تجربةحديقة الأزهر ومقلب القمامة الذي يمنع قيامة عازار عمريت

24-07-2007

تجربةحديقة الأزهر ومقلب القمامة الذي يمنع قيامة عازار عمريت

الجمل ـ طلال كاسوحة* :

عندما وقفت في بابها أدركت أنها حقيقة
وبدأت الصورة التي رسمتُُ خطوطها وألوانها من أحاديث الناس عنها تتجسد بأجمل منها. ولكني لم أكن أعلم أنها ستترك هذا الأثر العميق في نفسي.... لماذا ؟ وما هو الشيء المحدد الذي  يجعلها  تتميز عن غيرها؟  تعالوا لنتمشى ونكتشف ذلك سوية...
درج و مدخل ثلاثي الأبواب بقناطر من الطراز الإسلامي وتل أخضر وأشجار نخيل تبدو خلفها وأبواب من الحديد المشغول بزخرفة بسيطة وأنيقة وعلى اليمين كوة التذاكر وبعض الزائرين.
قطعت تذكرتين واحدة لي وواحدة لنيكول صديقي من جنوب أفريقية الذي جمعتني به مجددا رحلة العمل إلى القاهرة والذي لم يستطع إلا  أن يأتي معي إلى هنا بعد ما رأى حماسي  وأنا أتكلم عن هذه الحديقة.
أفضى المدخل إلى ساحة مرصوفة بالرخام في وسطها نافورة ماء لم أرى مثلها من قبل. تنبع فيها المياه من مستوى الأرض وتعود لتغور في الأرضية الرخامية ذات التشكيل الهندسي الثماني الأضلاع بعد أن تشكل بركة ماء بعمق مليمترات قليلة تتناهى برقة نحو الأطراف.
 نظراتي ضائعة في المساحات المحيطة بي و سرعان ما استنتجت أنني بحاجة لدليل يرافقني في الجولة...
 مروة
 واثقة بنفسها وحاضرة الذهن صبية من فريق العمل في حديقة الأزهر تطوعت لإرشادنا عبر جولة شاملة في أرجاء الحديقة التي بلغت مساحتها 30 فدانا (15 هكتارا تقريبا) وبدأتها بالوقوف على مخطط الحديقة وشرح سريع لأجزائها ثم اختيار مسار الرحلة.
مخطط  الحديقة
بقرب مدخلها أظهر أنها تقع على الحافة الشرقية لمدينة الأيوبيين التي ترجع الى القرن 12 الميلادي ويحدها من الناحية الغربية سور القاهرة التاريخي الذي شيده صلاح الدين الأيوبي و منطقة الدرب الأحمر ومن الشرق تطل على مقابر المماليك وجبل المقطّم.
من الشمال مشيخة الأزهر ومن الجنوب قلعة صلاح الدين و جامع محمد علي.
تتألف بثلثيها من مساحات خضراء والباقي  مسطحات مائية و طرقات مرصوفة و مطاعم. يرتفع فيها تلين هما المطل الشمالي والجنوبي وفيها الحدائق وملعب للأطفال و مسرح.
لوهلة ظننت أني في تاج محل
عندما وقفت في أول ممشى القلعة الطويل بأرضيته الرخامية و أعمدته المصنوعة من رخام الجلالة المصري ومنظر قبب جامع محمد علي المهيب في نهايته.
 رموز معمارية تدل على تآخي الطوائف
 نظرت مروى إلي بتقاسيم وجهها الأسمر الدقيقة وعيناها تبرقان بما تريد أن تخبرني به عن سر بحرة ماء على شكل سهمين وقالت بأن السهم الجنوبي يتجه نحو قلعة صلاح الدين الأيوبية أما الشمالي فيتجه نحو البناء الذي بني على الطراز الفاطمي وهي رمز للـتآخي بين الشيعة والسنة عموما و في القاهرة الأيوبية الفاطمية خصوصا.
 كنا لا نزال نتحدث في هذا الموضوع ونحن نتابع صعودنا نحو المطل الشمالي المشرف على مشيخة الأزهر و مناطق الحسين و خان الخليل عندما اقترب منا رجل وزوجته وقد شد انتباهه حديثنا عن الطوائف ودور الحديقة في إشاعة مفهوم التآخي والتسامح وقال  بريبة مستنكرا "إن هذا تغيير فكر" فأجابته مروى "نعم إنه كذلك !!! .... إن القصد هو أنه لا فرق بين شيعي و سني" آه كم وددت لو يفهم بعض العرب ذلك لاسيما في العراق الحبيب.
المطل الجنوبي و أهم أعجوبة من عجائب الدنيا السبعة
تابعنا المسير هبوطا من المطل الشمالي نحو ملعب الأطفال الواسع المبني فوق خزان ماء هائل تحت الأرض هو أحد اثنين في الحديقة وهو معد لإرواء القاهرة في وقت الأزمات مرورا في طرقات ملتفة ووارفة بأشجارها وعطرة برياحينها ووجوه سعيدة وأطفال يلوحون من شبابيك قطار الحديقة ثم صعدنا نحو المطل الشمالي ويا لها من إطلالة... القاهرة القديمة على مد النظر، السور الأيوبي والدرب الأحمر الذي اصطبغ بدماء الجنود التي سالت من أعالي القلعة التي تقف هي الأخرى قبالتنا. و تلك هي قباب جامع محمد علي البدعة الزخرفية تنتصب بفخر لا يفوقه سوى روعة منظر الهرم أعجوبة الدنيا الخالد يلوح في الأفق البعيد.
نعم... مقلب قمامة !!
 عادت تلك الكلمة إلى ذاكرتي عندما وطأت قدماي أرض مصر فبالأمس القريب حدثني وعد المهنا عن مقلب قمامة تحول إلى حديقة وها أنا اليوم وقد قادني قدري إلى القاهرة  أقف في الحديقة مع مرافقتي التي أشبعت نهمي لمعرفة تفاصيل تاريخ الحديقة  حيث أوضحت أن  فكرة إنشاء الحديقة تعود إلى عام 1984 عندما نظمت مؤسسة الآغاخان للعمارة مؤتمرا عن توسع المدن وكيفية التعامل مع النمو الحضري لمدينة القاهرة، وأوضحت إحدى الدراسات بالمؤتمر وجود عجز في الفراغات المفتوحة في القاهرة مما يؤدي إلى قلة نصيب الفرد من المساحات الخضراء عن النسب العالمية، ونتيجة لذلك قررت مؤسسة الآغاخان تمويل إنشاء حديقة لسكان القاهرة. وأضافت أن أرض الحديقة كانت مقلب نفايات للقاهرة لمئات الأعوام حتى وصل ارتفاع القمامة فيه إلى أربعين مترا مما اقتضى أعمال ضخمة لنقل ملايين الأطنان من القمامة و ثم عملوا على....... 
عازار
كانت مروى  تتابع حديثها فيما رحلت أنا بأفكاري إلى عمريت إلى ذلك اليوم الذي كنت فيه كعادتي أقود دراجتي على كورنيش شاليهات الأحلام. كنت عائدا من رحلة إلى عمريت زرت فيها معبدها الفينيقي و إستادها الرياضي الذي لم أكن أعلم بعد مدى أهميته وقدمه.
كانت الشاليهات والبحر علي يساري أما على اليمين فقد كان هناك ساتر ترابي  يحجب مقلباً لقمامة طرطوس أوجده مجلس مدينه طرطوس منذ سنوات.
كنت دائما أنزعج من روائح القمامة الكريهة عند مروري هناك وأتساءل عن سر اختيار هذه المنطقة الجميلة كمكب للقمامة ولم أكن أعرف ما تختزنه تلك الأرض من كنوز أجدادنا فلم يكن أحد يتحدث عن هذه المنطقة المهملة على خارطة طرطوس وعمريت، سوى ما كنت قد قرأته قبل أسابيع قليلة في أعداد من الحوليات الأثرية السورية من مكتبة جد صديقي هشام عبد الرزاق عن منطقة أثرية اسمها مدافن عازار الأثرية التي تقع حسب الخريطة في هذا المكان الذي هو مكب قمامة فهل يعقل؟
 
لنبحث عن تاريخنا في القمامة!
في ذلك اليوم دفعني الفضول لأن أترجل تاركا دراجتي جانب الطريق وأتسلق الساتر الترابي لأجد نفسي أسير بين أكوام النفايات. ما هذه الفكرة المجنونة؟ علي أن أعود قلت في نفسي. ولكن شي ما في داخلي كان يشدني لأتابع.  هو حدثٌ طالما وثقت به فتابعت المسير وإذ بي أقف أمام قبر أثري مفرد بالكاد تعرفت على صورته من خلال ما كنت قرأته ورأيته في الحوليات لأنه اليوم كان يبدو وحيدا مقهورا ومخذولا.  كان التل الذي يحتضنه مهدما ومجروفا ومكب القمامة يتربص به ليبتلعه كما ابتلع الكثير من قبله فتناثرت أحجارها بين أكياس القمامة. وقفت للحظات صامتا في حضرة التاريخ و بدني مقشعر من روع الجريمة. هل بلغنا من العقوق و الفساد والجهل حدا جعلنا نرمي تاريخنا في القمامة؟
 يومها أسرعت لأتصل بصديقي أنطوان جبور وطلبت منه إحضار كاميرتي معه فلم يتأخر.
لا يمكن أن أنسى كيف  كان الأسى العميق مرتسما على ملامح وجهه الطيبة وهو يمسك بيده أجزاء جرة فخارية كسرتها الجرّافات أثناء توسيع مقلب القمامة.
 مرت ذكريات عازار المؤلمة في بالي كشريط مصور بسرعة فيما كان بصري يسرح في مساحات الجمال في حديقة الأزهر.
قطعة من الجنة بنيت على أنقاض الجحيم
 مشينا عائدين مستمتعين بالمناظر الخضراء والجو اللطيف والهواء النقي و قد ألقت شمس المغيب بدفء وشاحٍ أحمر على  البحيرة الوادعة  وصارت تتردد في خاطري أصداء حكاية مرافقتنا مروى  خريجة الآثار عن السور الأيوبي الذي تم اكتشافه أثناء الحفر وتقدم مشروع ترميمه وحديثها عن الحديقة والأعمال الضخمة في ترحيل أطنان القمامة و كيف تم جلب التربة الخصبة لتفرش بها تفاديا لملوحة التربة فيها وكيف يتم العناية بالحدائق والقنوات المائية والشلالات التي تنتهي إلى البحيرة حاملة إليها مياه النيل لتبدو بمجملها وكأنها قطعة من الجنة بنيت على أنقاض الجحيم.
 ليلتها حلمت بعازار يقوم من الموت إلى الحياة نافضا عنه كل شرورنا وآثامنا لابساً ثوباً أخضرا قشيباً  مطرزا بكل ألوان الزهور. فهل أستيقظ من النوم يوما لأركب دراجتي متوجها إلى حديقة عازار الأثرية؟


الجمل


*متطوع لإنقاذ عمريت

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...