«صياد الأسود» لأوليفييه رولان
ضمن سلسلتها لكتاب الجيب «بوان»، تعيد منشورات «لوسوي» في باريس، إصدار رواية الكاتب الفرنسي أوليفييه رولان «صياد الأسود»، وهي الرواية التي وصلت في نهاية العام الماضي إلى المرحلة الأخيرة في تصفيات جائزة «غونكور» قبل أن تسقط في التصويت النهائي أمام رواية الكاتب الأفغاني عتيق رحيمي «حجر الصبر». قد لا تكون الجوائز، في نهاية الأمر، إلا لعبة حظ، بمعنى آخر، لا بدّ أن نعترف بأن أوليفييه رولان هو واحد من أهمّ الروائيين الفرنسيين المعاصرين، إذ عرف عبر سلسلة من الروايات المتميزة، كيف يبني عالما متفردا في الكتابة الفرنسية المعاصرة. كتابة تأخذنا إلى أمكنة فريدة وإلى مناخات تبقى حاضرة، طويلا، بعد قراءتها.
هذه المناخات المتفردة، يحافظ عليها أوليفييه رولان في عمله الأخير هذا (الصادر لغاية اليوم)، «صياد الأسود»، إذ نستطيع القول إن هناك ثلاث شخصيات رئيسية تتوزع الكتاب. أولا هناك «برتويزيه»، صياد الأسود نفسه، ومن ثم نجد «مانيه»، إدوار مانيه الرسام الذي قدم برتويزيه في لوحة كبيرة بعنوان صياد الأسود، أما الشخصية المحورية الثالثة فهي أوليفييه رولان، الكاتب، الذي اكتشف هذه اللوحة، معروضة في متحف ساو باولو، البرازيل، التي أوحت له بفكرة هذه الرواية التي تأتي على شكل تحقيق.
برتويزيه هذا، كما رسمه مانيه، وكما كتبه رولان، ليس في النهاية سوى شخص غليظ، على قليل من السخف. من هنا نجد أن هذا التناقض الكامن ما بين هذه الشخصية الأشبه بشخصيات الفودفيل أو ربما الأشبه بشخصيات السينما الصامتة وما بين رائد الفن الانطباعي، هو ما أثار الكاتب أوليفييه رولان في نهاية الأمر. من هنا يأتي سؤاله الأول حول ما الذي استطاع أن يقرب ما بين هذين الرجلين المختلفين إلى هذا الحد الفاضح؟». لِمَ اختار مانيه أن يرسم – وكما هو واضح في لوحته – هذا «اللحام»، بهذه الطريقة التي لم تراعِ أي أمر من أمور الكياسة واللطف؟
أمام ذلك كله، ولكي يفهم كيف تشكل هذا الثنائي «غير المحتمل»، ينطلق رولان، الكاتب، في البحث عن آثار برتويزيه، ليقود القارئ من الجزائر حيث اصطاد برتويزيه أسده، إلى «أرض النار» حيث قام بعملية استكشاف كبيرة، «لا تصدق»، خيالية، بحثا عن كنوز حضارة «الإنكا». كذلك يقود الكاتب قارئه إلى حدائق «التويلوري»، حيث كان الصياد ينتظر، سدى، لكي يقدم جلد الأسد إلى نابليون الثالث. لكن الرحلة لا تتوقف عند هذا الحد، إذ نجد أنفسنا في ليما (البيرو) حيث كانت الثورات تتعاقب وكأننا في مناخ جهنمي، منتظرين «قيامة» ما. وإذا ما كانت شخصية الصياد تتنقل بنا داخل كل تلك المناطق والبلدان، التي نكتشف من خلالها، أمكنة ومناخات متفرقة، فإننا نبقى مع مانيه، في قلب باريس، في قلب الأماكن التي عاش فيها وعاشته، برفقة أشخاص متعددي الاتجاهات والأهواء، وبخاصة رفقة النساء، الذين كانوا يقدمون له الوحي للرسم، وسط الأحداث المختلفة التي كانت تغلي في باريس لعل أشهرها «الكومونة» ومحاكمة الخائن بازين (هو فرانسوا أخيل بازين، الذي كان قائد الجيش الفرنسي في منطقة الرين، والذي ساهم في هزيمة فرنسا خلال الحرب الألمانية – الفرنسية العام 1870).
لا تتوقف رواية رولان عند هذا الحد، في تحديد أطر العلاقة التي جمعت الصياد والرسام الشهير، بل إننا نقع في قلب عملية تذكر، أقصد أن رسم هذا المسار من المدن والأمكنة، ليس إلا سياقا وحجة للكاتب كي يدخلنا إلى قلب ذكرياته التي يبحث عنها. ذكريات أميركا اللاتينية التي غالبا ما زارها وأقام فيها. ذكريات باريس التي تمثل له «قلب العالم»، مدينة الفن والأفكار والحياة التي تذوب وتذوي، اليوم، شيئا فشيئا بسبب العولمة كما بسبب «التسويات المركنتلية».
غالبا ما تبدو شخصيات رولان، في كتابه هذا، شخصيات طريفة، بما أن الحالات التي يضعها فيها هي حالات تدعو إلى المرح والسخرية. لكن ذلك لا يمنعه من أن يعرج أحيانا على حالات لاذعة، «عنيفة»، وبخاصة حين يجد نفسه أمام تصرفات وتطورات لا تعجبه. أمام ذلك تصيب الكآبة أوليفييه رولان باضطراد، حيث يتغير مزاج الكتابة، لتغرف من سوداوية متصاعدة. يموت مانيه، يغور بترويزيه في ضباب التاريخ، أما بالنسبة إلى الكاتب، تصبح عملية اصطياد الذكريات هذه أشبه بعملية صعبة إلى أقصى الحدود، إذ تذكره التالي: بما أننا نستطيع اصطياد الأسود وقتلها، لكننا لا نستطيع شيئا أمام الزمن، أمام واقع أن أمام كل واحد منا، حيوانا مفترسا عليه اصطياده كي يستمر في الحياة.
ثمة شيء «شهرزادي» (من شهرزاد «ألف ليلة وليلة») في كتابة أوليفييه رولان، لا أقصد طريقته في القص، بل إن روايته مليئة، بآلاف القصص الصغيرة التي تتشابك تحت كلماته. ثمة آلاف الشخصيات التي تتعارك وتتصارع لكي تطفو على السطح، لكي تظهر في سلسلة أحداث هذه الرواية، ومع ذلك، ما من لحظة نتيه فيها ولا نعود نستطيع معها متابعة تسلسل منطقها وحضورها. هل نحن بذلك أمام «فريسك» هائل؟ ربما لا، ولكن بالتأكيد نحن هنا أمام لوحة جميلة، عرف رولان كيف يرسمها بلغته، لتقف في مواجهة فعلية، مع لوحة مانيه. لوحة تتسع لكل هؤلاء، لحكاياتهم، التي تريد أن تعيد رواية قصص العالم، بكل اتساعه، بدون تحفظ على أحلامهم التي يجمعها الكاتب في ما يقارب 250 صفحة. صفحات إن أكدت على شيء، فهي تؤكد على قيمة كاتب، تبقى حكاياته معك، بعد أن تنتهي من قراءة الكتاب.
اسكندر حبش
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد