أمجد ناصر في (وحيداً كذئب الفرزدق)
«وحيداً كذئب الفرزدق» مختارات من شعر أمجد ناصر انتقاها وقدّم لها الناقد صبحي حديدي، وصدرت حديثاً عن دار ممدوح عدوان في دمشق.
أثارت تجربة الشاعر الأردني أمجد ناصر إهتمام النقاد منذ صدور مجموعته الشعرية الأولى «مديح لمقهى آخر» عام 1979. ولم يكن الإهتمام مُنصبّاً على قصيدة التفعيلة التي بدأ بها مشروعه الشعري وهي أوشكت أن تهيمن على المجموعة الأولى لولا أن تداركها ببضع قصائد نثر كان كتبها أثناء وجوده في بيروت متأثراً بالمناخ الإبداعي الفاعل الذي كانت تتميز به تلك المدينة عن سواها من الحواضر العربية. كان مرّد الإهتمام وسببه هو تلك الإضمامة الجديدة من قصائد النثر المغايرة التي شكَّلت النواة الأولى لمشروعه الشعري في كتابة قصيدة النثر الخالصة، كما في «حياة كسرد متقطع» التي تتطابق مع خصائص قصيدة النثر الأوروبية التي يُصطلح عليها بالإنكليزية Prose poem والتي تختلف تماماً عن قصيدة الشعر الحر Free verse وقصيدة الشعر المُرسَل Blank verse حيث يتوافر الأنموذجان الأخيران على أوزان محددة لا تلتزم بها قصيدة النثر. وقد انتبه أمجد ناصر الى هذا الفارق الكبير منذ وقت مبكر جداً، وعزز هذا الانتباه بنماذج تطبيقية لقصيدة النثر الحقيقية التي برع فيها محمد الماغوط، أنسي الحاج، سركون بولص، وسواهم، تمثيلاً لا حصراً.
كانت تجربة أمجد ناصر على مدى ثلاثة عقود تقريباً تنضج على نار هادئة. وقد أصدر خلالها ثماني مجموعات شعرية توَّجها بمجموعته الأخيرة «حياة كَسَردٍ متقطِّع» التي تُعد أنموذجاً مكتملاً وغير منقوص لقصيدة النثر. وقد لا أغالي إذا قلت إن هذا الإكتمال يجمع بين شكل القصيدة ومضمونها في آنٍ. بل أن المجموعة برمتها تصلح أن تكون بياناً شعرياً يبشِّر مجدداً بقصيدة النثر. لكن الذين يعرفون أمجد ناصر عن كثب يدركون أنه شاعر مُحتفٍ بعزلته، وميّال الى الهدوء والتأمل ومتعة الإستغراق الذهني، بعيداً من الجعجعة والفوضى والضجيج الإعلامي الذي يتفنن به بعض من الشعراء والشواعر الذين لا يرتكنون الى مشروع شعري محدد وواعد.
وقبل أن نتناول بالنقد والتحليل إحدى قصائد هذه المجموعة لكي نبرهن صحة ما نذهب إليه أود الإشارة الى أن أمجد ناصر معني بإثارة السؤال الشعري من خلال زاوية النظر التي يراها مناسبة وصحيحة لتعزيز وجهات نظره في هذا الجنس الإبداعي الذي يتقاطع بالضرورة مع الأشكال الشعرية القديمة ومضامينها. فمضمون قصيدة النثر يتمتع بحرية كبيرة أساسها الطاقة السردية التي قد تتوافر على سرد، أو قصٍ، أو حوارٍ، أو لقطات درامية، أو صور تشكيلية، أو سينمائية، أو فوتوغرافية، وما الى ذلك من معطيات سردية تستسيغها قصيدة النثر، ولا تنفر منها أو ترفضها. تتوافر قصيدة «فتاة في مقهى كوستا» على شكل أنموذجي لقصيدة النثر. فالجمل الشعرية الطوال تكاد تهيمن على معظم مقاطع النص الشعري. ولا يمكن تقطيع هذه الجمل أو تجزئتها لأنها تضر بطبيعة التواشج السردي، وتواتر قصته، وتواصل أحداثه. ومن يقرأ هذا النص الشعري سيكتشف من دوّن لأي وجود عين الكاميرا السينمائية التي ترصد كل نأمة وحركة ضمن دائرة المشهد التي يتحرك فيها الشاعر والطرف الآخر الذي يشكل مادة أساسية في بنية قصيدته النثرية. فالمكان مقهى «كوستا» في شارع همرسمِث، حيث اعتاد الشاعر أن يجلس كي يكتب قصيدته المؤرِقة، جاءت هذه الفتاة في ضحىً يجاهد أن ينتزع شعاعاً من سماء لندن الرمادية. وقد توافق مجيئها مع رغبة الشاعر في كتابة قصيدة عن فتاة تأتي وتجلس أمامه، وكأنها موديل للرسم، في مقهىً خالٍ من الرواد. ولا شك في أن فعل الكتابة هو تفريغ طاقة القلق الإبداعي المشحون بها طوال مدة انتظاره لقدوم هذه الفتاة حتى وإن كان بصورة حلمية في أحلام يقظته الكثيرة. جاءت الفتاة فعلاً، كما يوهمنا النص، ووضعت كتبها على الطاولة، وحقيبتها على الأرض، ونضّت سترتها، واندفع نهداها القاسيان، وارتجّا خلف كنزتها. هذه المتابعة التي لا تتم إلا بعين سينمائية ترصد كل حركات هذه الفتاة المُنتظرَة وسكناتها. هذا المقطع السردي لا يقبل التقطيع، وهو يشبه تماماً الأرقام التي لا تقبل القسمة بعضها على بعض.
وهذا البعض أو الجزء لا تمكن قراءته مفككاً أو مجزءاً، لأن مضمونه مقترن بالكل المتواتر، وبالصور السردية المتلاحقة التي تكشف عن ومضاتها المخبأة كلما قرئت بنَفَسٍ لاهث ضمن السياق المتوالي الذي لا يمنح القارئ فرصة للتريث أو إلتقاط الأنفاس. ولو دققنا النظر في الأفعال الحركية لوجدناها كثيرة، مبثوثة في متن هذا النص مثل «وضعتْ، نضَّتْ، مالتْ، أشعلتْ» الأمر الذي منح القصيدة بُعداً حركياً أنقذ النص من سكونية المكان، ومحدودية الفضاء الذي يضم الشاعر المُراقب، والفتاة المرصودة.
إن التواصل الذي نتحدث عنه في هذا النص ليس قسرياً أو مفروضاً من الخارج، وإنما هو عفوي نابع من بنية القصيدة الداخلية المتدفقة. واستكمالاً للصورة الشعرية المشهدية المترابطة التي تذكِّرنا دائماً بالوحدة العضوية للمضمون. تميل الفتاة على حقيبتها، فينسكب شعرها، فتلّمه الى الخلف بحركة خاطفة، وكأن الشاعر يريد أن ينبِّهنا الى البعد الدرامي، وما يتخلله من لحظات تنويرية تشع لاحقاً في متن النص وتضيئه كاملاً. وحينما توقد سيجارتها، وترتشف قهوتها، تنظر إليه «عن زاوية منحرفة من عينيها». هذه اللازمة تتكرر مرة ثانية في طريقة تعبيرية فائقة الدلالة لأن الشاعر يزاوج بين الحقيقة والخيال في التعاطي مع هذه الفتاة التي جاءت بلحمها ودمها وجلست أمامه ترتشف القهوة وتنظر إليه من زاوية منحرفة، وأكثر من ذلك فإنها أوشكت أن تتحدث معه، كما أوشك هو أنه يجاذبها أطراف الحديث. وتتمةً لهذه الصورة الفنتازية القائمة على مفارقة شديدة التشويق لا بد للشاعر من أن يعزز الوجود الفيزيقي لهذه الفتاة التي جاءت، والتي ستتوارى بعد مدة قصيرة لا تتجاوز رمشة عين. فالبلوزة الزرقاء، والزندان المبرومان، والفهدان الصغيران كلها جزء أساسي من اللعبة الفنية التي يديرها الشاعر بمهارة. لكن «قدمها التي تتحرك تحت الطاولة على شكل مروحة» هي جملة أساسية أيضاً، وصورة شعرية مهمة ومركبة في آنٍ، لأنها تتكرر هي الأخرى كلازمة تعزز جانباً واقعياً غير متخيل. وقبل أن نصل الى نهاية النص يؤكد الشاعر أن التفاصيل التي يراها أمامه تحيله الى فتاة القصيدة التي يحلم بكتابتها، لكنه ما إن يُسقط قلمه عمداً، ويلتقطه بسرعه البرق، ثم يرفع رأسه ليجدها قد غابت وتوارت عن الأنظار.
وتعزيزاً لهذا التداخل الواقعي والفنتازي يضعنا الشاعر هذه المرة أمام صورة فتاة على ملصق إعلاني مثبت على الجدار «تجلس وحيدة، تدخن، وتحتسي قهوة، وتنظر بزاوية منحرفة من عينيها في مقهى يشبه هذا المقهى». لا يكتفي الشاعر بصورة الفتاة كإحالة الى حلم يقظة، أو سقوط في لحظة إيهامية، لكنه يعزز وجودها بفنجان القهوة الذي تركته ساخناً، والسيجارة التي خلفتها على حافة المنضضة، والمنديل المبقع بأحمر الشفاه، وقلبه المضطرب الذي تضاعفت دقاته بحيث بات يُسمع من بعيد. إن الإقتراحات الجديدة التي يقدمها أمجد ناصر لشعرية قصيدة النثر العربية لا أظن أنها مسبوقة، خصوصاً أن اللغة السردية تعززها وتتسيَّد فيها.
إن شعرنة المنحى النثري يحتاج الى موهبتين في آنٍ وهو أن يكون الكاتب ناثراً وشاعراً يتوافر على ثقافة موسوعية شاملة. ولهذا فأن حركة الشاعر الرشيقة أو إنتقاله السلس بين الشعر والنثر أو العكس لم يكن متأتياً إلا من إخلاصه لقصيدة النثر، وإنغماسه في التجريب غير المعلن عنه طوال العقود الثلاثة الماضية التي أهلّته لأن يكتب نثراً عضوياً يتجاوز حدود القص أو السرد الإخباري الى الومضة الشعرية التي يصل إليها من طريق التكثيف النثري الذي يتجاوز حدود النثر، وينحرف عن الشعر الخالص المحددة سماته سلفاً. أتاحت هذه المجموعة المتفردة لأمجد ناصر حرية تامة في إنتقاء الثيمات العصية على المعالجة الشعرية.
عدنان حسين أحمد
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد