وزير المالية ومغالطاته الصحفية
أكد د. الياس نجمة، أستاذ الاقتصاد المالي في جامعة دمشق، أن لديه الكثير من الملاحظات على تصريحات وزير المالية الأخيرة التي نشرت في الصحافة الرسمية السورية..
يقول د. نجمة:«أولا: يتضمن عنوان: (مساهمة القطاع العام تراجعت 20 %، والخاص وصلت إلى 62 %).. الكثير من الخلل، وكنا نتمنى أن يستخدم السيد الوزير لغة متكافئة وحيادية بهذا الشأن، فلا نتكلم من جانب عن تراجع لدى العام، ومن جانب آخر عما وصلت إليه النسب لدى القطاع الخاص، في محاولة للإيحاء بميزة كمية ونوعية للقطاع الخاص في مسالة الإيرادات الضريبية، علماً أن الواقع غير ذلك. فإذا كانت نسبة مساهمة القطاع العام من الضرائب والرسوم قد تراجعت بنسبة 20 % منذ عام 2004، فتجب الإشارة أيضا إلى أن نسبة مساهمته في تكوين الناتج المحلي الإجمالي قد تراجعت بنسبة مماثلة تقريباً، علماً أن قضية مساهمة القطاع العام من الضرائب والرسوم أعمق وأعقد من ذلك بكثير. وفي جميع الأحوال إذا كان القطاعان العام والخاص، يورد الأول منهما 38 %، ويورد الثاني 62 % من الضرائب والرسوم حسب السيد الوزير، فهل هذه الأرقام والنسب تريد أن توحي لنا ضمناً بأن القطاع الخاص يسدد حصته وما هو متوجب عليه من الضرائب والرسوم، وأن لا تهرب ضريبي فيه»؟
وتساءل د. نجمة:
«كيف يمكن الكلام عن مستوى الضرائب والرسوم الموردة من كلا القطاعين العام والخاص دون الأخذ بعين الاعتبار نسبة مساهمتهما في الناتج المحلي الإجمالي، ودون النظر إلى معطيات مالية واقتصادية واجتماعية مختلفة، وبمعزل عن مستوى الأرباح الحقيقية المتحققة في كل قطاع والتي تشكل عنصراً أساسياً في تحديد حجم الضرائب المتوجبة؟؟ نحن نعتقد أنه إذا أخذت هذه العوامل المذكورة آنفاً بعين الاعتبار، لظهر لدينا واقع ضريبي ومالي في كلا القطاعين العام والخاص يختلف عن الواقع الذي أوحى به إلينا اللقاء الصحفي للسيد الوزير. يقول السيد الوزير إن السقف الأعلى لضريبة الدخل أصبح 28 %، وللشركات الاستثمارية أصبح 22 %، ولكنه مع الأسف، أغفل ذكر – لأسباب لا حاجة لذكرها- أن نسبة ضريبة الدخل على الشركات المساهمة هي 14 %، وهذه النسبة هي أدنى من ضريبة الدخل على شريحة الرواتب والأجور التي تزيد عن 20 ألف ليرة شهرياً والتي تبلغ 20 %.
فهل يعقل أن تكون نسبة ضريبة الدخل على الدخل الناتج عن رأس المال أدنى من نسبة ضريبة الدخل على الدخل الناتج عن العمل؟!
علماً أن الشركات المساهمة لدينا في معظمها هي شركات ذات ربحية عالية كالمصارف وغيرها، وبعضها حصل على إعفاءات ضريبية مجزية في فترات الإنتاج الأولى».
يضيف د. نجمة: «ثانياً: يقول السيد وزير المالية إن العبء الضريبي في تونس 21 %، وفي المغرب 21.3 % ...الخ، وإنه في سورية 17 % من الناتج المحلي الإجمالي – علماً أن السيد الوزير نفسه كان قد أعلن وصرح في مناسبات أخرى عن أرقام عديدة أخرى للعبء الضريبي السوري، تراوحت بين 15 و19 %. ولندع ذلك جانباً، ونعود إلى صلب الموضوع، وهو أن السيد الوزير استنتج من عرض أرقام العبء الضريبي في تونس والمغرب وسورية أن التهرب الضريبي لدينا هو 4 % من الناتج المحلي الإجمالي، أي الفرق بين نسبة العبء الضريبي في تونس ونسبة العبء الضريبي في سورية! وهنا لابد لنا أن نسجل بأن هذه الطريقة في حساب التهرب الضريبي تعتبر إضافة جديدة في علم المالية العامة وحسابات التهرب الضريبي!. ولكن بتواضع شديد، هل يسمح لنا السيد الوزير بأن نسأل: ألا يوجد تهرب ضريبي في تونس وفي المغرب؟ وهل هذه البلدان هي المرجع في قياس النزاهة وانتفاء التهرب الضريبي حتى نقيس عليها؟
ألا تقتضي الأمانة العلمية والسياسية – والسيد الوزير يتكلم من موقع سياسي – أن نقول على الأقل إن التهرب الضريبي لدينا هو أعلى بما مقداره 4 % من الناتج المحلي الإجمالي السوري، عما هو موجود في تونس والمغرب البلدين اللذين تم الاستشهاد بهما، وذلك بحسب منطق السيد الوزير في قياس التهرب الضريبي؟ علماً أن هذه الـ4 % من الناتج المحلي الإجمالي السوري لعام 2007 تساوي تقريبا 75 مليار ليرة سورية، وتساوي تقريباً
25 % من مجمل حصيلتنا الضريبية للفترة نفسها، علماً أن السيد الوزير نفسه كان قد صرح على صفحات جريدة تشرين في نهاية عام 2004 بأن التهرب الضريبي هو في حدود 200 مليار ليرة. فما هو الوضع الآن؟! علماً أن زيادة الحصيلة الضريبة منذ عام 2004 وحتى الآن، هي أقل بكثير من نسبة زيادة الناتج المحلي الإجمالي للفترة نفسها بالأسعار الجارية.
ثالثا: إن التطور بالإيرادات الضريبية حسبما جاء في كلام السيد الوزير أن إيرادات الضرائب عام 2000 كانت 179 مليار ليرة، وعام 2007 بلغت 307 مليار ليرة، وهي أرقام تحتاج إلى تدقيق، ومحل جدل كبير من المختصين في طريقة حساب هذه الأرقام- ولن ندخل في هذا النقاش الآن- ولكن ألا يعتقد السيد الوزير أن هذه الزيادة، إذا ما أخذت بعين الاعتبار معدل التضخم، وإذا حسبت بالأسعار الثابتة لعام 2000 تصبح شبه معدومة؟!
وألا يعتقد أيضا أن القوة الشرائية لـ 179 مليار ليرة عام 2000، هي أكبر من القوة الشرائية لـ307 مليار عام 2007، وذلك بفعل التضخم الذي كان للسياسة المالية دور كبير في صنعه»؟.
رابعاً: وعن عجز الموازنة لعام 2008، يعلق د. نجمة على كلام وزير المالية قائلاً:
«يقول السيد الوزير إن عجز الموازنة كما تشير التقديرات سيكون 9.8 % من الناتج المحلي الإجمالي لهذا العام، في حين أن مشروع الموازنة العامة للدولة لعام 2008 ينص على وجود عجز بحدود 192مليار من أصل 600 مليار، هي مجموع الموازنة، أي 32 % من مجمل الموازنة، وهي تساوي أيضا 10.3 % من الناتج المحلي الإجمالي. علماً أن العجز سببه ضآلة الموارد وليس ضخامة الإنفاق، فالإنفاق العام لدينا هو في حدوده الدنيا، فنصيب الفرد منه في سورية لا يتجاوز 600 إلى 650 دولار سنوياً، في حين أنه أكثر من ذلك في جميع الدول المجاورة، بما فيها لبنان والأردن، كما أنه في عام 2008 إذا قيس بالأسعار الثابتة هو أقل مما كان عليه عام 2007، وذلك وفقاً لأرقام الموازنة العامة للدولة لكلا العامين. كما أن أرقام العجز لهذا العام غير مسبوقة لدينا منذ الاستقلال وحتى الآن. وهي أعلى بكثير من الدول المجاورة وغير المجاورة كما كانت منتظرة، وقد نبهنا إليها في محاضرة ألقيت في أيلول 2003 في ندوة الثلاثاء الاقتصادي».
خامساً: أما عن الجمارك فيؤكد د.نجمة أن «الجميع متفقون أن هناك خللاً في الجمارك، وأنا شخصياً عندما كنت رئيساً للجنة الموازنة والحسابات في التسعينات من القرن الماضي، بينت لمجلس الشعب عام 1996 وفقاً للوثائق التي قدمها إلينا آنذاك الأستاذ الدكتور سليم الحص رئيس وزراء لبنان الأسبق، والتي توضح أن الرسوم الجمركية في لبنان فاقت بأكثر من ثلاث مرات الرسوم الجمركية في سورية رغم انخفاض المعدلات لديهم وتماثل نسبي في حجم المستوردات، ويبدو أن الأمر مايزال كذلك. ونحن نؤيد السيد الوزير بأن العملية صعبة ولا تحل بين ليلة وضحاها، ولكن نحن نعرف أن السيد الوزير يشغل منصبه الحالي منذ خمس سنوات تقريباً، فماذا فعل خلال هذه السنوات الخمس؟!
سادساً: اطلعنا منذ يومين على تصريحات منسوبة إلى السيد وزير المالية، تقول إنه سيستخدم عائدات سندات الخزينة لتمويل عجز الموازنة، وذلك حتى لا يلجأ إلى التمويل التضخمي عبر الاقتراض من المصرف المركزي كما كان يجري سابقاً، علماً أن السيد الوزير كان قد أعلن في تصريحات سابقة له أمام الصحافة، أنه لن يستخدم عائدات سندات الخزينة حين طرحها في السوق لتمويل عجز الموازنة، بل سوف يستخدم عائداتها للتمويل الاستثماري.
إننا نشير إلى هذه المسألة نظراً لخطورتها، وهي تحتاج لنقاش علمي وعميق وجدي من أصحاب العلم والمعرفة النظرية والعملية في هذه المسائل، حتى لا ننتقل من تطرف في السلوك المالي إلى تطرف لا يقل عنه خطورة، وحتى لا نعرّض الخزينة العامة لتحمل أعباء قروض قاسية وبفوائد عالية ومتصاعدة بسبب ما ستحدثه من آثار على معدلات الفائدة في السوق المالية الداخلية.
ونخشى – وأقول نخشى- أن تكون هذه الخطوة التي أعلن عنها السيد الوزير أمام مجلس الشعب، قد جاءت استجابة لطلبات ورغبات المصارف الخاصة التي تملك فوائض بودائعها، وترغب بتوظيفها بسندات خزينة والتي لم تنجح حتى الآن، لأسباب تتصل بها، بتوظيفها في قنوات استثمارية منتجة داخل الاقتصاد الوطني، علماً أن هذا الهدف كان المسوغ الرئيسي وأحد أهم مبررات السماح بقيام مصارف خاصة لدينا».
وفي الختام أكد د.نجمة «كنا ننتظر من السيد وزير المالية أن يحدث الإعلام والناس عن الآثار التضخمية الخطيرة الناجمة عن رفع أثمان المواد التي تتحكم الدولة بأسعارها، وعن الآثار الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن رفع أسعار المشتقات البترولية سواء على صعيد المستوى المعاشي العام للمواطنين وعلى صعيد الاستثمار والنمو الاقتصادي، أو على صعيد توزيع الدخل القومي داخل المجتمع السوري.
ألا يعتقد السيد الوزير بأن التضخم يؤدي دائماً إلى تمزيق المجتمع وإلى إفقار الفقراء وإغناء الأغنياء وإلى الركود المصاحب للتضخم «الركود التضخمي» الذي أصبح واقعاً يومياً ملموساً ومعاشاً؟!.
كنا ننتظر أن يتطرق السيد وزير المالية لهذه المسائل الهامة والخطيرة، وأن يعرضها بما تستحق من عناية واهتمام، وأن يبيّن ما هي الحلول المقترحة منه للتصدي لها ومعالجتها، خصوصاً أنها بغالبيتها تتصل بصميم المهام والمسؤوليات المناطة به رسمياً».
المصدر: قاسيون
إضافة تعليق جديد