حديثٌ مع "متصوّف نَقشْبَنْدِيّ" عن "الذكر" و"رابطة الموت" والتصوّف
انهم رجال القلوب الهاتفة "الله الله الله الله..."، مئات المرات، ألوف المرات، من دون كلل، بشوق، بنقش جميل. "من اجمل الامور ان يصل الانسان الى حال يصير فيها يسمع قلبه، باذنيه، وهو يقول "الله، الله، الله..."، يكشف رئيس محكمة بعبدا الشرعية السنيّة الشيخ القاضي احمد الكردي عن بعض لحظات التلذذ الحميمة التي يعيشها خلال الصلاة والتأمل. هو متصوف نقشبندي، عرف النَّقشْبَنْدِيَّة منذ شبابه، 40 عاما من البحث المتواصل عن الله والترقي اليه.
تبدأ "النقشبندية حيث تنتهي بقية الطرق (الصوفية) الاخرى(4)"، يقول محمد بهاء الدين النقشبندي الاويسي البخاري، المعروف بـ"شاه نقشبند" (1317-1388)، عن طريقة التصوف هذه التي تحمل اسمه وتنسب اليه. فهو شيخها بامتياز. وبعد اكثر من 600 عام، لا تزال تشد مئات المسلمين، وتنتشر في معظم الدول العربية، خصوصا في العراق ومصر وبلاد الشام، وايضا في بلاد القوقاز وبخارى وسمرقند وتركمان صحراء في الاتحاد السوفياتي وشبه القارة الهندية سابقا.
"طريق الرجال القادرين"
في لبنان، تزدهر النقشبندية ايضا، اذ تجد لها مريدين كثرا يجتمعون معًا ويصلّون ويتأملون، محافظين على تقليد آبائهم المتصوفين الذين نقلوا اليهم هذه الطريقة. وفي الواقع، يعتبر بعضهم ان الخليفة الراشدي الاول ابي بكر الصديق (توفي العام 632 م) المؤسس الاول للنقشبندية، وبذلك يرجعها الى النبي محمد. وفي وقت تقول مراجع ان النقشبندية كان اسمها "خواجكان"، نسبة الى مؤسسها الشيخ يوسف الحمداني وخليفته بالتعين الروحي الشيخ عبد الخالق خوجداني (او الغجدواني والغوجـــــدلاني في بعـض الكتـب)(2) و(3)، تبين اخرى(1) ان اربع شخصيات رئيسة اغنت هذه الطريقة الصوفية بمبادئ وأسس ميزتها عن طرق صوفية اخرى، وهم سلمان الفارسي، ابو يزيد طيفور البسطامي، عبد الخالق الغجدواني، وشاه نقشبند الذي حملت "النقشبندية" اسمه. ومعناه: نقش القلب بالذكر وبقاؤه في روح الصوفي.
رحلة "نقش القلب بالذكر" التي بدأها الشيخ الكردي باكرا "كانت سهلة. لكن لا بد من طلعات ونزلات. غير ان ربنا هو الذي يسهل الامر للإنسان، وخصوصاً اذا اراد هذا الانسان الصح والخير"، يقول في حديث الى "النهار". في الصوفية النقشبندية، يحلو له ان يتكلم على اهمية التصوف "التصوف يتطلب همّة، لذلك يسمّى طريق الرجال، اي الرجال القادرين على تحمل هذه المسؤولية".
الطريق واضحة. فالصوفية مطلبها الاسمى "التمتع برؤية الله في الدار الآخرة"، وفق البسطامي. كذلك، "تعطي المرء ان يكون منسجما مع ايمانه"، يشرح الشيخ الكردي قائلا: "يمكن ان يكون المرء مسلماً ويصوم، لكن في داخله هناك شيء أسود. والتصوف يسمح بازالة هذا السواد ايضا، إذ يصير لديه انسجام ما بين الطاعة والعبادة، وبالتالي اشراق. فالاشراق الروحي مهم جدا. والمرء يمكن ايضا ان يصلي، لكن قد يكون عقله بعيدا. وكم تكون الصلاة جميلة، عندما يكون عقل المرء وروحه في صلاته. التصوف اذاً يساعد في تحقيق الانسجام الروحي مع الطاعات والعبادات، فيكون الانسان طائعا لله بكل حواسه ومشاعره".
"عبادة متواصلة لله"
يعتبر النقشبنديون طريقتهم "الاقرب والاسهل لبلوغ درجات التوحيد. فهي طريقة الصحابة على أصلها من دون زيادة او نقصان، وهي تدعو الى العبودية التامة ظاهراً وباطنا، مع الالتزام التام لآداب السنّة النبوية"(1). ويقول شاه نقشبند: "طريقنا أقرب الطرق الى الله تعالى". وهي مبنية على العمل بـ"11 كلمة وقاعدة صوفية" أي "اصولها الاولى"، ثمان منها مأثورة عن الغجدواني، وثلاث عن شاه نقشبند.
ووفق مراجع(2)، فان "الغجدواني هو الذي نظم الطريقة وارسى الذكر قواماً لها، معلنا رفضه السماع، ومشيراً الى اعتماد الذكر الخفي. وقال ان غاية الذكر هي ان يبقى القلب مدركا وواعيا الحق، وان له 8 حقائق، هي الذكر باللسان والقلب، كبح النفس، اليقظة، التذكر، الوعي عند التنفس، الشهادة، الانتباه الى القدم، العزلة. وقد اضاف اليها شاه نقشبند ثلاثاً اخرى هي الوقوف الزماني، اي التركيز في تمضية الوقت في ذكر الله، الوقوف العددي، اي مراقبة ان يكون الذكر بالقلب ملازما لحاجات السالك القلبية، والوقوف القلبي، اي ان يكون اسم الله منقوشا بقلب السالك للتأكد من ان ليس للقلب هدف غير الله".
كل هذا يجعل الذكر اساس النقشبندية وركنها القوي، بحيث يقال انها "دوام العبودية لله تعالى ظاهرا او باطنا، بكمال التزام السنة... مع دوام الحضور مع الله وبالله على طريق الذهول والاستهلاك، ولها اصلان هما اتباع النبي ومحبة الشيخ الكامل" ("الطريق الصوفي" – يوسف محمد طه زيدان)، و"ان لا احد يصل الى الله الا بدوام الذكر". وبذلك يسعى النقشبنديون الى هذه العبودية الدائمة، اينما وجدوا، وفي اي ظرف كانوا.
"فالصوفية (بالطريقة النقشبندية) لا تعني اطلاقا العزلة عن المجتمع، لا بل تعني المخالطة فيه، لان اي طريقة او منهج يخالف منهج الانبياء والرسل لا يكون صحيحا"، يقول الكردي. و"على المريد ان يعتبر ان التصوف خاص، شخصي، لا يمنعه عن عمله او واجباته والحقوق التي حمّله اياها الله لنفسه او اهل بيته. فالتصوف الصحيح هو ان يعطي الانسان كل ذي حق حقه، فلا يهمل بحجة العبادة كل شيء، لان ذلك مخالف للمنهج".
وكاي قاض او مسؤول، يتابع الشيخ الكردي مهماته في المحكمة، يتلقى مراجعات، يهتم بشؤون الناس، يستقبل زواراً، يجيب عن الاتصالات الهاتفية... كيف يوفق ما بين متطلبات التصوف والعمل؟ يجيب: "على الانسان ان ينظم وقته. وبمقدار ما يدرك اهمية الوقت، لا يعود شيء يصعب عليه... الله خلقنا للعبادة، وفي الوقت نفسه حمّلنا مسؤوليات تجاه اهلنا وجيراننا، أوطاننا وأولادنا... وعندما نقوم بالواجب تجاههم، فهذه عبادة. فالصلاة ليست وحدها عبادة، انما ايضا التعامل الحسن مع الآخرين عبادة. وعندما أحكم ما بين اثنين وأرى ان حكمي عادل من دون مداراة او ممالأة، فهذه عبادة ايضا. حياتي اذاً طبيعية كحياة اي انسان، لست منعزلا، واعيش عبادة متواصلة لله، ولدينا اوقات خاصة بالذكر".
"سعادة من أعظم السعادات"
عند النقشبنديين، الذكر خاص وعام. الاول يحدد له الشخص الوقت المناسب له. "احب ان اتلوه قبل النوم، اذ في هذا الوقت يمكن المرء ان يصفي اموره، فيقيم جردة حساب على ما جرى معه خلال النهار. وهناك ايضا وقت جميل جدا آخر هو بعد صلاة الفجر. كذلك هناك اوقات كثيرة يمكن ان يكون فيها الانسان مع الله وحده، من دون ان يعرف أحد". ويشدد على ان "من الركائز الاساسية للذكر النقشبندي، الذكر القلبي لكلمة "الله"، والصلة الروحية (الرابطة) التي تجعل التلميذ مع شيخه روحيا"، حتى لو كان الاول في المشرق والآخر في المغرب، والقيام برابطة الموت التي تشكل احد عوامل التوبة لله".
وضع مشايخ النقشبندية آدابا للذكر للمريدين اذا كانوا على انفراد، منها "الوضوء، ان يقوم برابطة الموت باستحضار النزع للروح ورؤية ملك الموت، ثم التغسيل والتكفين والصلاة عليه، ثم الدفن وسؤال القبر عن العقيدة الايمانية والرسول-الاستغفار- الصلاة على النبي محمد- قراءة الفاتحة والاخلاص والمعوذتين- ان يتصور في قلبه معنى اسم الجلالة، اي الله- قول القلب "الله" 100 مرة...". وفي الذكر العام، يجتمع النقشبديون معًا حول شيخ الحلقة، وفقا لآداب خاصة ايضا تسمى "ختم الخواجكان"، (يعني ذكر المشايخ)، وهو ما يميز النقشبندية عن غيرها من الطرق. ومن هذه الآداب، "الوضوء، خلو المكان من الضجيج والتشويش او الصياح او حركات رقص، الاستغفار، رابطة الموت، اغماض العينين خلال الختم والذكر بالقلب...(1)".
لحظات "سعادة" يتلذذ بها الهاتفون بالله. "هناك شعور عام بعد الذكر العام، بأن كل همومنا وأحزاننا ومشكلاتنا انتهت، كأننا اخفاء، "طائرون"، ونحس ايضا بان لدينا زوادة تكفينا من اسبوع الى آخر، او من المجلس الى المجلس"، يقول الشيخ الكردي، مشددا على معنى رابطة الموت وأبعادها الروحية. "فاذا كانت للانسان هذه الرابطة، لا يعود يشعر بالخوف من الموت. طبيعي هذا الخوف، لكن الخوف الزائد مذموم. واذا كان الخوف موجودا فيَضعُف، اذ عندما يعرف الانسان ان الموت سبب للقاء الله، وانه ترك للدنيا التي هي كلها هموم وأسقام، لا يعود يخافه، ويصير يحب ما هو بعده، والذي هو اهم من الحياة. فالحياة ممر وليست مقراً. وعلى الانسان ان يعرف ان هذه الحياة ليست دائمة، وانه سيذهب الى الحياة الاخرى التي لا موت فيها".
بعض اللحظات "القوية" يعيشها النبقشبنديون في رابطة الموت وغيرها ايضا. "مرة من زمان، كنت مستغرقا في التأمل، فكأنني خرجت من هذه الدنيا، ودخلت القبر بالحقيقة. وفي تلك الحال التي كنت فيها، انتفض جسمي بغرابة، مرتعشاً. لكن خلال هذه الحركة اللاإرادية، كنت في سعادة من اعظم السعادات. لا يمكن ان تتصور مقدار سعادتي في تلك اللحظة، الى درجة انني لم ارغب في التكلم عن الامر مع احد"، يكشف الشيخ الكردي عن قليل مما يختبره في حياة التصوف.
الى جانب الذكر، يشدد ايضا النقشبنديون على "المراقبة"، باعتبارها "طريقا مستقلا للوصول الى الحضرة الالهية، وبالمداومة عليها تحصل السيطرة على الخواطر. فهي تتضمن ملازمة القلب معنى اسم الذات الالهية، بحيث يحرص مشايخ النقشبندية على الزام مريدي طريقتهم ذكر لفظ الله نحو 5 آلاف مرة على الاقل في اليوم، باللسان والقلب"(1).
"الغرور" يجد الشيخ الكردي انه من التحديات التي قد تواجه اي متصوف "مهما علا شأن الانسان، يجب ان يرى نفسه انه اقل من الناس". واذ يدعو "كل مسلم الى عيش التصوف"، يشدد على اهمية دور المربّي في مسيرة "مريد التصوف الذي عليه ان يبحث عن الشيخ الذي يشعره بانه ابن له. وهذا الامر يتطلب وقتا طويلا احيانا. واذا لم يجده، فهناك ما يجعله يصل الى القرب من الله، وهو المواظبة على الصلاة على النبي، الف او الفي مرة يومياً. واذا حافظ عليها، فالله يحفظه من الشرور. واذا كان هناك مرشد في زمانه، فقد يجمعه به".
(1) "الطريقة النقشبندية وأعلامها" – الدكتور محمد أحمد درنيقة – جرّوس برس.
(2) "التصوف الاسلامي تاريخ – عقائد – طرق – اعلام" لسليمان سليم علم الدين – دار نوفل.
(3) الفرق الصوفية في الاسلام – سبنسر ترمنجهام –دار النهضة العربية.
(4) "Le Soufisme Voie Mystique de L’islam" – Thierry Zarcone-Decouvertes Gallimard.
هالة حمصي
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد