اختفاء الذات عن نفسها
دافيد لوبروتون:
في بعض حكايات الحياة، يؤدي تفكك معين، قطيعة، فقدان قریب، فصل أو إرهاق، إلى انفصال تدريجي عن الوسط العائلي. لم يَعُد الفرد يشعر بمكانه، إذ لطالما أحس بأنه مستبعَد، لكنه كان يحاول أن يتلاءم، وفي تلك المرة، تخار قواه، أو أنه لم يكن قط قادرًا على ذلك. ينفلت العالم من بين يديه حينذاك، يهجر عالمه المهني أو المنزلي، فيمّحي، ولا يعود يغادر البيت إلا نادرًا، كما لا يعود مهتمًا بمحيطه، ولا حتى بشؤونه الخاصة. إنه يلغي العالم من حوله. يبتعد الآخرون بدورهم، إذ تضعف جدوى مخالطته، أو أنهم ينزعجون من حال وجوده دومًا في منأى عنهم. تنتهي رغبتُه في أن يكون ذا شأن بالنسبة إلى الرباط الاجتماعي، أو بالنسبة إلى أسرته، فيتنازل عن وجوده شاعرًا بأنه يحيا مثقلًا بالوجود. إنه هنا من غير أن يكون.
نقول أحيانا باللغة الفرنسية: «لديّ بياض» كي نعبر عن سهو، عن غياب، عن نوع من الأقواس المفتوحة... يصيب البياض امرأة اوغ رجلا عاديا بلغ الحد الأقصى من نفاذ الصبر، ولم يعد قادرا على الاستمرار في تحمل شخصيته، لقد تعب ومل، فوجد نفسه خارج حركة الروابط الاجتماعية. إلا أنه يعرف ذلك، وفي استطاعته ذات يوم أن يعود إلى جلده القديم أو أن يبلغ آخر جديدا بعد لحظة الاختفاء هذه التي كان في حاجة إليها كي يواصل ويستمر في العيش. سيعيش حينئذ لحظة يطبعها التناقض كي يتمكن من تجديد نفسه، وإفراغ ما في جوفه، والتخلص مما صار يثقل كاهله. هذه التجربة تظل تحت السيطرة. إلا أنها قد تصبح، في بعض الأحيان، حالا قارة تفرض عليها نفسه حينما يستسلم ويترك نفسه لثقل الأحداث دون الرغبة في رد الفعل إزاءها.
أحيانا يكون التخلي عن الذات هو الطريقة الوحيدة لكي لايموت المرء، أو لكي ينجو مما هو أشد سوءا من الموت. لا يعودا لأمر يتعلق بالانزلاق على غرار (الأنا آخر) ، وإنما على غرار (أناموجود في مكان آخر) إلا أن ذلك لا يهمني. إنها محاولة للاستمرار في العيش بالتخلص من مجهود العيش، وهي تعبر عن مسافة وعياء، وليس عن رغبة في الموت. إنه الخروج عن الذات من أجل التقاط الأنفاس، ألا يكون هنا، ولكن مع الاحتفاظ بالعودة إن أمكن إنه تخل متعمَّد عن الشخصية يكاد يكون تخليا تجريبيا ولكن ليس أساسا لاستكشاف عوالم أخرى، بقدر ما هو تحرر من ثقل أن يكون الشخص هو ذاته. إنه انغماس في زمن بطيء، بل هو توقف للزمن وركود يمحو الديمومة، ويحول دون الارتماء في المستقبل. يستسلم الفرد، ويتوقف عن التشبث بواقع يثقل كاهله يفقد الوجود كل طعم، ويبدو كما لو أنه بعيد لامبال، يدعو إلى الاستقالة الهادئة، إنها كيفية لترك الأشياء تعمل لوحدها. ينساب الزمن من غير مشاركة الفرد الذي يُعفى من أي مسؤولية في سياق التبادل. إنه لم يعد معنيا لأنه منسحب من العالم. بهذا المعنى، فإن اللامبالاة شكل من أشكال الطمأنينة الأبيقورية وفقدان العاطفة الرواقي. إنها موقف سلبي إزاء الأحداث .
دافيد لو بروتون : اختفاء الذات عن نفسها، ترجمة: زكية البدور
إضافة تعليق جديد