في حداثة الشابي
كلما تراكم القول في الشعر احتجب الشعر والشاعر، وأصبحت الظاهرة النقدية نظير كرة الثلج التي تتضخم وتتمطط كلما طالت معاشرة مجال عملها ومادة فعلها وطرائق تناولها.
أفلا يحسن أن يعود الدارس إلى شعر الشابي ينطقه وإلى شعر الشابي يحاوره وإلى الرؤية العامة التي تنبثق من "المجال الشابي" يعمل فيها أداة الذوق والانطباع في منأى مبدئي عن سبل الضبط العلمي والقيس الأكاديمي اللذين يصادران في الغالب على النص عبر الركام الهائل مما قيل ويقال فيه وحوله!
فلقد بدا شبه مقرر اليوم أن مسائل "الفردوس المفقود" و"النعيم" و"الجحيم" و"الحياة والموت" و"الريف والمدينة" و"المضمون الأسطوري".. وسواها، تعتبر من ثوابت "الرؤية الشابية" ضمن استنادها إلى موروث الرومنطيقية الأوربية في آخر!
لكننا ههنا- وقد رأينا محاورة مثل هذه الثوابت آملين تجاوزها لا تفنيدها- نرغب في المصادرة على أن الشعر، جوهرا، ليس تناولا للموجود بقدر ما هو إعادة خلق للوجود.
وهو يقين- ولئن بدأ مبثوثا في الكثير من المصنفات النظرية- يبدو غائبا حين نعمل أداة الإجراء في النصوص.
يقف الناظر في ديوان الشابي على مواطن بعينها تضم عددا من المقاطع القصيرة التي تختزل فيما نرى مجمل ما تزخر به بقية القصائد من تنويعات وتفصيلات وتفريعات وإضافات.
فكل من "شعري" "ص 33"*، و"يا شعر" "ص 35"، و"قلت للشعر" "ص86"، و"وإلى الله" "ص 98" و"صفحة من كتاب الدموع" "ص 106" و"قلب الأم" "ص 129" و"الجنة الضائعة" "ص 147" تتضمن لمعا مما بدا مبثوثا في أغلب قصائد الديوان.
هذا مختزل "الرؤية الشابية" للشعر والشاعر والوجود، فيما نزعم، وههنا مرتكز شعاع بدا مؤثرا في كامل الأثر.. حيث اعتمد الشاعر "التعداد" ليجعل من مبدأ "التسمية محركا للنص الشعري" وينزل الشاعرة منزلة "سيد الكون" الذي يبتكر العالم إذ يسمي أشياءه ويعدد أسماءه!
ضمن هذه الوجهة في الفهم يمكن أن ندرج رباعية الماء/والنار/والهواء/والتراب التي تبدو حاضرة ملحاحا في العديد من المواطن. ومنها تتفرع مسألة "النعيم والجحيم"، التي تمثل الهاجس القار لدى الشاعر ومحور الرؤية الشابية بلا منازع.
"فكل ما هب وما دب" "يحيا بقلب الشاعر" حيث تتحرر الأشياء والكائنات من صمتها، أو قل حيث تتخطى جمودها حين تبعث التسمية فيها الحياة.
ولقد يسر مبدأ "التعداد" هذا للشاعر أن يعلن استحواذ النص الشعري على كل ما عداه من المراجع المحسوسة والمجردة والكتبية- التراثية والغربية- والمرجعية اليومية.
أفيتيسر إذن أن نعيد هذه "الرؤية الشعرية" إلى مجرد الاستناد إلى الرومنطيقية الهجرية أو إلى "أبو للو" أو إلى ما ترجم من عيون الشعر الغربي، ثم كيف يمكن للنظر النقدي أن يقصر على تناول حضور مخيال العناصر الأربعة أو ثنائية الفردوس والجحيم و"الثواب والعقاب" و"الرعوي والمدني".. فضلا عن طرفي الزوج المتقابل "التفاؤل والتشاؤم" وهما ما وسمت به عديد النماذج الشعرية العربية قديمها والمحدث.
صلاح الدين بوجاه
المصدر: العرب أون لاين
إضافة تعليق جديد