السياسات الاقتصادية في سورية: الواقع المتدهور والحلول البديلة
الجمل- أسامة الماغوط: تعبر أي شارع في دمشق أو أي مدينة أو قرية لا بد وأن تلاحظ وجوه الناس الكئيبة ،العيون الشاردة ،والحزن الذي يلف الناس، لو سألت أي مواطن مهما كان عمره ،سيحدثك عن عشق انتمائه لهذا الوطن واستعداده لبذل الغالي والرخيص للحفاظ على كرامته وسؤدده.. والذي تحمل أبناؤه كروب الدهر ،وصمدوا في أصعب الظروف وبقي وطنهم حرا،عصيا على المؤامرات عبر تاريخه،وحين يكون الوطن عرضة لتهديد أو وعيد تجد الناس استنفرت وتراصت بوحدة وطنية لا أجمل ولا أغلى.. ونتساءل إننا أبناء هذا البلد الجميل والكبير المشبع بالحضارة والعراقة ..لماذا تزداد أحوالنا المادية تدهورا ونقع فريسة نهب منظم ؟ فالمواطن لم يعد يحتمل ضغط المعيشة المتراكم ،وهو يحس نفسه أنه لا يستحق هذا ولا يوجد من منطق ليصل حاله إلى هذه الحال،خاصة وأن البلد فيها من الخيرات ما يكفيها .وإذا سألت فسيرجمك الفريق الاقتصادي بوابل من الأرقام المشكوك بدقتها ، وكما يقول المثل :هنا نصف الأرض وقس إن لم تصدق...
الامور بدأت بموجات متتالية من الغلاء، وبدء الفوضى السعرية في الأسواق التي تفاخرت بها الجهات المعنية على أساس أن السوق سينظم نفسه عبر العرض والطلب، وبدأت رقصة التانغو بين الحكومة والتجار يتبادلان الأدوار والاتهامات، والمواطن هو الضحية.
فشهدت سوريا ظاهرة ارتفاع الأسعار بشكل جنوني بدءاً من المواد التموينية والعقارات والألبسة والأدوية ومواد البناء وانتهاء بأجور الخدمات كالتعليم والطبابة والاصطياف . وانخفاض الدخل وتراجع القدرة الشرائية بينما تغيب الدولة أو تكاد عن التصدي لهذهِ الظاهرة..
وفي الحقيقة لم نفاجأ بهذا الواقع فقد سبق واستقرأناه وحذرنا منه ،فتلك المقدمات من سياسات اقتصادية ليبرالية وغيرها ستؤدي إلى مثل هذه النتائج، فقد جاء في التقرير الاقتصادي للحزب الشيوعي السوري ان هذه السياسات ستؤدي الى:
1ــ تزايد حدة الغلاء وفلتان الأسعار وتراجع القدرة الشرائية للمواطنين وكل ذلك يهدد بعودة مخاطر التضخم المالي الذي بدء بلحظ مؤشراته.
2ــ استمرار مظاهر الركود وتعمقها.
3ــ البطء في الدورة الاقتصادية ونقص السيولة المالية في السوق والناجم عن عوامل عديدة من بينها: استمرار عملية تمركز الثروات بيد شرائح ضيقة من البرجوازية الجديدة السورية والتي تكون الطغم المالية المرتبطة عضوياً بالاحتكارات العالمية، والتي تحول الجزء الأكبر من المدخرات والمداخيل إلى الخارج. ويلعب الدور السلبي في هذا المجال أيضاً عزوف الدولة عن الاستثمارات الإنتاجية.
4ــ تراجع الخطط الاستثمارية وعدم تنفيذها بالكامل كتعبير عن تراجع دور الدولة الاقتصادي بشكل عام والإنتاجي خصوصاً.
5ــ زيادة حدة التفاوت الاجتماعي وتوسع ظاهرة الفقر والبطالة وتراجع سوية الخدمات العامة المقدمة للمواطنين وكذلك تراجع التنوع الغذائي «نوعية وكمية السلة الغذائية» لعامة المواطنين.
6ــ زيادة اختلال التناسبات الهيكلية للاقتصاد الوطني وتعمقها وخاصة الاختلال ما بين الإنتاج والاستهلاك، والأرباح والأجور، والأجور والأسعار, وضيق عملية إعادة الإنتاج الموسع الناجمة عن تقلص التراكم (أي التوظيفات الإنتاجية) وهو ما يعمق التشوهات والاختلالات في بنية الاقتصاد الوطني.
إن آلية توزيع الدخل الوطني القائمة تؤدي لتحويل قسم هام من الدخل الوطني المنتج سنوياً للبرجوازية الطفيلية والبرجوازية البيروقراطية غير المنتجة أصلاً، وتؤدي لقصور عملية التراكم وتطوير الإنتاج، حيث يتصف الاقتصاد السوري بارتفاع كبير لحصة الأرباح على حساب حصة الأجور.
7ــ زيادة التشوه والخلل في التوازنات القطاعية وتعمق مظاهر الاقتصاد وحيد الجانب القائم على الزراعة والصناعة الاستخراجية وتضاؤل دور الصناعة التحويلية في الاقتصاد الوطني وضعف دور قطاع خدمات الإنتاج بشكل عام.
8ــ استمرار الإعفاءات من ضريبة الدخل المقدمة، وخاصة لكبار تجار الاستيراد والتصدير، وبيَّن الحزب بأن هذه ''الإعفاءات'' لم تتحول لمحفز للاستثمار، بل تحولت إلى استنزاف للثروة الوطنية وشجعت الأعمال الهامشية والطفيلية وعلى حساب النشاط الإنتاجي.
9ــ استمرار المعالجات الجزئية وغير المتكاملة والمنطلقة من النتائج لوضع القطاع العام (قطاع الدولة)، والتي تؤدي عملياً لمزيد من المصاعب مثل: مشاريع تحويله لشركات مساهمة أو قابضة أو طرحه للتأجير والاستثمار ومشاريع الدمج الجاري تنفيذها، وعدم تسديد رساميله، وسحب فوائضه والمسألة الإدارية في بنيته, إضافة لأسباب أخرى. وتعمل أوساط البرجوازية الجديدة السورية والتي راكمت ثرواتها في البداية من خلال نهب واستغلال هذا القطاع أساساً للإعلان الآن عن عدم قدرته على الاستمرار، واستحالة إصلاحه بهدف تقليص حدوده وإعادة رسم دوره بما يتوافق مع توجه هذه الأوساط في اعتمادها آليات متجددة لإعادة نهب البلاد.
10ــ إقرار ضريبة على الإنفاق الاستهلاكي انعكست بارتفاع الأسعار مما شكل عبئاً على القدرة الشرائية للأجور وزاد من تكاليف المعيشة.
11ــ الاتجاه للالتحاق بمنظمة التجارة العالمية والتوقيع على اتفاقية الشراكة الأوربية.
12ــ التوجه نحو إقامة سوق الأوراق المالية, ما يحمل ضمناً مخاطر طرح أسهم قطاع الدولة في هذه السوق وخصخصته لاحقاً.
13ــ تزايد الهجوم على مكتسبات وحقوق العاملين بأجر ومحاولة تقليصها بما فيها تقليص فرص العمل.
14ــ ما يطرح من اتجاهات لإلغاء دعم الدولة للزراعة وعدم وضع دراسة جديدة لأسعار مجزية للمحاصيل الزراعية الرئيسية بما يتناسب مع تكلفة مستلزمات الإنتاج الزراعي وهو ما يترك آثاراً سلبية على موضوعة الأمن الغذائي في البلاد».
ومع الأسف فان ما توقعناه حصل رغم أن التقرير ذاته كان يرى أن هناك إمكانية لتجنب هذا المصير وذلك بسبب مجموعة من المقومات الهامة التي تراكمت عبر السنين وهي غالية على شعبنا ووطننا ومن العار التفريط بها، وهي:
«ــ عدم وجود مديونية خارجية كبيرة، ووجود احتياطي كبير من القطع الأجنبي، بغض النظر عن أساليب توظيفه، وعدم الاعتماد الكبير لحد الآن على القروض الخارجية.
ــ عجز الموازنة العامة ليس كبيراً ولا يشكل عبئاً إضافة للتوازن في ميزان المدفوعات الايجابي حسب الأرقام المعلنة, علماً أن هذه الأرقام لا تأخذ في الحسبان كمية الأموال المهربة للخارج والتي تشكل عبئاً ثقيلاً على ميزان المدفوعات.
ــ الأمن الغذائي وتأمين نسبة عالية من الغذاء من الإنتاج المحلي ووجود فائض وخاصة في المحاصيل الاستراتيجية.
ــ وجود قطاع عام صناعي لديه قدرات إنتاجية غير مستغلة بشكل فعلي.
ــ ومن الواضح بأن أسعار النفط ومعدلات إنتاجه قد ساهمت إيجاباً خلال المرحلة الماضية في توفير هذه المرتكزات، وقد لعب القطاع العام دوراً أساسياً في توفيرها، ولكنها لم تتحول لعوامل محرضة للنمو لتعارض السياسات والإجراءات المتخذة معها، ومن الممكن أن يكون الوضع أفضل إذا جرى استثمار النفط وطنياً بشكل كامل وإذا وجهت عوائده للاستثمار في القطاعات الإنتاجية ولتحقيق نمو مضطرد مع الحفاظ على هذه الثروة غير المتجددة».
وأكدنا أن هذه الميزات الكبيرة التي حققتها رأسمالية الدولة وهي الوحيدة القادرة على الحفاظ عليه يمكن أن تكون قاعدة لتطوير الاقتصاد الوطني وتعزيز صمود البلاد و تحسين المستوى المعيشي للجماهير ولكن ما الذي حدث؟ لقد استمر الفريق الاقتصادي في غيه ضاربا عرض الحائط مصلحة الوطن والمواطن وعمد إلى مسابقة الزمن بتنفيذ وصفات البنك الدولي، الذي قدم المديح للسياسات الاقتصادية وكان الفريق الاقتصادي فرحاً بهذا المديح وهو يجرُّ مصير الاقتصاد الوطني نحو الانحدار، فخرجت أرقام العجوزات وتراجع مخزوننا من العملات ومن المحاصيل الإستراتيجية، وما كان يكفينا لعدة سنوات بدأ بالنضوب، ولولا بعض الإرادات الخيرة في هذا الوطن لكنا اليوم نتسول القمح وغيره، فما خطة ذلك الفريق الاقتصادي التي أوصلتنا لهذا الواقع المرير؟ إنها كالتالي:
- إلغاء أو تقليص الوظيفة الاقتصادية والاجتماعية للدولة.
- إعطاء ''القيادة'' الاقتصادية للقطاع الخاص ولو غصباً عنه أو باسمه!! في ظل قصوره البنيوي عن تطوير قدراته وإمكانياته القائمة التنظيمية والإنتاجية.
- إقامة شركات قابضة محلية وأجنبية (مع ما تمثله من خطر على المدخرات الوطنية).
- حرية حركة رأس المال الاحتكاري الأجنبي وحرية تحويل أرباحه.
- إقامة سوق الأوراق المالية والتوسع في إقامة مصارف خاصة ومناطق اقتصادية خاصة.
- الانفتاح السريع أمام المؤسسات العالمية المالية والتجارية.
- فتح قطاع التأمين والمقاولات والإسكان وتوسيع المضاربة، وإنهاء دور الدولة في التجارة الخارجية.
- استمرار السياسات المالية والضريبية والسعرية والأجرية المطبقة، والتي أدت لهذه الأزمة المعيشية إضافة للنهب الذي يتعرض له القطاع العام وتزايد تكلفة الفساد والاحتكار».
إذا هذه هي الصورة حقيقية دون رتوش،فرمضان أتى وذهب والصقيع أتى وذهب والغلاء العالمي علينا وعلى غيرنا، ولكن كله كان من الممكن تجاوزه لولا تلك السياسات الليبرالية السيئة، وما يؤكد سوء القصد أن رمضان بغلائه والصقيع بآثاره السلبية ترافق مع سعار الترويج لغلاء المازوت والرفع الحقيقي لأسعار الكهرباء والبنزين،فأخذ المواطن العادي يتساءل هل هناك سياسة مقصودة لإنهاكنا وإنهاك الوطن؟!..
والسؤال الآن ما هو الحل لذلك؟ وطبعاً لدينا رؤية متكاملة لسياسة أجرية بديلة تعتمد على ما يلي:
1- إقرار مفهوم الحد الأدنى للأجر بحيث يكون مساوياً ومعادلاً وموازياً للحد الأدنى لتكاليف المعيشة أي لسلة الغذاء المكونة التي يتم تحديدها وعناصرها وأسعارها والكفيلة بإعادة تجديد قوة العمل، واستمرار الحياة لمن يعيلهم العامل أينما كان عمله في القطاع العام أم الخاص، وإعطاء قرارات زيادة الأجور لعمال القطاع الخاص صفة الإلزام ومتابعة تطبيقها وإقرار الزيادة الدورية للعاملين في هذا القطاع.
2- إقرار مفهوم الأجر وفق الشهادة العلمية أو الخبرة المهنية والكفاءة.
3- إيجاد سلم للتعويضات ومتممات الأجر حسب الموقع الوظيفي وسنوات الخبرة والكفاءة وطبيعة العمل ودرجة المشقة والخطورة....الخ على أن تكون هذه التعويضات وفق نسبة متحركة من الأجر الأخير للعمل.
صحيح أنه تمت زيادات في الأجور في سنوات سابقة لكنها لم تؤدِ النتيجة المطلوبة، خاصة أن بعض زيادات الأجور السابقة تم تمويلها بالعجز أي من خلال زيادة أسعار العديد من المواد والسلع والخدمات وبالتالي لم تؤدِ لتحسين مستوى المعيشة للعاملين بأجر ولم تنعكس ايجابيا كما أريد لها أن تكون حين إصدارها.
والمطلوب معالجة الأجور والوضع المعيشي من خلال موارد حقيقية وفعلية وهي قائمة وموجودة وهي كفيلة بمضاعفة الأجور والدخول، ومنها أيضاً:
4- وضع حد لاستمرار إعفاء قسم هام من الناتج المحلي الإجمالي من كافة الرسوم والضرائب.
5- فرض ضريبة تصاعدية على الأرباح الحقيقية.
6- وضع حد للتهرب الضريبي.
7- إعادة النظر بسياسة الاستيراد والتصدير التي يتحكم بها مجموعة من '' الحيتان الكبار'' والإعفاءات التي يتمتعون بها.
8- معالجة موضوع التهريب.
9- التخمين العقاري للقصور والمزارع والفيلات التي أحدثت في الضواحي وعلى أرض زراعية وهي معفاة من كل الرسوم والضرائب العقارية!
10- وضع حد للهدر في المال العام ولكلفة إصلاح وصيانة وثمن محروقات آليات الدولة التي تتجاوز قيمتها الحالية عشرات المليارات أيضاً وقيمة أساطيل السيارات ومستلزمات عملها.
11- محاربة الفساد والاقتطاعات غير المشروعة التي تؤدي لتضخم الكلفة وزيادة العبء على القطاع العام في كافة المجالات أي وضع حد لنهب الدولة والشعب معاً.
12-إعادة النظر بآلية الإنتاج في الصناعة الاستخراجية باتجاه تخفيف حصة الشركات الأجنبية وتكاليف الإنتاج وتطوير وتوسيع قطاع الدولة (العام) في إنتاج النفط والغاز وتامين مستلزماته، وإعادة النظر بسياسات الاستخراج، والحد من استنزاف الثروة الوطنية غير المتجددة وكذلك من عمل شركات عقود الخدمة والاستثمار لصالح التوسع في إنتاج النفط وطنياً والاستعانة بالخبرات اللازمة.
13- إعطاء قروض ميسرة للخريجين، وتوزيع الأراضي المستصلحة عليهم، وتوفير مستلزمات العمل بما يحسن الدخل ويمتص جزءاً من البطالة.
14- إعادة النظر بخطط التنمية الاقتصادية, بحيث تعالج أزمة الريف السوري الذي استنزفت قواه وموارده، ولم تعد الهجرة من الريف إلى المدينة حلاً لمشكلاته, مما يتطلب التركيز على تنمية وتحسين إنتاجيته ورفع مستوى معيشة سكانه حيث يتركز ما يزيد عن 61% من الفقراء في سورية في الريف, كما تشير خارطة الفقر التي استنتجتها دراسة المكتب المركزي للإحصاء إلى ان الإهمال الطويل المدى لبعض المناطق وخاصة المنطقة الشمالية الشرقية من البلاد قد جعلت نسبة 58.1% من فقراء سورية يتمركزون فيها.
إن محاربة ظاهرة الفقر تتطلب برنامجاً متكاملاً من الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية والخدمية وهو ما يطالب به حزبنا وفي حده الأدنى للنهوض بالمستوى المعيشي لجماهير الشعب وتوفير الإمكانيات اللازمة لذلك.
أخيرا إننا نرى أن تعزيز كافة عوامل الصمود الوطني السوري المشرف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدفاعية لها أهمية كبرى كي تبقى سورية كما هي منيعة على الأعداء، رافعة عالياً راية الكرامة الوطنية..
الجمل
التعليقات
الحل بيد الحكومة إن أرادت
مكيا فيلي 1
مكيا فيلي 2
إضافة تعليق جديد