«تيامو» شكسبير مهرّجاً في سنواته الأخيرة
تقترح المخرجة السورية رغدا الشعراني في عرضها المسرحي «تيامو»، الذي يقدم على خـــشبة مســـرح الحمراء في دمشق، رؤية جديدة للمـــسرح التقليدي، مختـــلفة شكلاً ومضموناً، غير أن الرؤى المغايرة تذهب، أحياناً، في اتجاه «التهريج»، بدلاً من التطوير. المخرجة تفترض بأن المسرحي الانكليزي الأشهر شكسبير كان يعاني الكآبة والإحباط في أعوامه الأخيرة، فقام، وهو على تلك الحال، بزيارة إلى المسرح الذي عُرِف باسمه، فاجتمعت شخصياته المسرحية المتخيلة والحقيقية، وأرادت أن تبهج قلب المسرحي الكئيب، عبر تحويل مسار القصص، وإخراجها من أجواء التراجيديا التي طغت على مسرحياته، إلى نوع من الخفة والهزل، الأمر الذي يتطلب تغييراً في بنية النصوص المسرحية.
هكذا تتدخل الشعراني في ليّ عنق المسرحيات التي غدت من الكلاسيكيات العالمية في تاريخ المسرح، إذ تختار مسرحيتي «هاملت»، و «روميو وجولييت»، وتتصرف بوقائعهما، وأحداثهما على نحو تهكمي، ساخر، لتحمّل العرض جرعة من الكوميديا غير معهودة في المسرح الشكسبيري. الحب هو السمة الأساسية في هذه التوليفة المسرحية «المبتكرة» التي تصوغها المخرجة، بدءاً من العنوان «تيامو» الذي يعني «أحبك» في اللغة الإيطالية، وانتهاء بالتفاصيل الكثيرة الأخرى. فما إنْ تذكرنا الشعراني بقصة الحب المستحيلة التي ربطت بين روميو وجولييت، وكذلك قصة الحب التي ربطت بين الأمير هاملت وأوفيليا، وتستعرض في عجالة مسارات هاتين القصتين الدراميتين الحزينتين، حتى تنقلب الأحداث بصورة مفاجئة تتناقض مع الأحداث المسرحية الأصلية التي غدت معروفة، بل أصبحت جزءاً من الثقافة الإنسانية.
فبعد هذا التمهيد نرى ان الأمير هاملت يهيم حباً بجوليا، بينما يحاول روميو، بدوره، أن يكسب ود أوفيليا، وحتى والد هاملت الذي قُتل في مكيدة العم طمعاً بالزوجة وبالسلطة، فإنه هو أيضاً يعاني الوحدة في ملكوت السماء، ويطلب من ابنه هاملت، الذي شفي، هنا، من عقدة الذنب والانتقام، حبيبةً تؤنس وحدته! ويحظى، فعلاً، بحبيبة منتظرة طالما أن المسرحية تنتمي بامتياز إلى مسرح «العبث» أو «اللامعقول»، مع التحفظ هنا والإشارة إلى أن هذا التيار المسرحي، على رغم عبثيته، كان يستند إلى مرجعيات فكرية عميقة كما الحال في مسرحية «في انتظار غودو» لصموئيل بيكيت، مثلاً.
في الواقع أن هذه التوليفة الغريبة تنجح في التقاط عدد من المشاهد والمواقف المضحكة النابعة من بنية العرض القائمة، أساساً، على المفارقات، لكنّ هذه الكوميديا تأتي على حساب القيم الجمالية المتناثرة في نصوص شكسبير، ولا حاجة بنا إلى القول، هنا، بأن شكسبير، حين صاغ أحداث مسرحياته على النحو المعروف، كان يروم حكمة ما، ويبحث عن منطق يربط الأحداث ببعضها، ليقودها إلى نهايات تراجيدية مؤثرة، تنطوي على المعاني السامية، الجليلة التي يسعى المسرح في كل زمان ومكان إلى تجسيدها. أما وقد سمحت الشعراني لنفسها في التدخل بمضامين أكثر النصوص المسرحية تماسكاً، وقوة، فليس من المستبعد عندئذ، أن نعثر على قصص ركيكة، وحكايات مشوشة، مرتبكة تتسلح باسم شكسبير، وتعتدي على عالمه المسرحي في آن.
ولا تكتفي الشعراني بهذا التشويش على صعيد المضمون، بل أن الشكل المتداخل والمعقد الذي قدم خلاله العرض ساهم، بدوره، في الوصول بالتهكم إلى مداه الأقصى، فلم نفهم، مثلاً، ما هو المبرر الفني، والجمالي، لألسنة اللهب التي تتصاعد في مقدمة الخشبة لدى البدء وعند الانتهاء، ولم نفهم كيف أن الحسناء الجميلة شانتال وقد تعرضت، خطأ، لوابل من رصاص مسدسات الفرسان الأربعة الذين كانوا يخطبون ودها، لا تموت، بل تنتقل من فارس إلى آخر، وتمضي في «رقصة الموت» السعيدة!
وأمام التطور التكنولوجي الهائل الذي أصاب وسائل الاتصال، فإن من حق المخرج المسرحي أن يستثمر هذه التكنولوجيا، غير أن ما ظهر في عرض تيامو بدا مبالغة تجاوزت الحد، فالمخرجة، صاحبة السينوغرافيا كذلك، قامت بدمج الصورة السينمائية مع فضاء الخشبة من خلال شاشتين كبيرتين إحداهما في عمق الخشبة، والأخرى على يمين الجمهور في المقدمة، ولئن أسهمت هاتان الشاشتان في توضيح بعض الملابسات والأحداث التي يصعب تجسيدها على الخشبة، لكن الاعتماد عليهما كان كبيراً، فضاع المشاهد بين هذه الشاشة وتلك وما يجري على الخشبة، لا سيما ان المخرجة لجأت، كذلك، إلى أسلوب الغروتيسك لدى الممثل المسرحي الذي يخرج من الشاشة إلى الخشبة وبالعكس، ولعل اللعبة الذكية، هنا، تمثلت في ظهور والد هاملت على الشاشة ومخاطبة ابنه، فهذه الجزئية لم تكن مقنعة فحسب، بل بدت حلاً إخراجياً موفقاً.
«تيامو» عرض هو عبارة عن كولاج مسرحي مفكك، يمزج بين عناصر فنية عدة، ويدّعي بأنه يتحدث عن الحب وفصوله وخباياه وعن عبث الأقدار، لكن المخرجة لم تفلح إلا في صوغ بعض المواقف الكوميدية التي يعود الفضل فيها إلى ممثلين نجحوا في تجسيد ما طلب منهم: نسرين الحكيم، لورا أبو أسعد، علاء الزعبي، جابر جوخدار، هنوف خربوطلي، كامل نجمة، شادي الصفدي، مروان أبو شـــاهين، الوليد عبود، شادي مقرش، فرزدق ديوب... فضلاً عن أن مصممي الإضاءة والأزياء والديكور قد بذلوا جهوداً في عرض استثمر طاقتهم بلا هدف. ليس معنى التجديد في العروض المسرحية، هو إهمال شـــروط ومـــقومات المسرح، بل أن التجديد يقترح رؤى جديدة تنهض على تلك المقومات، وتسعى إلى ابتكار جماليات لا يمكن أن تختزل، بأي حال، في رقصات صاخبة قد تسلي الجمهور المكتئب، لكنها لن تنتمي، عندئذ، إلى المسرح وأسئلته الشائكة!
إبراهيم حاج عبدي
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد