نعيـش اليـوم عصـر الانتحـار الفنـي
لا يبقى من تاريخ الشعوب بعد زوالها أثراً إلا حضاراتها المتمثلة بكتاباتها وفنونها من رسم ونحت او موسيقى ومن جمال هندسي رائع كهندسة الفراعنة في مصر والامبراطورية الرومانية التي تركت آثاراً عندنا، مهدية جوبيتر اله الشمس» أكبر حجارتها واضخم اعمدتها كأنها بنيت بقوة ساحر عظيم، كما نرى حضارة شعوب المايا، وما تركه العرب في الأندلس من روائع هندسية تفوق الروعة والجمال ومنها «قصر الحمراء» الرائع. وضريح «تاج محل» في الهند وعجائب الدنيا التي لا تعد ولا تحصى.
كل هذه الفنون مجتمعة تختصر بكلمة واحدة «الحضارة» الهادفة إلى خير البشرية ورفعتها.
في رسالة كتبها بيتهوفن إلى صديقه يصف له فيها الموسيقى قائلا: «هنالك يا صديقي وجهان من وجوه الموسيقى، الوجه الأول هو الذي يحرك في الإنسان أسمى أنواع المشاعر والوجه الثاني لها هو الذي يحرك فيه أحط أنواعها» وكتب عن الموسيقى قائلا له أيضاً «إن ما ينبع من القلب يجب ان يعود إلى القلب» وأيضاً «إن الفن شيء خطير جداً يا صديقي ولكن صدقني إن الحياة مليئة بالسعادة».
هذه الكلمات كتبت بيد بيتهوفن منذ مئتي عام محولاً حبرها إلى مشاعر صادقة ومحولا الحبر فيما بعد إلى ألحان خالدة.
واني وأنا اسطّر كلماتي هذه اسمع ألحان، عظيم آخر، من عظماء الهند ما زال معاصراً لنا اسمه «رافي شنجر» هذا الرجل الذي اختصر الهند كلها بآلة موسيقية عمرها سبعمئة عام تدعى «الستار» يرتجل منها جملاً موسيقية وألحاناً تنساب وكأنها «نهر كبير من نور» يمتزج صداها بفلسفة الهند في الوجود، هذه الفلسفة العبقة برائحة البخور وبعدد الأيام التي يؤلف تعدادها تاريخ هذا الشعب العظيم، ألحانه «المتدحرجة قطعاً من ألماس صغيرة» «تنبع من القلب لتعود إلى القلب» رافعة الإنسان إلى «نرفانا نفسه».
ولقد اكتشف العلماء مؤخراً ان للدماغ البشري مرتكزان: الاول للسمع والثاني «لحضارة السمع» كما التفكير والتفكر هما مركزان لحضارة النظر، وللحنجرة ايضا مركزان واحد للصوت الذي يخرج منه الكلام وآخر لحضارة الصوت المتمثلة «بالغناء» وهذا ما ميزنا به الله عن سائر المخلوقات.
عصر الانحطاط
نحن اليوم نعيش في عصر الانحطاط الخلقي الموسيقي السينمائي المسرحي الذي لا مثيل له عندنا وفي العالم العربي، وكأننا قد فقدنا الذاكرة «أين سيد درويش الذي أغنى الموسيقى العربية بأغان وألحان عربية أصيلة تعكس حقيقة الحياة وترفّ لها أجنحة القلب حين تدخل إليه، فكان بحق سيد الموسيقى العربية ثم اين عبد الوهاب الذي وهبه الله صوتا وألحانا خالدة «كالنهر الخالد والجندول وكليوباترا والكرنك، واعمال كثيرة خالدة رفعت به وبفنه الى مصاف العظماء فكان هرماً من أهرامات الموسيقى العربية».
هذا التردي الذي نعيش مأساته اليوم «ألحاناً وغناء وكلمات» مردّه إلى هؤلاء الذين يرون في «الفنانين منهم والفنانات والمغنين منهم والمغنيات» ينابيع من ذهب، وهم يعيشون على ضفافها ويضعون مياه الذهب هذه في زجاجات يبيعونها للشاربين الذين يصابون بعد ذلك «بداء التردي الموسيقي الحاد» الذي لا شفاء له ألا إذا اصبنا جميعا بداء الصمم.
وفي كل يوم تخرج هذه الزجاجات الصغيرة الفضية صوتا وصورة لتعري الإنسان مما تبقى فيه من إنسانية محركة «أحط أنواح المشاعر» لقد فقدنا هويتنا الموسيقية العربية الاصيلة «كفقداننا للأندلس» بتقليدنا اليومي المستمر لهذا الغرب «المفلس اخلاقيا» داخلين في آتون «الانتاج والاستهلاك» فيصبح الفن صناعة والموسيقى صناعة ومدينة لصناعة السينما والمسلسلات المجرمة المتسلسلة!
وإذا بنا نرى أنفسنا وقد هرعنا الى اقرب صحيفة لنا لنضع اعلانا في صفحتها باحثين في هذا الاعلان عن ذاتنا الضائعة نقول فيه «خرجت ذاتنا العربية الاصيلة من منزل عائلتها ولم تعد، الرجاء ممن يعرف عنها شيئا او رآها ان يتصل بنا لنعيدها الى اصالتها» وله مكافئة.
انه الانتحار الجماعي فنيا واخلاقيا وسياسيا واقتصاديا وفكرياً، لم تعد المعادلة «أنا أفكر إذا أنا موجود» كما فهم سقراط بل اصبحت اليوم «أنا استهلك إذا أنا موجود» او «أنا مستهلك إذا أنت موجود» او «أنا مستهلك إذا انتم موجودون بألف خير». لم يعد السؤال الاساسي «لماذا أحيا؟» بل أصبح السؤال المخيف «كيف نحيا ونستمر» جاعليننا لا نحيا الا بالخبز فقط لا غير.
أما «الانترنت» فهو كسوق عكاظ يباع من خلال كل شيء، من رقيق ابيض ناعم الملمس إلى رقيق اسود كليالي الخليج إلى رقيق مقنع بألف قناع إلى ملون بألوان قوس قذح تباع فيه لوحات «رسمت بزيت» وتباع «بزيت النفط الاسود» الجميع رجالاً ونساءً وأطفالهم يهرعون اليوم إلى «دبي» لاهثين ففيها «كلمة السر» حتى متحف اللوفر الشهير في باريس سيفتتح فرعا ثانيا له هنا في دبي وكأني به قد اصبح «كشركة أحذية شهيرة» لها فروع في جميع انحاء العالم؟ وهل هذا المتحف العريق هو ملك لفرنسا لتصنع به ما تشاء ام هو ملك للإنسانية جمعاء؟ سؤال على منظمة اليونيسكو الاجابة عليه! أما فيما يتعلق بالرقص الفني «كالباليه» الذي هو من ارقى انواع الرقص، فلقد تثنى لي ان اشاهد في باريس، في السبعينيات عرضا خاصا لراقص الباليه العالمي «نوروييف» أذكره في هذا العرض الذي لن أنساه واتذكر جسده النحيل الذي كان يتمايل في هدوء وإجلال وثياب الباليه البيضاء الأنيقة مع زميلته في الرقص، كانا يتمايلان راسمان في الهواء بأيديهما وأقدامهما النحيلتان قصيدة جميلة، وبصمت كبير يحرّم فيه الصمت وبحركات راقصة مدروسة بقدم واحدة ويديه ينعدم فيها فجأة قانون الجاذبية وتنجذب إليه وهو يسير على الهواء وفي الهواء كريشة بيضاء تحملها الرياح وحوار لا ينتهي بينه وبين زميلته الموهوبة في رقص كأنه «حوار الفراشات مع النور وحوله»، حينئذ تشعر بأنك في حضرة راقص كبير، ويلف الصمت القاعة وتسمع دقات قلبك لاول مرة، وتروح العيون ناظرة ومحدقة إلى هذا الشاب الذي يعرف سر الحركة في الهواء ويعرف سر الحركة في الحركة وهو يلتف ويروح ويجيء. ثم ينتهي العرض بصوت تصفيق حاد وتخرج من المسرح إلى الهواء البارد في رئتيك، وقلبك الساخن مفعم بأسمى انواع المشاعر مكونا في نفسك هذا الفنان الكبير فكرة سامية عن «الإنسان» وعن فن الباليه الراقي الذي يجب ان يكون هكذا.
ميليشيا راقصة
أما عندنا فإن «ميليشيا راقصة» مكونة من ثلاثين او اربعين رجلا وامرأة يندفعون إلى المسرح داخلين وممتشقين في أيديهم سيوفا فضية اللون ممسكون بها بقوة ومعلنين فيها الحرب على الهواء يقطعونه يمينا ويسارا في مجيء ورواح مهددين متوعدين، وضاربين بأقدامهم خشبة المسرح الصامد المسكين وكأن لهم فيه ثأراً قديماً وحقداً دفيناً ترافقهم في تجوالهم هذا صنّاجات وموسيقى وضجيج وصراخ وكلمات تنبعث من أفواههم مصاحبة هذا الضجيج المفتعل، وثياب كثيرة كثيرة ملونة بألف لون ولون، ويستيقظ غبار المسرح من سباته مرعوبا وهو ينظر «ماذا يجري؟ ألا يدعونني أنام بسلام، ضجيج وصراخ وكلام بكلام وكل عام وأنتم بخير، قد يكون ذلك فنا وقد يكون هذا رقصا ومسرحا تسرح فيه الكلمات كما تشاء، لست ادري فأنا لا افهم «إلا في فن الرقص الراقي» ولا أرى في المسرح إلا «شكسبير» الذي فضّ الشراكة وانفصل عن شركائه. «ومن دخان السماء كما هو معروف في علم الفلك تولد النجوم» أما عندنا فمن دخان سجائر «المنتجين والمنتجات، الأحياء منهم والأموات» التي تحذر وزارة الصحة من مضار تدخينها، تولد كل يوم نجمة غناء جديدة ويولد بالتزامن معها نجم غناء جديد.
صحيح انه عندنا جامعات ايضا نفخر بها، ولكن عندنا ايضا ويا للاسف «اكاديميات» يدخل إليها شباب وشابات قانطين من العلم ومن المستقبل مضيّعين بين جدرانها أوقاتهم الثمينة التي لا تعوض، حالمين واهمين بأنهم سيصبحون نجوما او كواكب او مذنبات.
نريد ان نعيش في مجتمع حضاري فيه شباب وشابات يحملون شهادات عليا في جامعاتنا الكبرى المحترمة، في جميع العلوم والفنون «ليكبر بهم وطنهم» مجتمع لا تنزلق فيه إلى «مصيدة العولمة» متحولين من مجتمع «ثقافي حضاري» إلى مجتمع استهلاكي فارغ من القيم العليا التي كانت موجودة هنا فأرضنا أرض أنبياء ورسل، فلا ننزلق كما أنزلق الغرب «الذي خرج، ولم يعد يعترف ويا للاسف الشديد إلا بنظرية «فائدة الربح المادي» كقيمة مضافة عليا، ضاربا بعرض الحائط قيمه العليا محاربا كل من يقف في وجهه جاعلا نصب عينيه هدفا واحدا لا يحيد عنه قيد انملة مدافعا بأي ثمن عن هذا الهدف «ولو حربا» الذي اصبح صنما و»إلها جديدا من آلهة العولمة في عالمنا المعاصر اسمه «الريح المتوحش» الذي تسجد له جميع بنوك الأرض».
كرة قدم عمياء
هذه الأرض التي لم يعد للإنسان في مساحاتها مساحة لإنسانيته ولا موقع قدم، بل «كرة قدم» عمياء تتقاذفها يمينا ويسارا فرق مؤمنة بشدة بديكتاتورية «الفوز والخسارة» العاكسة لهذا المجتمع الرأسمالي المخيف الذي تدمر همجية الإنسان فيصبح «مُستهلِكا او مستهلكا« «طاحنا او مطحونا» بمطحنة العولمة التي ولدت من رحم الرأسمالية العالمية البغيضة «مبدلة اسماء ولادتنا الاولى بأرقام لولادتنا الثانية» لنعود يا صديقي إلى إنسانيتنا التي «خرجت ولم تعد» والتي فقدناها وفقدتنا، ولنعود إلى ذاتنا التي عاشت في القرن الثامن عشر حيث ولد فيه هذا الإنسان العبقري العظيم إلى عصر الرومانسية باحثين في رومانسيته عن هذه الذات الإنسانية المفقودة لنجدها في ألحانه الخالدة التي خرجت من قلبه لتستقر في قلوبنا فتكون الدواء الشافي لها، والتي لا «نسعد» بسماعها في بلادنا إلا إذا اتشحت هذه الألحان بالسواد حزناً على فقيد غالي «قد ذهب» لكبير غالي لم يمت، سطور ألحانه من «ذهب» اسمه «بيتهوفن».
عاصم ستيتيه
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد