تآكل الردع الإسرائيلي
من الواضح تماما أن إسرائيل رغم قوتها وقدرتها على محاربة ثلاث دول عربية مجتمعة، ورغم مرور 60 عاما على احتلالها واستنزافها، ورغم الدعم الدولي اللامحدود لوجودها ومدها بكل أسباب القوة، فإنها في انحدار وهبوط على كل المستويات المادية والمعنوية.
وأهم معالم ذلك هشاشة قدرتها الداخلية على الممانعة وتآكل قدرتها العسكرية على الردع الذي بدا واضحا في التأييد الشعبي الإسرائيلي المتفاوت لخطط الخروج من جنوب لبنان وما سمي فك الارتباط من قطاع غزة وما سمي لاحقا خطة التجميع أو الانطواء عن الضفة الغربية.
وحتى الجدار الفاصل رغم قسوته ومرارته فلسطينيا فإنه يحمل في طياته اعترافا إسرائيليا بالعجز عن تحمل أثمان المقاومة الفلسطينية وما تحمله من أبعاد سياسية واقتصادية وديمغرافية تهدد الوجود الإسرائيلي.
لذا أصبحنا نسمع الكثير من العبارات الإسرائيلية الداعية للحفاظ على "دولة إسرائيلية ديمقراطية"، وهي لغة ذليلة وانطوائية بعيدة عن العجرفة والغرور اللذين تعودت عليهما إسرائيل طوال الأعوام الـ50 الماضية التي اعتمدت خلالها على ضرورة الاحتفاظ بمجال أمني حيوي وعمق جغرافي رادع وحدود آمنة.
كل ذلك من المهم استحضاره وتوظيفه كتوطئة هامة في سياق فهمنا لأبعاد ومخاطر وافتراضات ما بعد عمليتي "الوهم المبدد" و"الوعد الصادق" وأسر الجنود الثلاثة، في تأكيد مدى الضعف الذي وصل إليه الجيش الإسرائيلي والردع المتقدم الذي باتت تشكله المقاومة الفلسطينية واللبنانية.
ولذا فإسرائيل المجروحة تحاول الدفاع هذه المرة عن كبريائها من جهة وإعادة ثقة الشعب الإسرائيلي بنفسه وجيشه، وهذا ما يؤكده التخبط والجنون في ضرباتها للآمنين من الفلسطينيين واللبنانيين.
لكن هذا لا يعني أن التطورات القادمة سهلة خاصة أن المقاومة الفلسطينية واللبنانية لهما قراءة جعلتهما واثقتين من امتصاص الضربات الأولى وصولا إلى اعتراف إسرائيل بندية المقاومة والتفاوض معها على أرضية مختلفة.
استندت قراءات المقاومة -ولاسيما اللبنانية- إلى ضرورة اتخاذ خطوة تخفف من الضغوط عن الجبهة الفلسطينية التي استهدفتها إسرائيل بالحصار والقتل الذي أزهق بسببه ما لا يقل عن 200 شهيد خلال شهرين، وكذلك لتخفيف الضغط عن سوريا المهددة بسبب حمايتها للمقاومة وموقفها الرافض للضغط أو طرد قيادة حماس بعد اختطاف الجندي في قطاع غزة.
يضاف إلى ذلك التأكيد لإسرائيل أن لإيران يدا طولى تستطيع أن تحمي حقها في السلاح النووي الذي تهدده إسرائيل وتنتظر الفرصة المناسبة لضربه، وكذلك إعطاء رسالة للعراقيين وخاصة السنة منهم أن حزب الله معهم في مواجهة الاستكبار الأميركي، وأنه نموذج شيعي مختلف.
وكان لافتا تحذير الأمين العام لحزب الله من مخططات الفتنة في العراق ضمن سياق عملية الوعد الصادق.
تحاول المقاومة أيضا تصدير الأزمة الداخلية اللبنانية على خلفية اغتيال الحريري إلى المرمى الإسرائيلي، ولاسيما بعد صدور القرار رقم 1559 من مجلس الأمن ضد المقاومة والوجود السوري في لبنان، الأمر الذي أغرى بعض الأطراف اللبنانية -وبتشجيع أميركي وإسرائيلي- بالمطالبة الجهرية بنزع سلاح المقاومة.
كذلك علينا أن لا ننسى أن جزءا من الأراضي اللبنانية ما زال محتلا، كما أن الاستفزاز الإسرائيلي ضد السيادة اللبنانية استفزاز يومي عبر الطلعات الجوية المتكررة وشبكات العملاء التي نفذت العديد من الاغتيالات.
بالمقابل وعلى الصعيد العسكري يبدو أن المقاومة تحاول استغلال حالة الضعف الإسرائيلية بتآكل ردعها الذي يقابله استعداد مناسب وجيد للمقاومة يراد له أن يستثمر في تغيير قواعد اللعبة.
غير أن المقاومة تظهر وكأنها مقيدة بواقع التزامات التسوية كحال حماس أو بواقع عدم الرد المبالغ به كحال حزب الله.
من الواضح أن الرد الإسرائيلي يتعدى الرد المفترض، وهو رغم أنه معد في أرشيف وخطط القيادات العسكرية فإنه يحمل في فلسفته الانتقام أكثر من السياسة، وفيه انجرار صناع السياسية الإسرائيلية الجدد وراء مغامرات العسكريين وتعطشهم الدائم للحرب.
كما أنهم وجدوا في التصعيد ما يخدم إبعاد عوامل الفشل عن كواهلهم في قضيتي الاقتحام والأسر النوعيتين.
لكن علينا الاعتراف أيضا بأن السياسيين الإسرائيليين -وبدعم أميركي وربما بهمس عربي- يريدون التخلص من حكم حماس في الضفة الغربية وقطاع غزة ومن قوة حزب الله في لبنان، بإذكاء المفاعيل الداخلية الفلسطينية واللبنانية ورفع الكلف المادية لآلة التدمير والحرب الإسرائيلية، ومن ثم خلق تحرك شعبي ضاغط على حماس أو تحرك طائفي أغلبي لتدجين سلاح حزب الله.
بالعموم هذه المراهنات الإسرائيلية تكتيكية في حساباتها ومغامرة في معطياتها في ضوء أن الهجوم الإسرائيلي يقوي أولا شعبية حزب الله وحماس، ويخلصهما من تحديات مقيدة لعملهما وشرعيتهما مثل اتفاقات أوسلو أو القرار 1559.
وثانيا، ومهما كان حجم الخلافات الداخلية حول توقيت وآلية المقاومة فلن تجد إسرائيل حليفاً معها ينتصر لمنطقها أو يجرؤ على طعن المقاومة من الخلف ولاسيما مع ضجيج القنابل واشتعال الدم واستشهاد العجائز والأطفال.
هذا إذا افترضنا أن المقاومة عبارة عن خلايا أو بضع عشرات من الناس، فكيف إذا كانت هذه المقاومة في عمق شعبي حاضن وقوي؟ إذا خسارة إسرائيل على المدى الطويل محققة، ويساعدها في ذلك أيضاً أن ضربات إسرائيل مهما بلغت فداحتها فإنها ستبقى محدودة في ضوء أنها لن تغامر بدخول لبنان أو قطاع غزة لأنها ستدفع حينئذ أثماناً بشرية عالية.
وعليه فإن القوة الإسرائيلية ستكون محدودة ومقيدة، ولذا فهي تراهن على عامل الوقت والوقت القصير جداً، وهذه النقطة تسجل لصالح المقاومة أيضا.
أما العامل الثالث المساعد للمقاومة فهو ضعف الساسة الإسرائيليين تجاه الرأي العام الداخلي، ولذا فنصف مليون إسرائيلي الذين ينامون في الملاجئ لن يصبروا على هذه الأحوال، وتجارب كريات شمونة التي خبرت هذه الوضعية ستحفزهم على الصراخ مبكرا تحديا لجدوى استمرار إسرائيل في عملياتها.
في البعد الإقليمي يتضح أن الضغط العربي الرسمي على المقاومة يساهم في إحراجها كي تتبع سياسة التصالحية مع إسرائيل، ولكن الصوت الرسمي الضعيف شعبياً والمتهم بالاستبداد لن يقوى على خذلان المقاومة وبالتالي مناصرة إسرائيل حتى النهاية، لأن القوة الإسرائيلية بلا عقل ولا كوابح وسيكون ذلك محرجا لهم.
والأهم أن المقاومة لا تراهن أصلا على النظام الرسمي وهي تعرف جيدا مواقفه وقواه الذاتية، ولذا فهي تراهن على الشعوب العربية التي أثبتت -رغم ضعف تحركها- أنها قوة ساكنة قد تنفجر في اتجاهات تهدد استقرار الأنظمة العربية التي بالغت في استبدادها وبرودتها تجاه الجرح الفلسطيني واللبناني الملتهب.
في البعد الدولي لا تستطيع إسرائيل الارتياح رغم الغطاء الأميركي نظرا لتعدد البؤر الملتهبة، وبالتالي حاجة الولايات المتحدة إلى تسويات في ملفات أخرى تضطرها لضبط الإيقاع الإسرائيلي الحربي، خاصة أن ملفات مثل العراق وكوريا الشمالية وإيران ستضطر واشنطن للبحث عن تضامن دولي يطالبها في المقابل بكف يد إسرائيل أو ضبط قوتها.
وقد لاحظنا وتيرة ذلك في المواقف الروسية والصينية والفرنسية التي هي بالمناسبة أفضل من المواقف العربية.
يضاف إلى كل ذلك أنه لا إسرائيل ولا حتى الولايات المتحدة تملك إجابات أو رؤية عن الإجابات الحاسمة على سؤال ما بعد تحقق أهدافها، فماذا بعد إنهاء حكم حماس؟ وماذا بعد استئصال حزب الله؟
وهل حقا أن الخارطة المشكلة بعدهما ستخدم المشروع الإسرائيلي والأميركي في المنطقة، إذ تنهي إسرائيل حكم حماس وتضعف حزب الله باستخدام القوة العسكرية والروافع الداخلية والإقليمية والدولية المساندة.
ولكن إسرائيل بالقطع ستغامر بخسارة التسوية والهدوء واستقرار المنطقة ككل، خاصة أن التاريخ يعلمنا أن المقاومة المستضعفة سرعان ما تجد الظروف والمناصرين لاسترجاع قوتها وإعادة الكرة من جديد.. فما بالكم بمقاومة عقدية؟
في ظل كل ذلك على ماذا تراهن إسرائيل؟ وإلى أين تذهب؟!
يحمل المستقبل ثلاث سيناريوهات لكل منها قدر من الإمكان رغم تفاوت ذلك القدر.
الأول سيناريو الحرب (الفوضى)، وهو الذي يفترض توسع نطاق الضربات المتبادلة ليشمل سوريا وإيران ولبنان وفلسطين. ولكن هذا السيناريو مخاطره كبيرة جدا وعواقبه لن تحتملها إسرائيل فضلا عن الولايات المتحدة، لأنه يهدد مستقبلهما في المنطقة ويضعف المشروع الأميركي في العراق ويقامر باستقرار الأنظمة الحليفة لها.
ولذا لا نرى أن لهذا السيناريو وزنا كبيرا لأن مصالح جميع الأطراف لا تريد الوصول إليه، كما أن الدول الكبرى لا تساند الولايات المتحدة في الوصول إليه لتعارض مصالحها هي الأخرى معه، ناهيك عن ضعف شعبية الرئيس الأميركي جورج بوش إلى أدنى مستوى وترنح حليفه توني بلير تحت سطوة الفضائح.
الثاني سيناريو اللاحرب واللاستقرار (التأرجح) الذي قد يقود يوما إلى الحرب ويوما إلى الاستقرار، وهو سيناريو يفترض عدم اعتراف إسرائيل بواقع الردع الذي يملكه حزب الله، وعدم اعتراف الحزب بواقع الاستقطاب اللبناني المتناقض حول المقاومة وجدواها، ما سيبقي حالة المواجهة في وتيرة تعلو تارة وتنخفض أخرى.
ولكن هذا السيناريو مشكوك فيه أيضا لأن الساحة الإقليمية وحتى الدولية لا تقوى على سيناريو يشعل الجبهة اللبنانية، وهو بالذات يناقض الرغبة الأميركية ولا تقوى عليه الجبهة الداخلية الإسرائيلية وسيخلق انقساما حادا في الساحة اللبنانية مع ارتفاع وتيرة المقاومة.
أما الثالث فسيناريو الاستقرار (التوازن) فيفترض توصل الأطراف إليه إما حسب المعادلة القديمة بتفاهم غير مباشر على حدود المقاومة وسقف العدوان ضمن توازن الرعب السابق، وإما حسب توازن جديد ينتهي إليه الأمر تتوقف بجانبه صواريخ المقاومة مقابل توقف شكل من أشكال العدوان.
وهذا السيناريو البعيد عن طموح إسرائيل والقريب من آمال المقاومة لا يبدو بعيدا، خاصة إذا أنجزت المقاومة صفقة مع إسرائيل حول جنودها المخطوفين. ولعلنا نلمس في التاريخ الإسرائيلي ما يؤيد مثل هذه الصفقات، كما أن التصريحات الإسرائيلية السرية والعلنية تتضمن ذلك على الأقل في قضية جلعاد شاليط الأسير لدى حماس.
وهم سيصلون إلى ذات الاستنتاج في لبنان بعد انتهاء الأهداف المعدة للضرب وتأكدهم أن لا جدوى من المراهنة على استئصال حزب الله لكونه يملك قاعدة شعبية لا يمكن لصناعة السياسة اللبنانية أن تغيبها.
ويزيد من قوة هذا السيناريو محدودية الأهداف الإسرائيلية وإمكانية قبول الأغلبية الحاكمة في لبنان لنشر هش للجيش اللبناني مع انسحاب إسرائيلي عن معظم الأراضي التي بقيت محتلة وإفراج عن الأسرى اللبنانيين.
المصدر : الجزيرة
إضافة تعليق جديد