحداث آنيّة بعدما غفلوا عنها وغرقوا ـــ منذ ستينيات القرن الماضي ـــ في غيبوبة طوعيّة فرضها عزل الثقافي عن السياسي. فور تخطّي الواقع المادي للاعتداءات على “التفاحة الكبرى” نيويورك، سعى مؤلّفون كثر لاستيعاب ما جرى ولملمة أشلائه عن طريق الأدب المُتخيّل. الا أنّهم لم يتمهّلوا للتأمل في لحظة أعادت صياغة النظام الجيو ـــ سياسي، بل تبنّوها على فجاجتها، وراحوا ينقّبون في امتداداتها، وصولاً الى بلورة تيار أدبي طُوّب “روايات 11 أيلول”.
استوحى كثيرون أعمالهم من تلك اللحظة الحاسمة في تاريخ أميركا والعالم، ومنح ذلك اليوم الخلفيّة الجمالية لرواية دجاي ماك أينيرني “الحياة الراغدة” (The good life)، فيما شكّل اللحظة المحوريّة في عمل جوناثان سايفران فوير. وفيما كتب روائيون عن خسارة أميركا براءتها، رصد آخرون مواقف الدول السلبية من بلاد العم سام. الا أنّهم تقاطعوا جميعاً في وصف عالم متبدّل استولده الاعتداء.
تلاحق رواية جوناثان سايفران فوير “شديد الصخب وقريب للغاية” (Extremely loud and incredibly close - 2005) قصة أوسكار شيل، فتى التاسعة الباحث عن قفل يلائم مفتاحاً غامضاً ورثه عن والده الذي لقي حتفه في مبنى مركز التجارة العالمي. أوسكار الفرنكوفوني ناشط سلمي وعالم آثار. باختصار، هو طفل نابغة يتحرّك في مدار رواية يزعزعها مفترق الحادي عشر من أيلول. لكنّه مفترق تتخطاه الرواية لتستعيد ماضياً أميركياً هذه المرّة، مطبوعاً بدمويّة قنبلة هيروشيما وقصف الحلفاء لمدينة دريسدن الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية. يطالعك في الرواية صدى كتاب “خيالات مانهاتن” لبول أوستر وتأمّل كاتب آخر هو دبليو دجي سيبالد في الدمار الذي تخلّفه الحروب. لكن سايفران فوير لا ينهمك في طرح إشكاليّة سياسية بل يكتفي بمعالجة المواضيع الأساسية مثل مفهومي الحياة “نحتاج إلى حياة كاملة لكي ندرك كيف علينا أن نعيش”، والموت وما بعده “أظن أن ثمّة تشابهاً بين مرحلتي ما بعد العيش وما قبله”، كما مفهوم الحب “كيف يسعُك قول أحبُكَ لشخص تُحِبُه؟”.
في رواية دجاي ماك اينيرني “الحياة الراغدة” يعيد أكثر من نيويوركي تقويم حياته بعد اعتداءات 11 ايلول. يستعير الكاتب من عمله السابق “شلالات الضوء” شخصيتيْ كورين وراسيل، الثنائيّ الذي يرتاد حفلات يحضرها الروائي البريطاني سلمان رشدي وأسماء أخرى بارزة. وتوفّر هاتان الشخصيتان ممراً لماك اينيرني، لينتقد سكان مانهاتن من البورجوازيين البيض الانغلو ـــ ساكسونيين والبروتستانت. هكذا، يقتحم الكاتب حياة عائلية يخيّم الغموض على سعادتها. وتأتي الاعتداءات على مركز التجارة العالمي لتجمع كورين ولوك المتزوّج بدوره الذي جنى ثروة من البورصة قبل أن يتقاعد. هي تقيم في الشارع المقابل للمركز، أما هو فكان يزور في ذاك الصباح محاسبه في المبنى المالي. والمفارقة أن علاقة الاثنين ستتطوّر بعد الاعتداءات خلال إعدادهما الحساء ـــ كمتطوّعين ـــ لعمال الإنقاذ في “غراوند زيرو”. لا يحاول ماك اينيرني وصف مُجريات الحادي عشر من أيلول. يبدأ حكايته في ليل العاشر من أيلول ليستأنفها في صباح الثاني عشر منه بمشهد يظهر لوك وهو يخرج من الركام اثر ليلة مضنية من البحث عن أحياء. يشرّع ماك اينيرني شتى الاحتمالات أمام هؤلاء الناجين من اعتداءات 11 أيلول، ويرى أنه بات في وسعهم البدء من جديد، واختيار حياة شعروا دوماً بالخوف او بالذنب من عيشها. هكذا في تخوم اللحظة المأسوية، اندثرت التباينات المهولة التي تنظّم حياة المدن الكبرى ومكّنت النيويوركيين، أخيراً، من رؤية بعضهم بعضاً.
في حين قد تبدو روايات 11 ايلول متسرّعة أو هستيرية، لا يخيّم شبح البرجين التوأمين مباشرة على رواية كلير مسود “أولاد الأمبراطور” (The emperor’s children- 2006) التي اختيرت في أولى لوائح جائزة “بوكرز” لهذا العام، الا بدءاً من الصفحات الستين الأخيرة. لكن إحساس القارئ بقرب الحدث يخلق دينامية ضاغطة، كما في التراجيديات الاغريقية. ليست “أولاد الأمبراطور” رواية تقليدية من سلسلة روايات ايلول، بل إنها تقصٍّ في المعايير الأخلاقية التي تحرّكنا وفي صدقية التصرّفات الانسانية وصحتها بين العالمين الخاص والعام. تأخذنا الرواية الى مانهاتن بين آذار وتشرين الثاني 2001 وتلقي الضوء على الصراع الذي يتخبّط فيه ثلاثة أصدقاء بالكاد بلغوا الثلاثين، لإيجاد مغزى لحيواتهم التائهة. تسأل الرواية عن احتمالات المعرفة والخيبة الذاتيتين وتتساءل إن كنا نعيش حياة أو تجربة واقعية محدودة.
لا شكّ في أنّ النيويوركيين شعروا بأنّ الاعتداءات على مدينتهم غيّرت نمط عيشهم، لكن أن يصلح هذا التغيير مادة روائية فمسألة أخرى. ربما وجب علينا ـــ كما فعلت “نيويورك اوبسورفر” في افتتاحيتها عام 2001 ـــ التسليم بالمقارنة بين مرحلة ما بعد 11 أيلول ومرحلة ما بعد “أوشفيتز” والمحرقة النازية. وانطلاقاً مما قاله الفيلسوف الألماني ثيودور أدورنو في أعقاب الحرب العالمية الثانية، عن أن “كتابة قصيدة بعد أوشفيتز باتت تصرّفاً همجياً”، يمكننا التساؤل أيضاً إن باتت الكتابة بعد الحادي عشر من أيلول بدورها تصرفاً همجياً؟
رلى راشد
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد