دستويفسكي وتجربة السجن: الإبداع رهين المعاناة والمكابدة
هم على حق أولئك الذين يقولون بأن قراءة أعمال الكاتب الروسي العظيم فيدور دستويفسكي ضرورية في كل زمان ومكان لأنها تضيء الجوانب المعتمة في الحياة البشرية، وتساعدنا على مواجهة الكوابيس الوجودية المرعبة.
وكان دستويفسكي المولود عام 1821، قد قرأ في سنوات شبابه الأولى أعمال العظماء من الكتاب والشعراء من أمثال غوته وهوغو وباسكال وشكسبير، وأيضا شيللر وهوميروس وراسين وكورناي. وبعد أن أمضى بضع سنوات في الحياة العسكرية كمساعد لملازم اول، استقال من عمله وذلك عام 1846 مقررا العيش من قلمه. وفي هذه الفترة.
كتب "المساكين" وبعض القصص الأخرى المستوحاة من سانت بطرسبورغ، تلك المدينة "الأكثر تربصا بالانسان على الارض" كما كان يقول. إلى جانب ذلك أظهر تعاطفا مع الحركات الثورية، الراديكالية منها بالخصوص، والتي كانت تنشط في روسيا في ذلك الوقت مطالبة بحرية التعبير والرأي والصحافة، وتحرير الفلاحين الروس من الرق، وأحداث اصلاحات جذرية في مجال القضاء.
وفي ربيع عام 1849 قرأ الرسالة الشهيرة التي كتبها الناقد التقدمي بيلينسكي منتقدا فيها غوغول، ومتهما إياه بـ"مناصرة النظام القيصري المطلق". وبسبب نشاطاته الثورية، أوقف فيدور دستويفسكي، ثم اقتيد الى السجن ليوضع في زنزانة منفردة، مكث فيها ثمانية أشهر.
وللاجابة عن اسئلة المحققين كتب رسالة اعترف فيها بأنه قرأ رسالة بيلينسكي التي كان النظام القيصري قد وصفها بـ"الإجرامية". كما اعترف أيضا بأنه قرأ أعمال الاشتراكي الطوباوي فورييه، وأعجب بأفكاره لأنه لم يجد فيها "رائحة للكراهية". غير أن رسالة الاعتراف الصريح لم تجد نفعا إذ اصدرت المحكمة العسكرية حكما بالاعدام على دستويفسكي. غير أن القدر كان بالمرصاد لذلك الحكم الذي كان سيحرم الانسانية برمتها من كاتب عظيم.
ففي اللحظات التي كان صاحب "الجريمة والعقاب" في ما بعد، يترقب تنفيذ الحكم معصوب العينين أمام جنود كانوا يستعدون لتصويب بنادقهم تجاه صدره، جاء أحد الضباط راكضا ليعلن أن القيصر أبطل حكم الاعدام وعوّضه بحكم بثمانية أعوام في سجون سيبيريا الرهيبة، ومبتهجا بذلك كتب دستويفسكي إلى اخيه يقول: "ها نحن نرى الشمس أخيرا!".
وهي جملة قالها فيكتور هوغو في نص له حمل عنوان: "اليوم الأخير لمحكوم". وعندما جاء أخوه ليودعه قبل أن يقاد إلى معسكرات سيبيريا، قال له: "أنت تعرفني.. فأنا لا أنزل إلى القبر.. وفي المعسكر ليس هناك وحوش ضارية، وإنما أناس قد يكونون أكثر مني شرفا واعتزازا بانسانيتهم..وقد يكون هناك ما يمكن أن يكون مادة للكتابة".
كان عام 1849 يمضي إلى نهايته مثقلا بالثلوج، لما انطلقت قافلة المحكومين إلى سيبيريا. وكان دستويفسكي بينهم مقيّد الساقين بالسلاسل. وقد استمرت الرحلة المضنية إلى هناك قرابة الشهر.
وفي المعتقل الرهيب سوف يعيش دستويفسكي تجربة مريرة سوف تظل راسخة في ذاكرته حتى النهاية. وسوف تكون هذه التجربة بكل عذاباتها وجراحها وأوجاعها حاضرة في مجمل أعماله الروائية الكبيرة، وبالخصوص في "ذكريات بيت الموتى". وفي رسالة بعث بها إلى أخيه بتاريخ 30 جانفي 1854،
تحدث عن الحياة الصعبة في المعسكر حيث يفرض الاختلاط بين المحكومين بقطع النظر عن مراتبهم الثقافية والاجتماعية. وهو يسمي هذا الاختلاط بـ"الشيوعية الاجبارية". كما يتحدث عن الكراهية التي يكنّها المحكومون الفقراء للمحكومين النبلاء. مع ذلك هو لا يتردّد في الاشارة إلى أن هناك محكومين يتحلون بأخلاق عالية، وهم "أقوياء، ورابطو الجأش" فلكأن هناك "ذهبا تحت اللّحى".
ولأن القيصر الكسندر الثاني الذي لقبه الروس بـ"المحرّر" أصدر عفوا بشأنه، فإن دستويفسكي لم يمض في معسكر سيبيريا سوى خمسة أعوام. وبعد إطلاق سراحه، كتب "ذكريات بيت الموتى" الذي سوف يكون أول كتاب يؤلفه روسي عن جحيم معسكرات الاعتقال السيبيرية مستبقا في ذلك الكتاب الذين سوف يكتبون في ما بعد شهادات مرعبة عن هذه المعتقلات في الحقبة الشيوعية.
وفي ظل حكم ستالين بالخصوص، مثلما فعل شالاموف وسولجنتسين. وفي هذا الكتاب وصف دقيق لحياة المحكومين اليومية، وللعذابات والأحكام القاسية التي يتعرضون لها في كل لحظة وساعة، وفي الليل كما في النهار.
وأقظع العقوبات التي تسلط عليهم هي تلك التي تحرمهم من أدنى درجات الحرية. ورغم أن الأحداث والوقائع التي يتطرق إليها دستويفسكي تمتد إلى أشهر وسنوات طويلة، فإننا نعيشها في الكتاب كما لو أنها تحدث في يوم واحد. يوم طويل، بارد، قاتم، مفعم بالعذاب والألم والدموع والقسوة.
ونحن نحس أن الزمن يدور في الفراغ، وفي فضاء مغلق تماما. وأما المحكومون فيدورون دائما في حلقة مفرغة تماما مثل المساجين في لوحة فان كوخ الشهيرة. ولعل دستويفسكي يرغب في أن يشعرنا بأن أولئك المحكومين الذين كان يتقاسم معهم العذاب اليومي، هم صورة للانسانية المعذبة.
ويكتب دستويفسكي قائلا: "الخبز لا يعني شيئا. هم "أي المحكومون"، يأكلون الخبز لكي يعيشوا، غير أنهم لا يمتلكون الحياة. ما هو جوهري، وأساسي وحقيقي، ومهم، هذا ما هو ناقص. والمحكوم يعلم جيدا أنه لن يحصل عليه أبدا.. حاولوا الشيء التالي: ابنوا قصرا. املأوه بالمرمر، وباللوحات وبالذهب، وبعصافير الجنة، وبالحدائق المعلقة، وبكل ما يمكن من الأشياء، ثم ادخلوه. وربما لن تشعروا أبدا بالرغبة في الخروج منه. وربما لن تخرجوا منه البتة.
فكل شيء فيه! ثم فجأة، يحاط قصركم بحبال. ويقال لكم: "كل هذا لكم.. تمتعوا به بحسب شهواتكم وأهوائكم. لكن ممنوع أن تخطوا خطوة واحدة خارجه!". وكونوا على يقين عندئذ أنكم سوف تريدون ترك تلك الجنة والقفز من الجدار. بل أكثر من ذلك: كل ذلك الترف، وكل تلك النعمة، وكل تلك السعادة، وكل هذا سوف لن تكون له سوى نتيجة واحدة وهي مضاعفة آلامكم وأوجاعكم، نعم.. ذلك أن هناك شيئا واحدا ليس متوفرا، ألا وهو الهواء النقي، هواء الحرية.. الحرية الغالية العزيزة!".
ومعلقا على هذه الفقرة، كتب أحد النقاد يقول: "إن صورة القصر الذي من ذهب ومن مرمر تجسد بطريقة مفارقة الفكرة المهمة للغاية لدى الروائي دستويفسكي والمتمثلة في أن الرفاهية "التقدم المادي والسياسي" ليس غير وهم وألم إذا ما كان يتوجب علينا أن نضحي بحريتنا من أجل الحصول عليه. إن هذا السجن الذهبي هو الشكل الجنيني ليطوبيات أكثر اتساعا، والتي سوف يعرّيها دستويفسكي ويفضحها". وكما سبق وأن ذكرنا فإن دستويفسكي بدأ حياته اشتراكيا مثاليا.
غير أنه سوف يكتشف شيئا فشيئا أنه كان واهما، وأن التقدم المادي الذي تبشر به الاشتراكية، هو في الحقيقة "كذبة كبيرة" الهدف الأساسي منها هو خداع الناس وتضليلهم.
وعقب عودته عام 1863، من رحلة إلى أوروبا، نشر دستويفسكي في احدى الصحف مقالا حمل عنوان: "ملاحظات الشتاء على مشاعر الصيف"، وفيه كتب يقول: "نحن نؤمّن كل شيء للانسان، ونعده بتوفير الطعام، والشراب، والعمل ومقابل ذلك نحن نطلب منه أن يكون كل جزء من حريته الشخصية في خدمة المصلحة العامة. لا. لا يريد أن يعيش الانسان بهذا الشرط "..". وبغباء وحماقة هو يشعر دائما بأن هذا هو السجن وأن العيش بحسب ارادته وشهوته أفضل بكثير ذلك أنه يظل حرا بشكل كامل".
وفي "دفاتر تحت الأرض"، يعيد دستويفسكي الهجوم على اوهام الرفاهية والتقدم المادي. وهنا يتحول القصر الذهبي إلى "قنّ للدجاج" وإلى "بيت للنمل"، وإلى "عالم ميكانيكي" ولن يتوقف دستويفسكي بعد ذلك عن انتقاد اليوطوباويات بجميع أنواعها وأشكالها، وهذا ما سوف نجده في "الجريمة والعقاب" وفي "الممسوسون" وفي "الإخوة كارامازوف".
وعن ذلك كتب أحد النقاد يقول: "ان أبطال جميع روايات دستويفسكي، راسكولينكوف في "الجريمة والعقاب" الذي يقتل عجوزا وخادمتها وشيغاليوف في "الممسوسون" الذي يلعب دور المنظر البارد، والمنعدم الأخلاق، والمحقق الكبير في "الإخوة كارامازوف" الذي ينافس الله في حبه للانسانية، يضحون بحرية الانسان من أجل سعادة مستقبلية، وكلهم يحقرون من شأن هذه الحرية لكي يستعبدوا الانسان بشكل أرقى وأفضل. وهم يبنون المحتشدات والسجون والمعسكرات، ويقدمون الخبز، والالعاب لكي يحققوا العبودية الشمولية".
وحتى نهاية حياته، كان دستويفسكي يهتم بالحياة اليومية، ويطالع الصحف للتعرف على أوضاع بلاده، وعلى أحوال الناس، الفقراء والأغنياء على حد السواء. وكان يقول إنه بحاجة إلى كل ذلك. ولعله استوحى موضوع روايته "الجريمة والعقاب" من الجرائم العادية التي كانت الصحف تتحدث عنها في البعض من زواياها الخاصة.
ولعله استشعر أن الشيوعيين الروس الذين انتشروا في بلاده وفي جميع أنحاء أوروبا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر واعدين الناس بالحرية، وبالعدالة، والمساواة، والرفاهية، سوف لن يلبثوا أن يتحولوا إلى قتلة، ومجرمين، وطغاة، ومستبدين. وربما لهذا السبب لم يتردد زعماء الثورة البلشفية قبل وبعد اندلاعها في توجيه الانتقادات اللاذعة لدستويفسكي.
وفي العشرينات أعلن لينين زعيم الثورة المذكورة أنه "يكره" صاحب "الإخوة كارامازوف" غير أن ذلك لا "يقلل من عظمته". وعندما صعد ستالين إلى كرسي السلطة، لم تعد أعمال دستويفسكي تحظى بالتقدير اللائق بها ذلك أنها "معادية للواقعية الاشتراكية". تلك الواقعيّة المبشرة بالبطل الايجابي، وبالرفاهية للبشرية جمعاء. مع ذلك ظل العديد من الكتاب والشعراء الروس متعلقين به، تعلق الضائع في العتمة اللامتناهية بقبس من نور.
وكانوا يجدون في أعماله المفاتيح اللازمة لفهم المصير المفجع الذي آلت إليه الثورة البلشفية، والجرائم الفظيعة التي ارتكبت باسمها.
لقد كتب دستويفسكي ذات مرة يقول: الواقع ليس محدودا بما نألفه ذلك أنه يحتوي على قسم هائل من شيء ما في شكل كلمة المستقبل التي لم يجر قولها بعد". وهذا يعني أنه كان مدركا أن الفن يمكن أن يكون وسيلة للتنبؤ بالمستقبل، والتعرف على أطواره.
لذلك كانت غايته كما يقول كارياكين أن يجيب بواسطة الفن عن السؤال البسيط والصعب في نفس الوقت: "ماذا يمكن لانسان أن يفعل، اي انسان في أي مكان من العالم إذا كانت لديه الحرية الكاملة في العمل؟"
وكان ستيفان زفايغ على حق أيضا عندما كتب يقول: "إن قدرة دستويفسكي على الملاحظة الفنية ليست سوى قدرة غيبية. وبينما الفن علم عند بعض الناس، فهو عنده سحر أسود. إنه لا يشتغل بالكيمياء التجريبية بل بسيمياء الواقع، وليس بعلم الفلك بل بالتنجيم الخاص بروح الانسان.. إنه لا يجمع بل يملك كل شيء. إنه لا يحسب لكن مقاييسه لا تخطئ".
حسونة المصباحي
المصدر: العرب أون لاين
إضافة تعليق جديد