غسان الرفاعي: تحول المثقف إلى مزارع
يشكو الجيل الجديد، وهو مزيج من الشيوخ المتصابين، والشباب المكتهلين، من ثلاث عاهات مروعة: الجهل أولاً، لا على إنه افتقار إلى المعرفة، وإنما على إنه تغيب عن الساحة، والخوف ثانياً، لا بسبب الجبن، وإنما بسبب الإقصاء المتعمد عن المشاركة في الشأن العام، والحماقة ثالثاً، لا على أنها نقيض الحكمة، وإنما على إنها السلامة الجسدية والعقلية الوحيدة المتوفرة.
-1-
سأعترف أنني أجهل ما يجري في العالم العربي، وعلى امتداد الكرة الأرضية، كانت عندي بوصلة تهديني، وتكشف لي بعض الأسرار في عالم الظلمات الذي يحيط بي، ثم فقدت هذه البوصلة، أو لعلها قد كسرت، ولم أستطع الحصول على بديل عنها، كان (سقراط) وهو ابن مولدة، وقد اكتسب شيئاً من مهارتها المهنية، يعتمد على المساءلة الخبيثة للتوصل إلى (الحقيقة) ولكنه لم يكن يرمي إلا إلى إثبات جهل الآخرين، تمهيداً لإعلامهم بأنه أكثر جهلاً منهم، وقد اتهم بإفساد الشباب، لا لأنه نجح في تسفيه قناعاتهم واستبدالها بقناعات جديدة، وإنما لأنه نجح في إيصالهم إلى الشك المطلق، وقد حكم عليه بالإعدام، ورضي هو بهذا الحكم، ورفض الهرب من السجن حتى لا يسجل على نفسه أنه تمرد على القانون، وكان من العصاة.
كان يسأل ببراءة تامة: ما هي العدالة؟ فيغامر أحد المتحلقين حوله بتعريف، كأن يقول مثلاً: (العدالة هي إعطاء كل ذي حق حقه) فيسارع (سقراط) إلى التشكيك بهذا التعريف: (من هي الجهة التي يجوز لها أن تعطي هذا الحق؟ الله، المجتمع، الدولة، ثم من هو صاحب الحق؟ المدعي بأن الحق معه، أو المصنف بالقانون أو التشريع، ثم ما هو الحق؟ الحق الطبيعي أم الإلهي أم الاجتماعي)، وحينما يعلن صاحب التعريف أنه لم يعد متمسكاً به، ويطالب (سقراط) بهدايته يفجع إذ يكتشف أنه لا يوجد لدى (سقراط) تعريف آخر.
و(سقراط) هذه المرحلة هو (جورج ميتشيل) بلا منازع إنه يعتمد على المراوغة الخبيثة لإثبات (جهل) محاوريه من الزعماء العرب تمهيداً لإبلاغهم بأنه أكثر جهلاً منهم، يتساءل: (ما هو السلام؟)، فيغامر أحد الزعماء بتعريف له، كأن يقول: (السلام هو المقايضة بالأرض والاعتراف بالحقوق المشروعة) فيسارع (ميتشيل) إلى التشكيك: (المقايضة قبل الانسحاب أم بعد الانسحاب، كل الأرض أم بعض الأرض، انسحابات بضمانات أم من دون ضمانات، سلام كامل أم جزئي، انسحاب فوري أم مؤجل، سلام مع بقاء الأنظمة أم بعد زوالها؟ سلام مع المقاطعة والحصار أم بإسقاط المقاطعة وإلغاء الحصار؟ سلام مع قوات أميركية محتلة أم قوات مستضافة تلقائياً؟) وحينما يدوخ محاوروه، ويعلنون أنهم غير قادرين على الخروج من (المأزق) ويطالبون (ميتشيل) بـ (الهداية) يفجعون إذ يكتشفون بأنه لا يوجد لديه إلا مطلب متواضع: الخضوع بلا قيد ولا شرط للشروط (المشرفة) التي يقترحها.
على أنه يوجد فارق بين (سقراط) و(ميتشيل): حكم على (سقراط) بالإعدام بتهمة إفساد الشباب، في حين أنه قد يحكم على الشعب العربي بالإعدام إذا لم يستجب لإفساد (ميتشيل).
-2-
وسأعترف دون اكتراث، بأنني خائف، لا لأنني جبان، وإنما لأن يأساً غامضاً يتسرب إلي، فيفقدني القدرة على رؤية الأشياء، بوضوح وشفافية، وكما يقول (شوبنهور) (خوف اليائس موقف سياسي) لقد امتزجت عندي الهموم الشخصية بالهموم الوطنية، واختلط الإقليمي بالدولي، وما عاد من الممكن استشراف المستقبل الذي ينتظرنا، ولا تحديد هويته السياسية والاقتصادية والاجتماعية. في البدء كان عندنا تفاؤل جغرافي يقوم على الاعتقاد بأن الوحدة العربية على مشارف الغد، وأن الشقف الأرضية المتناثرة والمشطورة بفعل قرارات أجنبية مفروضة سوف تلتحم لتكون كلاً متجانساً، وها قد تكاثرت الدكاكين في الوطن العربي، ويتحكم في كل دكانة حانوتي ماكر لا يفكر إلا بالمحافظة على ملكه، والقضاء على الدكاكين المنافسة. وها قد تفسخت الهوية الموحدة، بل لعل تسمية الوطن الجديدة (الشرق الأوسط) تكشف الكثير من الهجانة الموعودة. وكان عندنا تفاؤل تاريخي، قوامه أن المستقبل قد يكون امتداداً للماضي، وأن ما توفر لنا من مؤهلات وشروط وثروات وطاقات كفيل بأن يؤمن لنا ولأجيالنا الجديدة، حياة حرة كريمة، وقد تلاشى هذا التفاؤل بعد أن تحقق هدر كل شيء، بجنون وسادية، هدر الثروة العربية، والقوة العربية، والكرامة العربية، في معارك حاقدة وتواطؤات مشينة، ومنازعات مستلبة، واليوم ونحن محاصرون بالسلام المزيف، والازدهار الكاذب، والهيمنة الأميركية- الإسرائيلية، واحتمال تفجر الحروب الأهلية كل يوم، لا نملك إلا أن نخاف، لا لأننا فقدنا شجاعتنا وإنما لأننا نشعر بأننا متروكون، مهددون.
-3-
وسأعترف، دون خجل، بأنني أحمق، لا لأنني لا أعرف ما الحكمة، وإنما لأنني عاجز عن التأقلم مع ضغوط الحاضر. بمقدوري أن أحاضر مدة عشر ساعات متتالية عن (آفاق المستقبل في ضوء ضرورات الحاضر) وأن أنظّر عن (الإنسان العربي الجديد) ولكنني أشعر بأنني (فائض عن الحاجة) أقرأ ما ينشر ويذاع، وأستمع إلى كبار المفكرين العرب في محاضرات وندوات أدعى إليها باستمرار، ولكنني أزداد عزوفاً ورغبة في الانكفاء. قال لي مثقف عربي يقيم في باريس: «لقد وضعت حتى الآن عشرين كتاباً باللغتين العربية والفرنسية، ولكنني عازم على أن أنقلب إلى مزارع. سأشتري قطعة أرض وسأحاول زرعها خضراً وفاكهة، هذا أجدى وأنفع!» ولم أحاول أن أناقشه في صواب خياره، بل لعلي حسدته، وتمنيت أن أفعل مثله.
د. غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
التعليقات
wellcome to teh club
إضافة تعليق جديد