أدونيس: في ضوء غَزّة
- 1 –
كيف يتجلّى الوضع السياسيّ العربيّ، في ضوء الحرب الإسرائيلية على غزّة؟
أوّلاً، ظهرت الأنظمة العربية، أكثر من أيّ وقتٍ مضى، كأنّها تنتظر من الولايات المتحدة والدّول الأوروبيّة، حلّ المسألة الفلسطينية. وكان يكفيها نصفُ قرنٍ من الصراع، لكي يوضحَ لها كيف «تقدّمت» إسرائيل، و «تراجعت» هي، وكيف أن هذه الدّول الغربية جميعاً «باركت» ما فعلته إسرائيل، ولم تمارس عليها أيّ نَوْع من أنواع الضغوط، وأنّها كانت دائماً، في أحسن الحالات، «ترجوها»، و «تتمنّى» عليها.
كان، إذاً، نصفُ قَرن من الاختبارات والعلاقات والتوقعات الخائبة، ومن الحروب والمآسي، كافياً لكي يؤكّد أن مفتاحَ الحلّ للمشكلة الفلسطينية، وللمشكلات الفلسطينية – العربيّة، هو عند العرب أنفسهم في الدّاخل، وليس في الخارج: في إرادتهم، ووعيهم، ووحدتهم.
ثانياً، ظهرت الأنظمة العربية، عمليّاً، كأنّ المشكلة الملحّة التي تؤرّقها جميعاً، بدرجاتٍ متفاوتة، ليست مع اسرائيل، أو الولايات المتحدة، أو الدول الأوروبيّة، بقدر ما هي عربيّة – عربيّة: بين السّلطات والسلطات، وبين السلطات والشعوب. ولا يَتّصل جوهرُها بالرؤية لمستقبل المنطقة العربية، وبخاصةٍ في بُعدها المتوسّطي، وانما يتّصل مباشرةً بأَمنِ هذه الأنظمة «أمنِها المباشر»، حفظاً وتقويةً له، ودفاعاً عنه. كأن فلسطين لم تعد، بالنسبة اليها، مسألةً «كيانية». وهكذا انحصر اهتمامُها بالجوانب الإنسانية الكارثية والتي سبّبتها هذه الحرب، مساعدةً، وإعادة إعمار... إلخ، تماماً كمثل ما تفعل الدّول الأجنبيَة.
- 2 –
ما الذي جعل أو يجعل الأنظمة العربية تنقاد للنظر الى فلسطين، كأنّها لم تعد مسألة كيانية – قوميّة، مقابلّ دولة إسرائيل التي تنصّ في دستورها (المدنيّ!) على أنها دولة يهودية، أي دولة دينيّة، وتؤيّدها في كلّ شيءٍ الدّول الأجنبيّة، حليفة الأنظمة العربيّة، وفي طليعتها الولايات المتحدة، فيما تبارك عقاب «حماس – غزّة»، بوصفها منظمة دينيّة – إرهابيّة، وتسوّغ حصارَها، واحتلالَها، وتدميرَها.
ولنسأل بالمقابل: ما الحقوق أو المكاسب التي حصلت عليها «فتح»، المنظمة «العلمانيّة» أو غير الدينية، وغير الإرهابية، والمعترف بها، دوليّاً؟ وهل توقفت مصادرة الأرض والبيوت في مناطقها؟ هل توقّف الجدار العازل عن قَضْم المزارع، وضَمّ الحقول الى الشّطر الإسرائيليّ؟ وما الحريّة أو مجالات الحركة والتنقل المُتاحة لفلسطينييّ الضفّة غير الدّينيين، وغير الإرهابيين، الواقعين في شباك الحواجز العسكرية، والمطوّقين بمصائد المستوطنين؟ وما الذي يمكن أن نقرأه في هذه الخارطة الرهيبة من التناقضات والاعتداءات والادّعاءات؟
هنا يكمنُ ما يُولّد الشّلَل، والحيرة، والضياعَ، والمآزق، ويكمن ما يُولّد الشعور بأن المسألة الفلسطينية آخذةٌ بالذّوبانِ والتلاشي في هذه المآزق.
- 3 –
لا يجهلُ أحدُ أنّ في الصّراع الفلسطيني – الإسرائيليّ مكبوتاً تاريخيّاً، ضخماً ومأساويّاً، يتمثّل في البعد الدينيّ. وهو، مع خَفائهِ، البعد الأكثرُ إقلاقاً وتعقيداً. ومع ذلك، لا يريد أحدٌ أن يتحدّث عنه. كُل يكتفي بالكلام على الجانب السياسيّ الظّاهر من هذا الصَراع، ويهمل الجانب الخفيّ الذي يترسبُ، حادّاً وفَعّالاً، في التّاريخ والحياة والذّاكرة.
كيف ننسى، إذاً، أنّ التطرّف الديني في جهةٍ، لا يولّد إلاّ تطرّفاً مماثِلاً في الجهة الأخرى؟ فعندما يعطي الإسرائيليون الحقّ لأنفسهم في الاستيلاء على أرض الفلسطينيين بذرائع دينيّة، خارج حدود إسرائيل – الدولة، التي قرّرتها الأمم المتحدة، واعترفت بها الدّول، فإنهم يحرّضون عمليّاً على نُشوء التطرّف عند الفلسطينيين، ويستفِزّون ردوداً دينيّة مُقابلة. خصوصاً أنّ فشلَ القانون والنّظام الدَّولي في صونِ حقوق الفلسطينيين، يفتح أمامهم أبوابَ التطرّفِ، عاليةً. خصوصاً أيضاً أنّ الاستيلاء على أرضهم يتمّ في مُناخٍ يُوحي بأن الغاية من هذا الاستيلاء ليست مُجرّد نهبٍ لقطعةٍ مُحدَّدةٍ من الأرض، وإنما هي محوٌ للمكان الذي يُسمّى فلسطين، ومحوٌ لهذا الاسم نفسه. ولماذا، إذاً، يُسكَتُ، دوليّاً، على هذا التطرّف الدّيني عند الجانب الإسرائيليّ، وأحياناً يُسوَّغ ويُدافَعُ عنه؟ ولماذا، عندما يظهر في الجانب الفلسطينيّ، دفاعيِاً، يُوصف دوليّاً بأعنف الصفات، وبينها الإرهاب، وتشهرُ عليه الحرب؟ ولماذا تَنساق بعض الأنظمة العربية الى القبول بهذا المنطق الإسرائيليّ؟
تِبعاً لذلك، واستناداً الى الممارسة، لم يعد ممكناً الاكتفاءُ بالقول إن الكارثة الإنسانية، البشعة حقّاً، والمنكرة حقّاً، تلك التي وقعت على اليهود في المانيا النّازيّة، هي، وحدها، وراء مساندة الغرب لإسرائيل هذه المساندة المطلقة. إنّها ظاهرةٌ تُوجبُ على الفكر الحُرّ أن يَطرح حولها أسئلته. وسوف تكون أسئلة عديدةً ومتنوّعة. ذلك أنّ الذين يقفون هذا الموقف لمجرّد الناحية الإنسانية، لا يمكن أن يقبلوا بتحوّل الضحيّة الى جلاّد يضطهد ضحيّةً بديلة، أي يستحيل عليهم أن يقبلوا إنسانيّاً، ما تقوم به إسرائيل ضدّ الفلسطينيين.
هكذا يبدو، موضوعيّاً، أنّ الغرب يدعم إسرائيل دينيّاً، ومعنى ذلك، عمليّاً، أنه يدعمُ ديناً ضدَّ دين.
- 4 –
فيما تعمل اسرائيل على استئصال فلسطين من خارطة التّاريخ، يُعطي التمزّق الفلسطيني – الفلسطينيّ لفلسطين وللشعب الفلسطينيّ، بُعداً تراجيديّاً في نوعٍ مريرٍ من التآكل الداخليّ والإبادة الذاتية. ويتحوّل عالم السياسة العربيّة الى مجموعةٍ من البُحيرات الآسنة. وفيما يقف بعض العرب مع «حماس» بوصفها مشروع «مقاومة»، لا مشروع «دولة»، ويقف بعضهم مع «فتح» بوصفها، على العكس، مشروع «دولة»، لا مشروع «مقاومة»، يزداد العرب بعداً عن بعضهم بعضاً، ويزداد الإسرائيليون قرباً من بعضهم بَعضاً.
وقد ينتبه بعضهم، فيما يشاهد الأنقاض والأشلاء، فيصرخ قائلاً: ما العمل؟ لكنه لا يسمع إلاّ الصَّدى: ما العمل؟
هامش – ترجمة للصدى:
هل يجمع العرب، ولو مرّةً في تاريخهم الحديث، على فَرضِ، (نعم فَرض!) قيام دولة فلسطينية، اليوم، لا غداً، بحيث يُفرض على إسرائيل والعالم التعامل مع الفلسطينيين، بوصفهم دولةً واحدة، لا بوصفهم جماعات؟ ويستطيع العرب أن يفعلوا ذلك بقليلٍ من الشجاعة، في وجه الغرب، وفي وجه الولايات المتحدة خصوصاً، بحيث يجعلون تبنّي هذا الموقف معياراً أوّل وشرطاً أوّلَ في التعامل مع دول الغرب. ولن يكون هذا إلاّ تطبيقاً لشرعة الأمم المتحدة، وهو الحقّ القديم الثابت الذي أعطته لهم هذه الشرعة عندما أعطته لإسرائيل.
ولا علاقة للغرب وإسرائيل والأنظمة العربيّة في كيفيّة ممارسة الفلسطينيين هذا الحق، أو في تنظيم دولتهم كما يشاؤون. فهذا كلّه يجب أن يكون شأناً فلسطينيّاً خاصّاً.
صدى ساذج؟ وترجمة ساذجة له؟
رُبّما، ربّما.
لكنّ الصَّدى يتابع سَذاجته:
إذا لم تكن إسرائيل مستعدةً للاعتراف بدولةٍ فلسطينية، اليوم، فسوف تكون غداً أقلّ استعداداً.
وبعد غدٍ، لن تجدَ شيئاً اسمه فلسطين لكي تعترف به، أو بجزءٍ بسيطٍ قليلٍ من هذا الشّيء.
أدونيس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد