سعاد جروس تكتب عن تسقيف حكومي للفكر
سعاد جرورس : يقال عن أبي الأسود الدؤّلي أحد أشهر البخلاء العرب أنه تصدق على سائل بتمرة, فقال له: جعل الله نصيبك من الجنة مثلها. ولأن الشيء بالشيء يذكر, فقد ذكَّرنا ما قيل عن رئيس وزرائنا, والذي لم نسمع شيئاً عن بخله حتى الآن, بأنه جمد الموافقة على موازنة مؤسسة الوحدة للاستكتاب للعام المقبل والأشهر المتبقية من العام الحالي, إلى حين تقديم تبريرات مقنعة حول «سقوف العمل الفكري», بعدما رأى أنها مبالغ كبيرة سواء بالنسبة الى المحررين, ورئيسي ومديري التحرير. وبما أن رئيس وزرائنا الأكرم رأى أن هذه الميزانية كبيرة, فليس بيد زملائنا الصحفيين سوى الدعاء له ولطاقم وزارته أن يكون نصيبهم من الجنة مثلها.
حكمة الحكومة في تقنين استكتاب الصحفيين (الحكوميين) لم تظهر إلا في عز جنون الأسعار, الذي تزامن مع شهر أيلول /سبتمبرالمعروف بتنكيله بجيوب السوريين, كذلك بعد هدوء العاصفة التي أثارتها طفرة التفكير بصوت عال التي ألمت بالفريق الاقتصادي وطرحه مشروع إلغاء الدعم على الملأ. في هذا الوقت انتظرنا أن يقوم هذا الفريق من الجهابذة بمكافأة الصحف الرسمية على وقفتها المشبوهة إلى جانبهم لتسويغ «الدواء المر» في حلوق الشعب, نراهم يرتدون عليها وعلى كل العاملين فيها, ناكرين تواطؤهم معهم, ليقتطعوا اللقمة من أفواههم , بحجة أنها كبيرة جداً, ربما لتجنيبهم غصة لا شهقة بعدها.
هذا تصرف لا يعكس نظرة الحكومة للصحفيين العاملين في مؤسساتها وحسب, بل هو موقف من الصحافة عموماً, ومن الصحفي خصوصاً, سواء كان معهم أو ضدهم. فلا يزعل الذين معهم ولا يشمت الذين ضدهم. وليس خافياً على أحد أن هذه المهنة تبهدلت وتشرشحت إلى حد صار يعتبر كل قرش يغدق عليها خسارة.
ذات مرة اشتكى زميل وصديق يعمل في جريدة رسمية, رُفض له أكثر من مقال, أن لا أحد يطالبه بالكتابة, وقال جازماً: «يدفعون لنا رواتب كي لا نكتب». ولعل هذا ما يبرر رؤية رئيس الحكومة سقوف العمل الفكري مرتفعة جداً. المطلوب أن تكون السقوف منخفضة إلى حد يبقى فيه الصحفي محني الظهر, ذقنه تدق بالأرض, لا يرتاح إلا بالانبطاح الكامل والزحف على البطن, والشاطر فقط وأخو أخته من يزحف على ظهره ويلتقط رزقه من خارج الحدود والسقوف.
ومن غير شطارة, نعترف بأن هذه الطريقة الفريدة من نوعها للجم الصحافة تحسب لجهودنا البناءة في إقامة صرح للصحافة يمتاز بأنه «لا يهش ولا يبش», ولا نستبعد أن يتحول إلى نموذج عالمي للحد من عواقب طموحات الصحفيين في تحقيق سبق في كشف المستور من عظائم الأمور. فالصحفي الجائع يتحول من باحث عن الحقيقة إلى بائع أخبار جوالٍ, وعلى قد بساطه يمد قلمه, وهو حكماً ليس كالصحفي الشبعان طويل القلم واللسان.
وحسب حكومتنا هذا الاكتشاف المذهل لترشيد «المال» الذي تغدقه على العمل الفكري في صحفها, هي بالأساس بغنى عنه, فأفعالها البيضاء لا يجب أن تعكرها سطور سوداء, تدفن بين مساحات المديح الخالص, انتقادات لا تسر الخاطر. وللحق فإن اتحاد الصحفيين الأشاوس لم يسكت على الضيم ولا على إهانة الفكر بتحديد سقوفه, (هل للفكر سقف؟! لا بد من أن تسقيفه إنجاز معماري سوري) فألح أعضاء مجلس الاتحاد في اجتماعهم الأخير على الإسراع بصرف تعويض الاستكتاب, وألحقوا بطلب رفع سقف الاستكتاب للإعلاميين في مختلف وسائل الإعلام بما يتناسب مع متطلبات العمل الإعلامي المعاصر. ومتطلبات العمل الصحفي المعاصر.
حسب تقديرات الحكومة لا تتجاوز ما يحصلّونه بشق الأنفاس, أي لا يزيد في الشهر على الـ 300 دولار للمحررين ولـ500 دولار لرؤساء ومديري التحرير, علماً أن هذا التسعيرة الجائرة, جعلت سعر الصحفي السوري في وسائل الإعلام الخارجية, يعتبر الأقل دولياً وليس فقط عربياً, في حين يتقاضى زملاؤهم العرب والأجانب أضعافاً مضاعفة, ومنهم ما هو أقل حرفية بكثير.
وحسبنا مثالاً بسيطاً على السخاء الذي يتنعم به المستكتبون في صحفنا الرسمية, معرفة أن سقف مكافأة التحقيق أو المقال العادي كحد أعلى 30 دولاراً, بينما التكاليف التي يدفعها الصحفي مواصلات واتصالات وسفراً لا تقل عن 20 دولاراً كحد أدنى. وأن 10 دولارات الباقية لا تكفي ثمن فنجان قهوة وسندويشة في مقاهينا السياحية, وعلى هذا الأساس يمكن تصور أي مقالات وتحقيقات تلقى إلى صفحاتنا الرسمية, ومن نافل القول الجود من الموجود.
وحتى هذا العطاء الشحيح ضاقت عليه عين رئيس الحكومة, ربما لأنه مهموم كثيراً بتطوير الصحافة, بدليل إفراجه عن الاستكتاب مع وقف التنفيذ بانتظار رحمة تأتي من السماء, بما أن الزمن جار على الصحافة وبشكل غير مسبوق إلا أيام المماليك لو كان فيها صحافة, إلى حد أصبح فيه ترتيبها الأسفل من الدرك الأسفل لوسائل الإعلام, كعزيز قوم ذل بعد اجتياح الإسفاف الفضائي لعالمنا العربي والمحلي, فلا قيمة لمقال مهما كانت أهميته, أمام إعداد برنامج ترفيهي يرقص له الكبير والصغير والمقمط في السرير, ولا جزاء لجهد جهيد في تحقيق قد يدفع الصحفي ثمنه باهظاً حيال سيناريو درامي كتب على عجل ليلحق الموسم الرمضاني. "الرزق يحب الخفيّة" على رأي أشقائنا المصريين, و«الخفية» كل ما خف وزنه وطار في الأثير بلا أي تأثير... يدهش العينين ويصم الأذنين ويعطل التفكير ويريح الضمير من كل ما تثيره في النفوس خطط التنمية والاقتصاد والثقافة والتعليم من أوجاع وأنين... يا ارحم الراحمين ارحمنا, واجعل نصيب رئيس وزرائنا ووزرائنا أجمعين من الجنة مثل نصيب الصحافة والصحفيين من احترام المعنيين.
بالاتفاق مع الكفاح العربي
إضافة تعليق جديد