عزيزي القارئ المرهف لا تقرأ هذه الرواية

09-07-2007

عزيزي القارئ المرهف لا تقرأ هذه الرواية

إذا كنت تبحث عن رواية ممتعة تدغدغ عواطفك بحكايات الحب، وتوفر لك وسادة ناعمة لقضاء ليلة حالمة، أو كنت تبحث عن رواية تمدك بأفكار معقدة تفتخر بطرحها على مسامع أصدقائك المثقفين بينما تحتسون الشاي وتدخنون الغليون في المقهى.

إذا كان هذا مرادك فعليك ألا تفكر بقراءة رواية «وجهان لجثة واحدة» للكاتب التونسي «الأزهر الصحراوي» فلو أنك تورطت بها ستكتشف بعد فوات الأوان أنك فقدت السكينة التي توفرها لك حياتك الوادعة تحت ظل بيتك المبني في غفلة عن السلطات، وفقدت شعور الانتصار بعد اقتناص مقعد في سرفيس مزدحم عند عودتك من عملك الممل، وستفقد حتماً شعور الرضى الذي يوفره لك جهاز التحكم عن بعد، متيحاً لك أن تحكم قبضتك على عنق شرير الشاشة الشرس، وخصر الفاتنة المتمايلة، بينما أنت مسترخ على كرسي مريح. كل هذا ستفقده بقراءة الرواية، فحال دخولك في عوالمها ستفاجأ أن كاتبها رمى بك الى قاع اللّجة دون إتاحة الفرصة لالتقاط انفاسك، وستجد أنك صرت جزءاً من عالم الرعب الذي تخشى التفكير فيه معتمداً تضليل نفسك بالقول أن هذا العالم لم يعد له وجود. إنها حكاية سجون التعذيب داخل وطننا العربي، حكاية قديمة دون شك لكنها حكاية غير عادية، فليس عادياً ـ رغم شيوعه ـ إلقاء شخص أعزل بين براثن شخص آخر مسلح بسلطة تخوله ممارسة كل فظاعة يرضي بها أولي الأمر أولاً، وغرائز الوحش الكامن فيه ثانياً. وهكذا فإن استمرارية هذه الحكاية تدفع الكثيرين الى رواية ما يتجدد من فصولها الرهيبة، ويبدو أنه مازال أما روائيينا وشعرائنا الكثير من الحبر يسودون به بياض أوراقهم في سبيل هذه القضية. 
 رغم أن الفصل الأول المعنون «احتراق الطين» يروعنا بما يمكن اعتباره صورة توثيقية لأعتى فنون التعذيب التي يمكن أن تخطر، أولا تخطر في البال، ابتداء من التعذيب النفسي الهادف الى محو كرامة السجين، إلى مختلف الانتهاكات الجنسية التي تبدو معها صور «أبو غريب» أشبه بمزاح، ثم ضروب الإيلام الجسدي والتجويع، إلا أنه علينا أن نصدق الكاتب حين يقول «أدركت بعد أن سمعت تلك الأصوات الحيوانية تصدر عني أن لحظة التعذيب الجسدي لحظة خاصة، ينفرط أثناءها عقد اللغة، وينقلب نظامها فوضى، ووضوحها غموضاً، ويتحطم محرك الكلام لما ينصب العقاب الجهنمي على الجسد فيرتد الحيوان المذعور الى ماقبل اللغة ليعبر بذلك عن عمق أوجاعه». لكن رغم ما يبذله الجلاد من محاولات ليستنسخ من الإنسان السجين كائناً جديداً مزيجاً من الفأر والقرد والأرنب، إلا أن هذا الإنسان يتمسك بإنسانيته عبر القوة الوحيدة المتاحة له: الكلمة. ‏

ثلاث سنوات يقضيها «صابر» في السجن مداناً بتهمة إثارة الفوضى ورفع شعارات معادية لدولة صديقة وثلب قادتها، وذلك بعد اشتراكه بمظاهرة في ذكرى نكبة فلسطين «تذكروا أن هذه الأحداث تجري في دولة عربية» خلال هذه السنوات يحاول البطل لملمة حبات العقد الذي انفرط جامعاً إياها في خيط الذكريات، حكاية زميله «صميدة» عن مدينة «العكاكيز القصيرة» تحرض مخيلته، وتسحبه بعيداً الى قرية جبلية فقيرة أغلب سكانها أميين، هناك حيث الطفل الذي لايجد ما يسرقه من غرباء عبروا القرية يوماً سوى مجموعة كتب حمراء، يتعلم فك حروفها بعد التحاقه بمدرسة مرتجلة بنيت بالتعاون بين الأهالي وبتشجيع من معلم يتمتع بصبر الأنبياء. ثم نرى طالب المعهد الباحث عن انتماء في تنظيم لا يتعالى أتباعه على إنسان قبيح الوجه، كبير الرأس، رث الثياب، فنتعرف برفاقه «كارلوس» و«آية الله تونغ» و«جاكوب» الذين يرسمون عبر علاقاتهم المتأرجحة وأفكارهم الطوباوية لوحة مكررة لتنظيمات مشابهة عرفتها بلداننا العربية في فترة ازدهار الأحلام الثورية، فنعايش تطلعاتهم السياسية الغائمة والشبيهة بقصصهم العاطفية المتراوحة بين حب مثالي يستسلم أمام إرادة التنظيم الذي «ينظم» أيضاً دقات قلوب الرفاق والرفيقات، الى علاقات عابرة مع بنات الهوى، ونساء في سن الكهولة، وفي النهاية يسجل خروج الجثة من تحت الأرض، ليتحول المناضل السابق الى منبوذ يعيش عالة على أخته العانس، قبل أن يحظى بفرصته اليتيمة للعمل مغسلاً للجثث في ثلاجة مشفى عام، ولتغدو قمة أحلامه العثور على بعض النقود المنسية في جيب ميت مجهول الهوية، أو جمع بقايا رجولة شوهها السجن، لاستثمارها في شبه علاقة مع المرأة المشوهة التي تشاركه العمل في المشرح. ‏

هذه باختصار قصة الجثة ذات الوجهين، والتي لا تخلو رغم سوداويتها من سخرية لاذعة أحياناً كذهاب واحد من الرفاق الى مقابلة عراف مشهور ليتنبأ له بمستقبل ثورتهم المنتظرة، ودوافع انضمام رفيق آخر الى التنظيم والمتمثلة في رغبته بقطع علاقته بأهله إثر جلوس والدته للتبول وسط شارع عام غير عائبة بتعليقات المارة، وبمشاعر ولدها الذي يسير معها. ‏

بعد هذا إذا بقيت مصراً على قراءة هذه الرواية فلا تنسى بعد الانتهاء منها وضعها فوق أبعد رف في مكتبتك «بعيداً عن متناول الأطفال». ‏

‏ الكتاب: وجهان لجثة واحدة. ‏

تأليف: الأزهر الصحراوي. ‏

إصدار: دار النايا للطباعة والنشر والتوزيع 2007. ‏

هيفاء عجيب

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...