أحلام شقية لنائلة الأطرش... بين سرير الواقعية وتجريد الحلم المنزلق!!
كان جواب السيدة «نائلة الأطرش» عن سبب اختيارها لنص «سعد الله ونوس» أحلام شقية بالذات: «ليش؟.. ما بعرف ليش»! وقد بدا هذا الجواب منطقيا، رغم التعقيبات التي تلته في لقاءات أخرى بأن ما كان يشدها إلى النص هو أنه لـ«سعدالله ونوس»، المدرج ضمن برنامج احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية إحياء لذكرى وفاته الحادية عشرة، ليأتي خيار «أحلام شقية» وكأنه الخيار الوحيد نظرا لأن أعمال «ونوس» قد تمت مسرحتها، فكان التحدي الصعب أمام «نائلة الأطرش» التي قدمت ذات مرة «الرهان» كنموذج جميل عن العروض التي تسنى فيها للممثل أن يكون حاضرا بطاقته الداخلية على الخشبة، لذلك بدا متوقعاً من الدكتورة «الأطرش» أن تنحى باتجاه نصوص أكثر معاصرة وأكثر تجريباً لتقديم شكل يحاكي تجربتها الغنية التي تمتلكها.
إن كان في التدريس أو في إخراج الكثير من العروض المسرحية ومشاركاتها حول العالم، لنجد أنه لم يكن خيارا موفقا أن تقحَم في دخولها إلى نص ذي طبيعة خاصة بعيد عن حياتنا وعن التذوق العام والمعاصرة. ورغم محاولتها التدخل بالتعديل والإضافات إلا أن «نائلة الأطرش» لم تتمكن من تخليص النص من إغراقه في الواقعية المحلية والمباشرة ومن أسلوبه السردي القريب من الروائي الذي يعتبر أحد سمات الكتابة عند ونوس في تلك المرحلة، حيث كان «أحلام شقية» بداية ولوج «ونوس» إلى عالم علاقة الرجل بالمرأة وتعرضه لمناقشة تلك الثنائية ومشاكلها التي تحصل في سياق ظرفها الاجتماعي والسياسي فأرخت ووثقت لمرحلة الخمسينيات من عادات وتقاليد وظواهر كانت تلمس العشائري القبلي الريفي في المجتمع السوري. لتتعقد هذه العلاقة فيما بعد وتأخذ أشكالا وأبعادا أكثر عمقا وتشعبا في أعمال «ونوس» اللاحقة كما في «الأيام المخمورة» و«طقوس الإشارات والتحولات»، ليكون الحامل الفكري للنص المختار يعبر عن تلك الكلاسيكيات الخطابية التي تبنت شعارات الدفاع عن حقوق المرأة والنهوض بوضعها أمام الاجتماعي وسيادة الرجل الذي يحشرها في الأماكن المظلمة من الحياة، كمنعها من التعليم وتزويجها حين بلوغ الخامسة عشرة من ابن عمها، حسب البنية المجتمعية العشائرية التي كانت سائدة، لتأتي مطالبة العمل بمنحها حق الحب وحق تغيير زوجها بآخر، إذا رغبت بذلك! كان واضحاً منذ البداية بأن «نائلة الأطرش» تعول على الشكل الفني الذي تريد أن تقدمه على حساب البناء الدرامي للشخصيات، التي بدت وكأنها قادمة من اللازمان واللامكان. بدأت حكايتها من ذروة التأزم الذي سينتهي إلى موقف حاسم بعد قليل، فلم يتسن لنا الدخول إلى تفاصيل عملية تشكلها الأخيرة ضمن دائرة ظرفها الحياتي وأزماتها، لذلك لم تلمسنا كل تلك الدموع الكثيرة التي ذرفتها الممثلة القديرة «نجوى علوان- ماري» على المسرح. مثلما ظهرت الشخصيات الأربع في العالم الواقعي المقترح كمرادفات لصفات، قسّم عبرها الرجال والنساء إلى مجموعات، فكان الرجل عبارة عن الخطأ الأزلي والقسوة والسواد. أما المرأة فكانت المظلومة والمقهورة والبياض، وبقيت تلك المونولوجات الطويلة السردية على حالها، وبلحظة سيقف الزمن ويتجمد المشهد كصورة فوتوغرافية لوضعية تم اختيارها لـ«نجوى علوان» لم يتمكن من كسرها السرد المونوتوني لـ«غادة- ناندا محمد»!
وما زاد من وطأة الظل الثقيل هو ذلك الشكل الفني الذي اختارته «نائلة الأطرش» للاشتغال على النص، عندما مزجت بين الواقعية والتجريد- وأشياء أخرى- كرست وجود ذلك الجدار الكتيم بيننا وبين التأثر، فكانت الشخصيات أنصاف موات تمشي وتتكلم وتعيش وكأنها نائمة؛ ولكن دون أن تنسى تلك الشخصيات تغير مكان السرير ليبدأ مشهد آخر، أو دون نسيان مراقبة حركة الأقدام لألا تنزلق وهي تنزل ذلك المنحدر الخشبي السينوغرافي الشرطي؛ الذي كان مساحة الحلم العابر من زمن الجريمة التي ارتكبها الأخ- الجار الجديد فقتل أخته «رغد مخلوف» التي كانت حبيبته البدئية، ليعوض حبه المكبوت والمطعون بيده رغما عنه في نساء «ونوس» ويكون بالنسبة لهن ذلك «الرجل» الحلم، الذي ظل في مساحته المخصصة من حلم «الأطرش» التي جعلت من مسكنه منبع الضوء الأقوى في الزاوية القصوى العالية بالنسبة للمستوى الثاني، ليتدرج خافتا إلى المكان الأكثر عتمة في مساحة الواقع، صممها ونفذها «بسام حميدي»، كمقاربة إلى ما أرادته «الأطرش» من «الحلم» ومن مستواه السينوغرافي الذي صممته «بيسان الشريف» والذي تعددت ايحاءاته ودلالاته، كذلك الاستخدامات كحلول إخراجية اشتغلت عليها «الأطرش» لتنقل إليها «الرجال» من مستواهم الواقعي الأرضي لقتل «الجار»، غريمهم العاطفي، على عكس السرير ومكوناته التي حملت دلالاته مباشرة واقعية على الحياة الزوجية المنكسرة دائماً بالرجل لتضيف «غادة» جملتها الصارخة اعتراضا على ما فعله زوجها بالجار حبيبها: «هل أنت الحاكم بأمر الله؟»!! وعلى عكس واقعية السرير وإيحاءاته كان غطاؤه الخارجي لقماش من «الموسلين الأوركانزا» الخفيف، في طقس بارد جداً ورد في حوار «فارس- كفاح الخوص» في المشهد الأول يطلب فيه من زوجته أن ينام بقربها لأن البرد شديد، ويضيف: «في هذا العمر نحن بحاجة إلى التعاطف»، ليظهر لنا هذا الرجل الذي يعاشر المومسات، وعيا بدا بعيداً عن بنية شخصيته المفترضة في النص، مثلما أظهر بعدا عن جماليات العربية الفصحى التي بان تقعرها وتلبكها بنفس الدرجة التي ظهرت فيها فجاجة العامية التي لونت بها حوارات «كاظم- جمال سلوم» زوج «غادة»، حين أظهر ذلك الشرطي القبلي وعيا متقدما- غريبا- أيضا، عند معرفته بأن زوجته تحب ذلك الجار «شادي مقرش»، فيسألها بحب وخجل: «هل أنت يائسة إلى هذه الدرجة»؟ لنحس بأننا أمام رجل حضاري عصري، يظهر تفهما لا ينسجم مع ما يقترحه النص لهذه الشخصية كإشكالية لها علاقة بذكورة التفكير وردة الفعل، بعد أن كان يضربها لأتفه الأسباب.
وبين التجريد والواقعية لم يكن ممكنا إلا أن نرى تداخل الأساليب الإخراجية مع بعضها حين كان ذلك الإصرار على تغير الملابس للمرأتين بين ملابس النوم وملابس النهار كتجسيد مباشر للواقعية، مثلما كانت الملاءات الطويلة البيضاء التي التفت بها الممثلتان كأكفان بحركة قريبة إلى الرقص، لتبدو سيادة المخرج على العرض في أبهى حللها..!!
فاديا أبو زيد
المصدر: الوطن السورية
إضافة تعليق جديد