«باسم الأم» للروائي الإيطالي إرّي دو لوقا
تعيد سلسلة كتاب الجيب «فوليو» إصدار كتاب الروائي الإيطالي إرّي دو لوقا «باسم الأم»، وهو «سرد» قصير يحاول أن يقترح فيه الكاتب الإيطالي إعادة كتابة، على طريقته وبأسلوبه، لقصة ميلاد المسيح لكن من خلال توقفه بالدرجة الأولى على صورة مريم وحضورها. هنا كلمة حول الكاتب والكتاب.
من المعروف عن الكاتب الإيطالي إرّي دو لوقا (مواليد مدينة نابولي العام 1950)، أنه بدأ الكتابة مبكرا، لكنه لم يشعر بالحاجة إلى النشر إلاّ من عشرين سنة فقط (صدر أول كتاب له بعنوان «ذات مرة، ذات يوم» العام 1989)، حيث بدأت أعماله تظهر في المكتبات قبل أن تعرف الشهرة لاحقا، لتترجم إلى عدد من اللغات الأخرى. هذا العمل يتضمن اليوم أكثر من عشرين كتابا، وتتألف أساسا من «سرديات» مكتوبة بضمير المتكلم. وما تشديده على كلمة «سرد» على غلاف كل كتاب من كتبه إلا في تأكيد عدم رغبته في أن يكون روائيا. كثيرا ما يروي عن نفسه، وغالبا أيضا ما يعيد إحياء شخصيات معروفة، أزمنة مشتركة بين كثيرين. يتحدث أيضا في كتبه عن واقعه – عن الحياة – بأكثر الكلمات تطلبا، وكأنها تأتي بمثابة «حرائق» تهرب من ذاكرته. فهذا النابوليتاني (من مدينة نابولي) – وقبل أن يتفرغ للكتابة – كان مناضلا سياسيا وإنسانويا (انتمى إلى اليسار الإيطالي المتطرف، رافضا أن يكون دبلوماسيا مثل والده، ليعمل سائق شاحنة، وعاملا في شركة فيات للسيارات، وحتى عامل بناء)، قارئا للتوراة ومترجما لها، عاملا وشاعرا، قرويا ومحبا للعيش في المدينة بكل تفاصيلها، وما هذه «الفروع» إلا تأكيد لتجسيده «هذه المصائر المختلفة» التي تعيش فيه، كما لهذه الخيارات الوجودية التي يمكن لأي شخص منا أن يجد نفسه فيها.
التخييل الذاتي، بالنسبة إليه، ليس سوى اتساع للأدب في العالم. صحيح أنه في كتابه هذا، يحاول الحديث عن مريم العذراء إلا أننا نجد فيه روح الكاتب «الحرة»، «الكريمة»، كما أناقته الأدبية المخالفة للمألوف، أقصد هذا الفضاء الذي لا يجيد كثيرون في تقديمه إلينا على طريقة دو لوقا.
«باسم الأم»
أول الانطباعات التي تخرج منها بعد قراءة «باسم الأم» أن الكتاب قد يكون من أكثر كتبه التي تنحو نحو «لُغزية» ما، على الرغم من أنها تشبه تلك الحكايات التي تُروى في موسم أعياد الميلاد. إذ يروي ومن دون أي خفر غاش، قصة البشارة، أي قصة الملاك الذي ظهر على مريم، والحلّ الذي اضطلع به يوسف لحماية خطيبته والهروب من الناصرة إلى بيت لحم حيث وضعت هناك في مزود، آلام المخاض التي شعرت بها، تنفسها الذي كان يتوه في الفضاء... وإذا ما كانت هذه الأمور من الأشياء المعروفة بحسب ما وردت في الكتاب المقدس، فإن الكاتب الإيطالي يحاول أن يتخيل ويضيف – وفق ما يقتضيه سرده الأدبي – بعض الجُمل والعبارات التي تقولها مريم مثل أن نجدها تقول: «أظهر نفسك أيها الصغير، تعال إليّ، مستعدة أمك لأن تمسك بك سريعا ما إن تُخرج رأسك الصغير».
ربما كان دو لوقا يدافع عن نفسه حين يخترع هذه الجمل. أقصد أنه لكثرة ما قرأ الأناجيل والتوراة (وهذا أمر معروف عنه، لدرجة أنه تعلم العبرية ليعود إلى النص بلغته الأصلية، حتى أنه يعرف كل صفحة وكل صورة غيبا) يحاول أن يعير صوته إلى هذه الفتاة الشابة. من هنا تبدو مريم وكأنها تلك «الأم الشجاعة»، تلك «المتمردة» التي تجرؤ على تحدي القوانين الإنسانية – إذ كانت حاملا وغير متزوجة، ما قد يفضي إلى رجمها – ومواجهة الأفكار والأحاسيس السائدة كما مصير ابنها يسوع، الذي هو وفق الرواية الإلهية، يحمل روح الخالق.
كتاب «باسم الأم» حكاية غير متوقعة، مليئة «بالسحر»، ولا تشذّ كثيرا عن مستوى كتبه الأخرى، أي عن ذلك الأدب المدهش الذي وجدناه في كتب من مثل «ثلاثة خيول» أو «مونتيديديو». وما يعطي الكتاب تفرده، هذه المسحة الشخصية التي يضيفها الكاتب على «الرواية الرسمية» التي يبقى مخلصا لها من البداية إلى النهاية، أي ليس هدفه تغيير وتبديل ما توارثناه بل محاولة الدخول أكثر إلى عمق النص، ليفتح من خلاله بعض التأويلات، كأن نجد مثلا ذلك البيت الشعري للشاعر الروسي يوسف برودسكي الذي كتبه بعد ألفي سنة من تلك الحادثة، ويقول فيه: «لتعتد، أيها الصبي، على الصحراء». وبالتأكيد تأخذ الصحراء هنا، معنييها المختلفين، من حيث هي مكان، كما من حيث هي مجاز لحالة وفضاء ومناخ. هنا يكمن كل «تناقض» دو لوقا، إذ تأتي كل صفحة كتبها هذا الشخص «غير المؤمن» لتبدو بمثابة «صلاة» ما.
«باسم الأم»، ربما هو محاولة لتجسيد فكرة قديمة عند الكاتب الذي يجد أن «مهمة الكاتب أيضا أن يعطي للماضي إمكانية أخرى، ذكاء آخر». لذلك يفترق كتابه بالتأكيد عمّا يسميه النقاد في إيطاليا «الكيتش الثيولوجي».
اسكندر حبش
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد