13 مليار ليرة إنفاق السوريين على بطاقات الأعياد والأفراح سنوياً
سخر الماضي من وجهة نظر الحاضر، عندما تبسّمت أمّ خديجة، وعيناها تتلقفان بطاقات أفراح الزفاف التي تغطي الواجهة الزجاجية، ثمّ أردفت: «واحسرتاه».
للوهلة الأولى ظنّ مجيب صاحب المحل حسرتَها تعبيراً مجازياً عن حرمانها شرف تدوين اسمها في زمنها على بطاقة كهذه من قيمة الألف ليرة، إلا أنّ واقع الحال أشار إلى استغراب هذا الرعيل ممّا وصل إليه حال الإنسان في الهدر والاستهلاك العشوائي.
فاليوم تشير الأرقام إلى هدر المواطن السوري ملايين الليرات السورية على قطع كرتونية ورقية مصيرها بعد هنيهة التلف ومكبّات القمامة.
ومن المنطقي، عندما نتحدث عن واقع المداخيل، وضعف كتلة الأجور، وأنين مواطننا المسكين من موجة غلاء الأسعار وجشعها، أن نشير إلى إنفاقه غير المبرر في موقع آخر.. وهو إنفاق ليس مقصوراً على ذوي الدخل الممدود، وإنّما تكاد تتقاطع فيه جميع الشرائح، والمبرر النهائي لكلّ ذلك «البرستيج» الاجتماعي، وحبّ الظهور والتمظهر؟!.
وفق دراسة تقديرية لبعض خبراء الاقتصاد تبيّن أنّ السوريين ينفقون ما لايقل عن 13 مليار ليرة سنوياً على بطاقات مناسبات الأفراح والأعياد، الأمر الذي يحمل في جنباته ميزة الإيجاب والسلب، ففي الأولى تقف خلف هذه البطاقة صناعة كاملة متكاملة تستجرّ المواد الأولية المحلية من ورقٍ وكرتون، ومادة لحاء الخشب، وبعض أغراض الزينة، وخلافها، ممّا تحتاجه هذه الصناعة، أيضاً تستقطب عمالة إلى ورش العمل وصالات العرض والبيع وخلافها.. وفي الجانب الآخر يعمل أصحاب هذه الصناعة الخفيفة على تصدير منتجاتهم إلى دول عربية وغربية، وفعلاً استطاعت هذه الصناعة، لما تملكه من عنصر الجاذبية والجمال والإتقان والدقة في التصنيع والابتكار، تحقيق نموّ وتطور في مجال الإنتاج والتسويق.
ومع ذلك، وعلى خلفية ما تقدّم، ينظر العديد من المهتمين والباحثين إلى أنّ هذه البطاقات ما هي إلا نوع جديد من أنواع هدر المواطن السوري أموالَه دون طائل معنوي، بل الغاية فقط إشباع فضول «البرستيج» وحب الظهور، والباحثون، بذلك، لايقصدون مقاطعة هذه الصناعة، وعزوف المواطن عنها، بل قصدهم في ذلك تجاوز حالة الظهور الاجتماعي إلى الضرورات والإمكانات، واللافت أنّ هذه الظاهرة ليست مقصورة على ميسوري الحال، الذين أخذوا يتنافسون في حرق أموالهم، وبذخها على بطاقاتٍ وصلت قيمة تكلفتها الفردية إلى 1500 ليرة، بحسب الطلب، والرقم قابل للصعود والهبوط، حيث لا سقف للتكلفة.
بل هرع المواطن، من ذوي الدخل المهزوز، إلى البذخ والإنفاق تحت مبرر أنّها ليلته الوحيدة الفريدة النادرة في تاريخ حياته، وهي لن تتكرّر.. ليبدأ بعد نهاية هذه الليلية في العيش بقية حياته، وهو يدفع أقساط ديونه المتراكمة.. وهو بذلك فعلاً يجعل من هذه الليلة.. ليلته الفريدة التي لن ينساها طوال حياته؟!.
تتراوح أسعار هذه البطاقات بحسب الطلب، فمنها الشعبي، ويوصف بشبه الرديء والقبيح على مبدأ النسبة والتناسب بين الجودة والسعر، ومنها الوسط والجيد والممتاز، وكل صنف أو نوع له ثمنه.. حيث تبدأ الأسعار من 2 ليرة سورية، وتقفل عند 1000 ليرة، وتتجاوز هذا الرقم بحسب طلب الزبون، فالمصانع المحلية قادرة على تصميم وتنفيذ بطاقات تتجاوز قيمتها 5 آلاف ليرة سورية للبطاقة الواحدة، علماً بأنّ ـ بحسب قول أحد العاملين في تجارة بطاقات الأعياد والأفراح ـ «أكثر السوريين ميالون إلى البطاقات من قيمة 200 - 600 ليرة، ونادراً ما يشتري أحد بطاقة بأقلّ من 50 ليرة، وهناك من يطلب بطاقات خاصة جداً تنفّذ وتصمّم خصيصاً له، ولمرة واحدة، تتجاوز قيمتها 1500 للبطاقة الواحدة»..
ويضيف: «هناك ورش متخصصة في صناعة بطاقات موجهة إلى مختلف الشرائح.. تقابلها ورش تصنع خصيصاً للطبقات المخملية من ذوي الدخول القادرة القديرة.. وهناك بعض الورش التي تعمل بحسب الطلب، بمعنى بطاقة استثنائية لن يعاد تصميمها مرة ثانية، وورش أخرى مهتمّة بتصدير الخبرة السورية في هذا المجال إلى الأسواق الخارجية».
وخارج نطاق الحديث عن الموضوع، أردف صاحب المتجر بقوله: «لا تصدق أن من يدفع ألف ليرة، ثمناً للبطاقة، لا يغصّ وهو يبتلع لعابه، فهو يتوقف عند هذا الرقم، وفي الوقت ذاته يطلب بطاقة بهذا السعر، أما لماذا، فلأننا مازلنا نتعامل مع الحياة على أساس «البرستيج»، وأن فلاناً من العائلة الفلانية لن يكون أقل من غيره من العائلات، حيث تجتاح مجتمعنا حمّى الغيرة الاجتماعية التي تكلّست عليها عقولنا..
نائب رئيس جمعية حماية المستهلك، سمير الجاجة، يستعرض في مقدّمة حديثه مقطع أغنية «شروال جدك ياجدي»، الذي تحوّل اليوم إلى مثلٍ وحكمة وعبرة تُهزّ لها الرؤوس حسرة وحنيناً عند السؤال عن واقع الحال وما آلت إليه الأزمان، فيقول : «قديماً كان الناس يدعون بعضهم إلى حفلات الزفاف وأعياد الميلاد والمناسبات المختلفة بنصف كيلو من القهوة، أو بتقديم منشفة أو ما شابه.. وحقيقة كانت وسيلة الدعوة هذه ذات جدوى معنوية ومنفعة وفائدة لكلا الطرفين، فمن جانب كان الداعي يعبّر في هديته هذه عن تقديره لقيمة الشخص المدعو، ومن جانب آخر كان المدعو يستفيد من هذه الأشياء، بحيث لا يكون مصيرها سلّة المهملات، ولا تغدو ـ بكونها هدراً ـ حال وسائل الدعوات الآنية، ومن الجانب الاقتصادي، وإضافة إلى منفعة الأشياء سابقة الذكر، تعدّ أوفر مالياً على الداعي، قياساً اليوم بأسعار البطاقات وتكلفتها»..
ويضيف الجاجة: «سابقاً عندما تحوّل الناس إلى بطاقات الدعوة كانت الغاية التوفير المادي والتقليل قدر المستطاع من حجم النفقات التي يتكبدها العريس في شرائه كميات كبيرة من البن ومناشف الوجه والحمام.. ورويداً رويداً تطور الحال لتشير الأرقام إلى أنّ الإنفاق تضاعف في هذه الوسائل الجديدة، ولم يحقق المواطن وفره المطلوب.. بل، وعلى العكس زاد من حجم النفايات التي تحتاج إلى صناعات تدوير متطورة».
ويؤكد الجاجة: «الإنفاق قائم.. قائم ـ لا محالة ـ في هذه المناسبات، ولكن لا ضيم في أن نتخلى عن غرورنا الاجتماعي، وأن نتبادل كلّ ما يقدّم المنفعة فيما بيننا».
في دراسة تقديرية قام بها الباحث والخبير الاقتصادي هيثم ناصر، وانطوت في بعض نتائجها على أرقام تحاكي الواقع، يقول ناصر: «بحسب العينات العشوائية لمناسبات الأعراس والخطوبة وأعياد الميلاد، وغيرها مما يتطلب بطاقات دعوة، إضافة إلى المعدل الوسطي لعدد البطاقات المطلوبة.. خرجت الدراسة بنتيجة أنّ السوريين ينفقون ما يقرب من 13 مليار ليرة سورية سنوياً على قطع الكرتون والورق المقوى الملون، الذي يسمى «بطاقة دعوة»».
ويبين ناصر أنّ هذا الرقم لا يعدّ رقماً متواضعاً، عندما نعلم أنّ مصير هذه البطاقات الرمي في القمامة، وعدم جدوى الاستفادة منها مرة أخرى، ما يعني هدراً على جيب المواطن، وعلى الخزينة العامة، ويضيف ناصر: «لا شك في أنّ خلف هذه البطاقة، الصغيرة الحجم، والجملية الشكل والتصميم، صناعة كاملة بخبرات وطنية جيدة، وتسهم بشكل أو بآخر في استقطاب العمالة، وعليه دراستي لا تشكّل مطلقاً دعوة مباشرة أو غير مباشرة إلى إنهاء عمر هذه الصناعة، وإنما غايتي أن أبيّن ضرورة أن ترتقي هذه الصناعة إلى منتجات تحتفظ بعنصري دقة التصميم والجمال، وأن تضاف إليها إمكانية الاستفادة منها لاحقاً، بدلاً من إتلافها ورميها في القمامة.. أمّا كيف، فهذه مهمة الشركات التي تضطلع بعملية التصميم والتنفيذ».
200 - 600 هي الأسعار الأكثر رواجاً .. وبطاقاتها الأكثر مبيعاً
1500 وصلت تكلفة البطاقة الواحدة لبعض الزبائن والتي تسمى البطاقة الاستثنائية
لأن الحياة وجهات نظر.. أفكار وأذواق، نجد حكماً من له رأي آخر، بغضّ النظر عن كلّ ما تقدم، حيث يقول الخبير الاقتصادي سعد بساطة: «هي ليست مجرّد تبليغ دعـوة إلى عـشاء، فهي تبدأ أطول وأهمّ مرحلة في حياة العـروسين..نـُقـِش عـليها اسميهما، وتاريخ الحدث السعـيد، والمكان الذي اختاراه..إنـّها جزء مهم من الذكريات الثمينة، وما هي أحداث الحياة بعـد انقضائهـا ؟؟»
فهل سنبخل ببضعة قروش في تسجيل أحلى لحظات العـمر (لنكـُن واقعـيين.. بعـدها تبدأ الحياة الواقعـية ومشكلات المعـايشة اليومية)..
فلا ضير في أن نترك بضع كلمات مختارة بعـناية ومكتوبة عـلى بطاقة لنسرح بالذكريات قليلاً».
رياض إبراهيم أحمد
المصدر: بلدنا
إضافة تعليق جديد