إلـى محمـد عابـد الجابـري

16-07-2010

إلـى محمـد عابـد الجابـري

سألتني ذات مرة أواسط التسعينيات، في بيروت، قلت: هل أنت مع توظيف الإسلام في تحرير فلسطين؟
وقد فاجأني السؤال بصيغته الاستجوابية وبمضمونه محض العملي (=السياسي)، فكنا اعتدنا في بيروت على أسئلة من نوع ما رأيك في... على نحو يمكن للإجابة معه أن تكون غير معبّرة عن الموقف الشخصي بالضرورة، وكنا حسبنا، بفضل دروس الحرب الأهلية، أن الواحد منا (مفكرا كان أم مجرد باحث) غير مؤهل للإجابة في غير حقل اختصاصه. وكنتَ ما زلت في نظرنا صاحب «نقد العقل العربي» في طموحه إلى إنتاج قول (تقول: خطاب) علمي لا يقبل التوظيف المباشر في السياسي. أو إن هو قبل فلأنه يحبل بمحمـد عابـد الجابـريمشروع سياسي مغاير لما هو قائم.
وأجبتك يومها: لكن قل لي بدءا لماذا تريد تحرير فلسطين؟
وقد فاجأك الجواب بصيغته الاستفزازية. وسكتَّ سكتا معبرا وصرفت وجهك عني.
وأتخيلك الآن قلت (تقول): وهل يُسأل عن دوافع سعينا إلى تحرر فلسطين؟
وأتخيّلني أجيب: لكن شغل الفلسفة الشاغل أن تطرح الأسئلة على ما يبدو بديهيا، أي أن تستوضحه لترى ماذا يؤسسه، وكنا حسبنا أنك تقارع المسلمات السائدة أيضا.
فتنتفض قائلا، كما لو كنت تنشد في معارضة المتنبي: تركت النوى خلفي لمن قلّ وقعه. متابعا: لقد انتهى من زمان التأمل من أجل التأمل بعيدا عن الواقع، وماتت الميتافيزيقا وصار التفلسف تغييرا للواقع ومشاركة في الفعل التاريخي.
وأجيبك: لم يكن قصدي النوى والتبعيد، بل أردت أن أتبين الدافع إلى التحرير هل هو إنساني بحت أم قبيلي من باب: انصر أخاك؟ لنبني على الشيء مقتضاه. هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا أحسب أن للتفلسف المحض زمنا ينتهي، لأنه حاجة العقل وليس مجرد علاج لظروف تطرأ.
فتقاطعني (متجاهلا هذه الجهة الأخرى) قائلا: الإسلام كما أراه يتضمن الأمرين معا أي نصرة ذوي القربى والتضامن الإنساني. وتتابع من دون توقف: ليس الأسلام عندي إسلام التطرّف. بل إسلام متجدد يستلهم السلف الصالح ويجتهد بما يناسب المستجدات التاريخية والظرف الراهن. وهو إسلام مفتوح على المستقبل من دون أن يقطع مع مرجعية الماضي (أي ممارسة الخلفاء الراشدين). لقد سبق أن كتبتُ: «الإسلام السياسي لا يمكن أن ينجح في تحقيق أهدافه التاريخية... إلا إذا طرح مسألة الاستبداد والظلم وما يرتبط بهما... من مسائل، سياسية واجتماعية واقتصادية، طرحا سياسيا واضحا... إلا إذا دخل السياسة من بابها المعاصر والواسع».
فأراني أقول: لكن السياسة من بابها المعاصر تقوم على فصل الدين عن الدولة وعلى القانون الوضعي الذي يضعه البشر ويعدلونه تبعا للظروف والحاجة.
فتقول: إن فصل الدين عن الدولة، إن العلمانية نتاج غربي حصل في ظرف معين ومجتمع فيه كنيسة. في حين أن لا كنيسة في الإسلام حيث كل مؤمن يمارس إيمانه بصلة مباشرة مع الله. ولا مجال في الإسلام لفصل الدين عن الدولة. لذا أقترح (سبق أن اقترحتُ) العقلانية والديموقراطية بديلا من العلمانية مناسبا.
فأٌقول: لن أجادلك في التوهيم الآيل إلى عدّ الإسلام دينا من دون سلطة رجال دين (=إكليروس). لكن، أخشى أن يتم تلخيص الديموقراطية إلى مجرد عملية الاقتراع وفصل السلطات، بصرف النظر عن حق الناس بالتشريع وصوغ القوانين التي يحسبونها صالحة لاجتماعهم.
فتقول: اسمع، لقد جمعتُ العقلانية إلى الديموقراطية عن قصد. فإذا كانت الديموقراطية تعني حفظ حقوق الأفراد والجماعات، فإن العقلانية «تعني الصدور في الممارسة السياسية عن العقل ومعاييره المنطقية والأخلاقية وليس عن الهوى والتعصب وتقلبات المزاج».
فأقول: ألا ترى أن ذلك قد يعارض فكرة «الإسلام دين ودولة».
فتسرع إلى القول: لا يمكن التفكير في «ما العمل؟» من دون الانطلاق من الإسلام لإنه دين الأكثرية الساحقة من العرب، ولأن الوضع الحضاري المعاصر يفرض أن يكون هو النموذج الذي يجب استلهامه من أجل إعادة بناء الذات وتحصينها ضد الذوبان والاندثار والاستلاب، بناءً لا يقتصر على استلهام «النموذج ـ السلف» بل يجب أن يستلهم جماع التجربة التاريخية لأمتنا مع الاستفادة من التجربة التاريخية للأمم المغلوبة والغالبة اليوم. وهذا هو التجديد ووجوب استخدام العقل لأن المطلوب اليوم هو تجديد ينطلق، لا من مجرد استئناف الاجتهاد في الفروع، بل من إعادة تأصيل الأصول، من إعادة بنائها. وتتابع: نقطة البداية في عصرنا يجب أن تكون إعادة تأهيل عقل المجتهد، إعادة بنائه. فمن دون عقل جديد لا يمكن أن يقوم اجتهاد جديد.
السياسة
عند هذا الحدّ أحاول أن استجمع قواي لأقول: لكن ألا ترى أن حرصك على الدقة العلمية والعقلانية يقيده المطلوب فعله هنا والآن أي يقيّده الغرض السياسي؟ ألا ترى أنك ما زلت، «منذ بنية العقل العربي»، تقترب من السياسي وتبتعد عن البحث المنزّه عن الغرض؟ وكنتُ لمستُ حركة الاقتراب والابتعاد هذه منذ كتابك الضخم «العقل الأخلاقي العربي (نقد العقل العربي 4)» حيث تأخذ العقل بمدلوله ك«عقل جماعي» وتأخذ الأخلاق والقيم الأخلاقية بوصفها قيماً من أجل السياسة. بل حيث تحسب أن النظر إلى الأخلاق عبر الفرد هو من الموروث اليوناني الوافد لا من العربي الأصيل وحيث تختم بالقول إن الموروث الإسلامي في الأخلاق خلاصته: «المصلحة» أساس الأخلاق والسياسة، و«العمل الصالح» هو القيمة المركزية. لكن هذه الخلاصة لا يجدها الباحث قائمة في التداول في الموروث الإسلامي حيث يسود على السطح تلفيق يوناني وكسروي وصوفي فيصير المطلوب عندك: الكشف عن أصول الأخلاق وفصولها إضافة إلى المهام النقدية الأخرى التي لا بد من الاضطلاع بها على طريق إعادة بناء الفكر العربي وتجديده». تقول:«لم ينهض العرب والمسلمون بعد... النهضة المطلوبة». والسبب عندك أن المسلمين لم يدفنوا بعد «أباهم»: أردشير.
فتقول، وقد بدأت تزهق، أعرف أنك أصبحت خارج السياسة وأنه لا مجال لإقناعك بأن التفلسف اليوم لا ينفصل عن الموقف من الحاضر الواقع، وأن زمن التفكير الميتافيزيقي قد انقفل، وأننا بخاصة ليس بنا حاجة إلى التأمل للتأمل، وأمتنا هي على ما هي عليه.
فأقول: لكل نظرته إلى مكوّنات الحاضر، ولسنا هنا ليُقنع بعضنا بعضا. ولست، من جهتي على الأقل، بصدد تأسيس حزب فلسفي جديد، بل جلّ ما يطمح إليه بذل الكلام الآن هو الإيضاح والاستيضاح.
والمشكلة العالقة بيننا ألخصها بالخلاف على ضمير جمع المتكلم، فأنت تقول «نا» و«نحن» وتقصد العرب أو المسلمين أو الجنوب لا فرق.
(أراك تومئ برأسك علامة الموافقة) فأتابع: أما أنا فأحسب أن ال«نحن» في القول الفلسفي لا يمكن أن تعني سوى البشر أجمعين لأن لغة التفلسف هي لغة العقل واليونيفرسال، ولا شيء أقل من ذلك. وأن صلة المفرد بالكل يمكن أن تكون مباشرة، وأن التوسط الهيغلي عبر الجزئي ليس ضرورة لازبة بل مجرد وجهة نظر؛ وقد آن الأوان للخروج من الفلك الهيغلي ولنقض اعتبار العلاقة قوّامة على طرفيها. آن الأوان للانتباه إلى أن الكائن يقيم علاقات عدة ويكون قوّاما عليها.
فتبشّ قليلا وتأخذ الكلام بشبه اعتزاز لتقول:
لكنك أنت نفسك ما زلت تطرح وتبحث عن شروط «إمكان القول الفلسفي بالعربية اليوم». فترى نفسك مضطرا إلى التخصيص، وتؤكد، عن غير قصد، أنه لا يمكن العبور إلى العام من دون المرور بالخاص. لا يمكن أن تتفلسف من دون أن تتفلسف بلغة تاريخية بعينها.
فأقول: هذا صحيح؛ لكن، يمكن الوصول إلى العام من طرق متنوعة. ويمكن لأي واحد أن يسلك أي طريق يشاء، وسلوك الطريق متعلق بك لا بالطريق. فأن تتكلم لغة من اللغات أو تفكر فيها لا يغيّر في فئة دمك. وانهمامي بإمكان القول الفلسفي بالعربي لا يصدر عن أي نزوع قومي ولا يصدر عن الانهمام بتقديم خدمات مباشرة للأمة، بل هو بحث عن معان جديدة في خدمة التفلسف اليوم.
فيشبه أن تقول: إنها خدمة على أي حال.
ويدفعني قولك إلى الإضافة: بمناسبة الخدمة، ألا ترى أن الباحث فيك يستخدم المفكر الذي هو أنت، وأن المثقف والمناضل الذي هو أنت والذي هو هاجس كل مفكر عربي اليوم، أن المثقف هذا يستخدم الباحث والمفكر من ثمّ، ويعيّن لهما حدودهما والمجال؟ ألا ترى أن تلك هي تراجيدبا التفكير بالعربي اليوم؟ تراجيديا العقل الذي يعي أنه السيّد ويلزم نفسه معا بأن يصير خادما لا لسيّد بل لمجرّد موضوع قائم إزاءه أو موضوع عينه له سيد آخر ليس بعقل هو بالضرورة؟
لكن ما لك تغرورق الآن وتشجن؟ هل أحزنتك حملة الفقهاء التي لم تتوقف ضدك بسبب من آرائك في تاريخية جمع القرآن أم حملة بني جلدتك الأقربين لمغالاتك في عروبتك؟
فأنا أعلم أن المدرسيّين والمدرّسين وسائر المجلِّخين من نقادك لا يقوون عليك. بل إن مدرسيتهم وتجليخهم لا يقلِّلان من تضامني، ولا ينالان من كونك كنت أحد شروط إمكان القول بالعربي وإمكان التفكير بالعربي اليوم حيث لم تنفك ترشق حجارتك في بركهما الآسنة عسى أن يحصل الموج ويرتفع.
لأجل ذلك كله، أقول الآن: شكرا محمد عابد الجابري.

موسى وهبه

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...