الاستعمار ساهم في وقف المسار الإصلاحي

17-01-2009

الاستعمار ساهم في وقف المسار الإصلاحي

يطرح باستمرار سؤال محيّر: لماذا تتوقف مسارات الإصلاح وتنغلق دوراته سريعاً، في حين تطول عهود الجمود والمحافظة؟ هل هذا قدر محتّم سيظل يلاحقنا بلا انقطاع؟ والواقع أنّ هذا الوضع يمكن تفسيره بعاملين متساويين ومتوازيين. أولهما داخلي يتصل بقوة المكونات الدافعة إلى الإبقاء على السائد والمألوف. وثانيهما خارجي يتصل بالوضع الاستراتيجي للمنطقة العربية الإسلامية، بصفتها تقاطعاً بين الشمال والجنوب والشرق والغرب. فلئن كان هذا الموقع يفتحها للتحاور مع مختلف الثقافات فإنه يجعلها أيضاً معرضة لتكون محلّ كلّ الأطماع والهزات. والثقافات العريقة لا تتحمل فكرة الخضوع للأجنبي، مهما كانت المبررات، وهذا أمر قد تأكد في مناطق أخرى كثيرة من العالم.
وشهدت النهضة العربية الحديثة الأولى انطلاقتها مع بداية القرن التاسع عشر لكنها ارتطمت بالمدّ الاستعماري، ولا يمكن الجزم هل كانت هذه النهضة ستتواصل وتحقق غاياتها لو لم يحدث هذا الارتطام؟ إذ من المعلوم أنّ عوامل داخلية كثيرة كانت تعيقها.
لكن الأكيد أنّ الاستعمار قد خلط الأوراق وعقّد الأوضاع وحوّل مشاغل النخبة من تطوير المجتمع إلى المحافظة عليه من الانحلال. ولعلّ أفضل مثال على ذلك المقارنة بين نصين، أحدهما مشهور والآخر أقل شهرة. فالأقل شهرة نشر عام 1877 في صحيفة «الأهرام» المصرية وتضمن تقريظاً لكتاب عنوانه «التحفة الأدبية في تاريخ الممالك الأوروبية» وهو تعريب لكتاب فرنسي في تاريخ الحضارة الأوروبية الحديثة. وقد وصف التقريظ هذا الكتاب بأنه «سبيل النجاة ومادة الحياة» واعتبر أنّ «أحسن الطرق وأولاها بالسلوك هو الطريق الذي قد امتحنته يد التجربة وترتبت عليه النتائج في عالم الأعيان» ودعا كل عربي ومسلم إلى أن «يبحث في تلك المقدمات التي أنتجت سعادة أولئك الأمم حتى يستعملها في إيصال أهالي ملته ووطنه إلى ما ناله غيرهم». فالاقتباس من الحضارة الغربية الحديثة اعتبر هنا الوسيلة المثلى لإصلاح الأوضاع العربية والإسلامية.
والنص الأكثر شهرة نشر في صحيفة «العروة الوثقى» عام 1884 ومما يرد فيه: «علمتنا التجارب ونطقت مواضي الحوادث بأن المقلدين من كل أمة المنتحلين أطوار غيرها يكونون فيها منافذ وكوى لتطرق الأعداء إليها (...) فما الحيلة وما الوسيلة والجرائد بعيدة الفائدة ضعيفة الأثر لو صحت الضمائر فيها، والعلوم الجديدة لسوء استعمالها رأينا ما رأينا من آثارها، والوقت ضيق والخطب شديد؟».
يبدو النصان وكأنهما يمثلان وجهتي نظر متقابلتين في النهضة العربية، واحدة تدعو إلى الاقتباس من الغرب والثانية إلى العودة إلى الذات، واحدة تمثل تيار التحديث والثانية تيار التأصيل. لكنّ الحقيقة أنّ النصين صدرا عن جهة واحدة وهما الثنائي الأفغاني وعبده! ولا يمكن أن نفهم هذا الاختلاف في التفكير بين نصين يفصل بينها ثمان سنوات فقط إلا بأن نتذكر بأنّ هذه المدة القصيرة شهدت الاحتلال الأجنبي لمصر.
إذا صحّ أننا نشهد اليوم انطلاق نهضة عربية ثانية فعلينا أن نعتبر بأحد دروس الأولى، وهي أنّ عوائق النهضة داخلية وخارجية في آن واحد، وأنّ المشروع النهضوي لا يكون مجدياً إلاّ إذا ميّز بين التحديث والتغريب، وميّز بين الأصالة والمحافظة، كي يواجه عوائق النهضة بشقيها الداخلي والخارجي.

محمد الحداد

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...