غسان كنفاني يستشرف المستقبل في «عائد إلى حيفا»
يصعق الشهيد غسان كنفاني – على نحو غريب – الذاكرة الفلسطينية، حينما يطرح نبوءته الأدبية ليعالج واقعا سياسيا مستقبليا، فكلما قرأت "عائد إلى حيفا"، تقافزت الصور في مخيلتي، بين مفهوم العودة، و"العودة – الزيارة" التي تأتي كمرور سريع لشيء طال انتظاره!.
إن رواية "عائد إلى حيفا"، أحد النماذج التي تؤشر إلى الوضع الفلسطيني المركب، والمعقد بتباين شتاته داخل الوطن وخارجه، حيث تنفتح المخيلة على أسئلة طالما ركدت، بانتظار تغيير ما، يعيدُ ترتيب الأمور إلى نصابها الطبيعي.
رغم أن شخوص الرواية افتراض، يتقاطع إلى حد كبير مع الواقع المعاش، إلا أنها استبقت الزمن، لتعبر عن "صدمة العودة إلى الوطن"، حينما تكون العودة، زيارة تراقب خلالها ما آلت إليه الأمور.
وتأتي نبوءة كنفاني في "عائد إلى حيفا" عام 1969م، لتعبرَ عن شعور سادَ بعض الأدباء الفلسطينيين حينما عادوا بعد اتفاق أوسلو عام 1993م إلى مناطق الضفة الغربية!، وفوق هذا، فغسان الشهيد لم يعد، وإنما رسم في مخيلته شكلا "للعودة الناقصة"!، التي كانت ضمن شروط الاحتلال.
"العودة الناقصة"، أو كما اصطلح عليها بعض الكتاب الفلسطينيين "صدمة العودة إلى الوطن" – بعدَ اتفاق أوسلو طبعا-، تجسدت في خط درامي واحد، رسمه غسان في روايته "عائد إلى حيفا"، التي عادَ خلالها سعيد وزوجته بزيارة إلى هذه المدينة، فكانا أمام ثلاث صدمات:
الأولى: المدينة الباكية التي انكرتهما – كما يقول سعيد – لأنهما – وأنهم – تركوها، فلا يجد أمامه سوى وصف قسوة الحرب، التي شنتها عصابات "الهاغاناه"، بمساندة الجيش البريطاني.
الثانية: حينما دخلا منزلهما، الذي استأجرته ميريام السيدة اليهودية القادمة من بولونيا، فللوهلة الأولى شعرت صفية – زوجة سعيد – بالحزن والأسى وهي ترى البولونية تتجول في منزلها، كأنما هو ملك لها!، فيما تفقد سعيد ما تبقى من أثاث منزله الذي تركه قبل عشرين عاما، ليعود إلى ميريام ويسألها أين هذه وأين تلك؟!.
الصدمة الكبرى؛ أن سعيد وزوجته حينما نزحا عن حيفا، فقدا إبنهما الرضيع خلدون!، وما عودتهما الخاطفة بعد عشرين عاما إلا لاسترداده، ولزيارة هذه المدينة الساحلية، فصدما حينما شاهدا "دوف" – أي خلدون – بلباس عسكريّ للجيش "الإسرائيلي"!، وتطور الأمر حينما دار بينهما حوار شكل صدمة ومفارقة؛ فـ "القضية إنسان"، كما قال "دوف" – خلدون سابقا –، وهو ما أكده سعيد مرارا، الذي تمنى في تلك اللحظة بالذات لو لم يمنع ابنه خالد من الالتحاق بالثورة!.
لا يغفل غسان في روايته عن تناول تداعيات ما بعدَ "العودة الزيارة"!، ففي خطّ قصصي متفرع عن قصة "عودة سعيد وزوجته"، يعود فارس اللبدة إلى يافا!، يصعق هو الآخر، يتجه إلى منزله المكون من طابقين، يطرق الباب، يخرج إليه رجل ويمد يده، فيبادره فارس قائلا بغضب: "جئت ألقي نظرة على بيتي. هذا المكان الذي تسكنه هو بيتي أنا، ووجودك فيه مهزلة محزنة ستنتهي ذات يوم بقوة السلاح. تستطيع إن شئت أن تطلق علي الرصاص هذه اللحظة، ولكنه بيتي، وقد انتظرت عشرين سنة لأعود إليه .. وإذا ...".
في هذه اللحظة، يقاطعه الرجل، ضاحكا، يطوقه بذراعيه، ويفاجئه بأنه "عربي مثله"!؛ مفارقة تقف أمامها بصمت، تطرق مفكرا حول هذه الفنتازيا التي قلبت المشهد في لحظة توتر، إلى استرخاءْ؛ البيت يسكنه عربي!، هو الآخر يدفع من جيبه لـ "وزارة أملاك الغائبين" أجرة باعتباره مستأجرا.
يأخذك غسان في تلك الأجواء المعقدة، إلى تعقيد أكبر، حيث يجول فارس بعينيه المكان، ليتوقف أمام صورةَ أخيه بدر الشهيد، المعلقة على الحائط منذ عشرينَ عاما!، فيدور بينهما حوارٌ حول هذه الصورة، التي كانت سببا في أن يستأجر العربي الشقة؛ إن تركها، وأخذ غيرها، فهو "خائن"!، كيف يتركُ منزلا به صورة شهيد!، عليه أن يحافظ على المنزل، والصورة معا، وفوق هذا، سمى ابنه بدرا وفاء منه للشهيد!.
قبل أن يخرج فارس من البيت، يأخذ صورة أخيه معه ، يضعها في السيارة، ويمضي. ينظر إليها، ثم يقرر أن يعود صباح اليوم التالي إلى بيته اليافوي، لتكون المفارقة أنه أدرك أن الصورة ليست وطنا، ما دام الأخير محتلا!.
يفرح العربي بعودة الصورة إلى مكانها على الحائط، فزوجته وأبناءه صدموا لافتقادها، فصورةُ الشهيد بدر جزء من العائلة – كما قال لفارس –؛ إننا أمام معادلة مركبة، قد تطل علينا في يوم ما!.
تنتهي الرواية على أفق مفتوح، حيث فارس، الذي حمل سلاحه، والتحق بالثورة، فيما سعيد – بعد أن وصل مشارف رام الله – تمنى أن يكون خالد – ابنه – أثناء غيابهما عن المنزل، قد التحق بالفدائيين!.
تغلق الرواية، تضعها جانبا، وأنت تتساءل؛ كيف أدرك غسان عام 1969م أن "العودة الناقصة" تدفعُ نحو الصدمة المؤلمة؟، رغم أنه تناثرَ وردا وسكر عام 1973م!، ورغم أنه لم يشاهد "أوسلو الفجيعة" عام 1993م!، إلا أنه أطلق نبوءة، أن العودة دون تحرير، ليست إلا قهرا، يدفع نحوَ السلاح!.
محمد محمود البشتاوي
المصدر: العرب أون لاين
إضافة تعليق جديد