(تياترو)..من صمت الورق.. إلى ضجيج الخشبة!!..
يوماً بعد يوم..وحكاية عن حكاية .. يترسخ الاعتقاد بأن المسرح هو أكثر الفنون قدرة على هضم فكرة التطعيم.. تطعيمه و جعله يتشرب ممتزجاً مع غيره من فنون..
ليغدو أباها الأوحد, عبر علاقة حقيقية جدية توحد بين عديد أنواع الإبداع. هكذا يغوص بحكاية ما, على سبيل المثال, يأخذ فكرتها وروحها.. يمسرحها على الخشبة .. أداءً وصوتاً, حركة .. موسيقا , غناءً و حتى رقصاً .. فيخلق روحه الساحرة الصادمة حدّ اللامعقول , كما يفترض بها أن تكون.. متحررة من كل تقليد.. من كل عادي.. وربما من كل متوقع.
ولهذا وتحت سلطة المسرح و حده.. يغامر البعض فيقدم على مسرحة نصوص أو مجرد أفكار ليست من جنس النص المسرحي.
عبر هذا الفهم لطبيعة الخشبة يتورط باسم قهار تورطاً جريئاً في تحويله رواية (تياترو 1949 ) لفواز حداد إلى عرض بذات الاسم - إعداد : وائل سعد الدين.
- تدور أحداث الرواية في فترة ما بعد النكبة 1948, و ما نجم عنها من انكسارات على كافة الأصعدة الحياتية- عامة, خاصة- هي الخلفية الدرامية المقترحة التي تزدحم في ظلها الكثير من الوقائع والمصائر.. تعوم على سطحها قصص شخصيات ستروي الحكاية كما تراها و كما ترغب بنقلها..
فنتعرف على ( حسن فكرت- زيناتي قدسية) السوري المغترب العائد إلى دمشق ليؤسس مشروعه المسرحي..
(صبحي عباس- مروان أبو شاهين) الصحفي المثقف الراغب في التنقيب وراء الحقيقة وإعلانها حتى لو كانت عبر المسرح فقط.
(أسعد كسوب- شادي مقرش)الضابط الذي أصيب في حرب 1948م, ليكون أثر هذه الحرب - النكبة عليه( عطباً) داخلياً أكثر منه خارجياً شكلياً ..بالإضافة إلى عزوز.. نوال.. و غيرهم.
منذ بداية العرض يتحرر باسم قهار من وطأة الحدث السياسي الأبرز (النكبة) .. يتحرر من ثقل معالجة هكذا موضوعة بأبعادها السياسية, مسرحياً.. مدركاً أن طبيعة ( الخشبة) لا بد أن تختلف عن طبيعة ما تحمله ( الأوراق ) حتماً..
إنه المسرح ( الخيال) كما يراه و لا شيء آخر.. ولهذا سينفتح أفق الخيال هذا على مصراعيه لدى القهار, وعلى أكثر من مستوى .. و كل منها سيكون لغة منفردة عن غيرها بمقدار ما هي لغة (مستوى) مرتبطة بغيرها.. مشكلة كلاً موحداً هو الرؤية البصرية.. في جانبيها السينوغرافي والأدائي( الجسد)..
سينوغرافيا قسمت الخشبة إلى أكثر من (مستوى- حيز) .. الأول هو مقدمة الخشبة و الثاني يتمثل في العمق.. الذي يقسم بدوره إلى حيزين: علوي و سفلي..
وكثيراً ما سيتواجد الممثلون في المستويات الثلاثة و بذات اللحظة.. و كل منهم يشارك ضمن حيز يستقل بمجرياته عن مجريات حيز الآخر..
هندسة سينوغرافية ساهم في تمكينها اعتماد تقنية( المسرح داخل المسرح) . فنحن أمام حدث درامي يوازيه حدث البروفا المفترضة التي يقودها المخرج (حسن فكرت).. أحياناً تتم في الأعلى و أحياناً في مقدمة الخشبة.. وفي بعض الأحيان سيتم الخلط ما بين الحدثين.. بمعنى قد تتطلب البروفا لتصبح حقيقة(كما في مشهد انقلاب حسني الزعيم) إذ يغدو التمثيل واقعاً..
و كأن هذا الخلط جاء مقصوداً متعمداً .. خلط في مكان البروفا.. خلط و مزاوجة في أداء دور ( حبيب رزق الله) الذي أداه- زيناتي قدسية وقصي قدسية- ثم خلط بين عالمي البروفا والعالم الحقيقي المزعوم.
و النتيجة هي في إمكانية التساؤل أيهما الحقيقة و إيهما البروفا- الوهم..
على ما يبدو أنه حتى البروفا بدت أكثر استمرارية و حقيقة من ( بروفات) الانقلابات العسكرية تلك.. بقيت وكأنها بروفات لا أكثر ولا أقل , لأنها لا تمتلك عنصر الديمومة.. هي زائلة.. و هنا تختلط اللعبة المسرحية باللعبة السياسية و تنفتح كواليس كل منهما على الأخرى..
إلى جانب هذه الهندسة السينوغرافية , نلحظ إشارات ( جسدية) لا تقل أهمية عن تلك السينوغرافية..
من أبرزها .. اليد البيضاء التي يرتديها (أسعد كسوب) .. دلالة على أنها مصابة.. ليست سوى عبارة عن اليد المعطوبة لأسعد في معناها القريب, و تبقى رمزيتها موجهة نحو عطب يد نظام الانقلابات الذي حل في تلك الفترة.. هو بشكل أو بآخر أحد رجالات تلك المرحلة- وإن كان ضحية- هو أداة من أدوات تلك العقلية- لكنها معطوبة- كما تبين نهاية.إشارة أخرى بصرية.. هي ظهور قلب( عزوز- مازن عباس) مرسوماً بالأحمر ..على جسده.. يقوم بإزالته .. ماسحاً إياه.. إنه يلغي قلبه, و بالتالي حبه ل (نوال)..
إشارات كانت أبلغ من محكي الكلام.. تخاطب العين و صولاً إلى أعمال العقلي .. عبر استخدام افتراضات و احتمالات عالم الخيال الممكنة والمتاحة..
ولهذا فإن اللعبة المسرحية في ( تياترو) هي لعبة بصرية.. تنجو بنفسها بعيداً عن( هيمنة الكلام).. فساهمت الاقتراحات و الحلول الإخراجية بإغناء مشهدية العارض.. إلا أن الأمر لم يخل من سلبيات, تمثلت أحياناً بعدم وضوح الصوت نتيجة بعد الممثل, عندما كان في عمق المسرح في مستواه الأعلى .. ما أدى إلى عدم فهم بعض مجريات الأحداث..
ومع هذا فإن الآلية البصرية المتبعة تظهر منذ المشهد الاستهلالي..
الذي يبدو فيه الجميع بوضعية سكونية.. إذ يستخدم القهار تقنية (الستوب كادر) مع الإدفاق بالإضاءة تعبيراً عن مرور الزمن.. تكثيفه .. و كأنه يبغي الوصول إلى أرشيف زمن مضى, هو أرشيف تلك الشخصيات..
و مع أنها شخصيات مؤرشفة.. إلا أن تساؤلات العمل لها أن تنسحب إلى واقع الزمن الراهن .. و إن كانت الأحداث قد جرت بعد النكبة..
لميس علي
المصدر: الثورة
إضافة تعليق جديد