نبي سياسي
«جورج أورويل كاتب ونبي سياسي». هذا هو عنوان ملف العدد الأخير من مجلة «الماغازين ليتيرير» الفرنسية، التي تستعيد سيرة وكتابات صاحب رواية «1984»، بعد أكثر من مئة سنة على ولادته (ولد العام 1903). في العنوان ما يقود فعلا، إلى ذلك الشرط الذي كتبه أورويل في روايته هذه، إذ لا تزال هذا «الكتاب النبوئي»، الذي بشرّ بسقوط كلّ أشكال «الدوغمات» من نهاية خمسينيات القرن الماضي.
تميل المجلة الفرنسية إلى تفسير قولها، بأن «الهمّ السياسي» الذي طغى على روايته «1984»كان السبب الرئيسي في عدم النظر إلى الكاتب على أنه روائي صرف، بعيدا عن أفكاره المعادية للأيديولوجيات. لذلك فنحن حين نتحدث عنه، نجد أن أول ما يتبادر إلى ذهننا، هو هذه الرواية، وأحيانا قليلة، كتاب «مزرعة الحيوان»، على الرغم من أن لائحة كتبه طويلة نسبيا. وتضيف المجلة أننا بذلك، لا نعير اهتماما البتة، بمجموعة مقالاته وأبحاثه التي تظهر وجها آخر من وجوهه ككاتب.
غريب فعلا هذا المسار «القدري» الذي وقع فيه أورويل. من هنا ثمة سؤال لا بدّ من أن يطرح نفسه عن السبب في سوء الفهم الذي تعرض له الكاتب طيلة حياته، وهي الحياة التي ابتدأت «بانحياز» ما، إلى الأفكار التي رفضها في ما بعد، أقصد كتابه «تحية إلى كاتالونيا» الذي جاء في قلب انفجار الحرب الأهلية الاسبانية، حين دافع عن الجمهوريين ضد جحافل فرانكو. قد تكون القضية بأسرها تبدأ من هنا. ففي تلك الفترة كان القسم الأكبر من مثقفي العالم معاديا للفاشية المنتشرة في أوروبا. وكواحد من المثقفين، كان لا بدّ له من أن يقف ذلك الموقف. لكن ما لم يرغب الجميع في فهمه، أن أورويل سرعان ما اكتشف أن الدوغما اليسارية لا تختلف عن أي فاشية أخرى، وبكونه ذلك الحرّ وذلك المثقف الحقيقي، كان لا بدّ له من أن يشير إلى ذلك. بمعنى آخر، سبح أورويل وحده ضد التيار الذي كان مسيطرا على الثقافة الأوروبية. هذه «السباحة» المنفردة لم تجد من يستسيغها: فاليمين إذا جاز التعبير، لم ينس موقفه الحاد في معاداته للحرب الاسبانية، كما أن اليسار لم يجد فيه ذلك الابن الضال، إذ سرعان ما انقلب ضده.
ماذا يبقى اليوم من جورج أورويل بعد مئة سنة من ولادته؟ لا شك في أنه ينتمي إلى عهد مضى، فالتاريخ الذي كتب عنه، انتهى بدوره، مع العلم بأن ذلك لا يعني أن دور الكاتب انتهى، إذ يكفي موقفه الشريف في كشف كل آليات القمع الإيديولوجي، لنجد كم انه لا يزال حاضرا في هذا الهامش الذي نحن بحاجة إليه اليوم. من هنا أفضل ما نفعله، هو إعادة قراءة أعماله لنتبين كم أن العالم العربي بحاجة إلى صوت مشابه.
اسكندر حبش
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد