بول أوستر في كتابه "تقرير من الداخل"
ترجمة وإعداد فوزي محيدلي
فيما يؤكد هارولد بلووم أن وليم شكسبير اخترع البعد الإنساني، يؤمن بول أوستر من جهته بأنه فعل الشيء نفسه بالنسبة للعزلة. كتابه المنشور الأول «إختراع العزلة"(1982) بمثابة مذكرات عن والده، صموئيل بيكيت، الذي توفى بشكل غير متوقع. فضلاً عن أن الكتاب هو في الوقت ذاته تأمل شخصي في طبيعة الذاكرة والخسارة.
شكلت كتبه التالية، بما فيها 16 رواية أسست شهرة اوستر (المشهور في فرنسا ربما أكثر من الولايات المتحدة)، على أنه سيد الرواية الحديثة، وأفضل من تعامل مع الشعور بالعزلة ووعيها. في كتابه الأخير، «تقرير من الداخل»، كتابه التاسع غير الروائي، ينظر ابن السادسة والستين إلى داخله «رجل أمضى أفضل أوقات حياته جالساً وحيداً داخل غرفة».
استناداً إلى مقالة لهيكو جاكابزيك من جامعة هيديلبرغ، ثمة تأثيران مركزيان في كتابة بول أوستر، هما التحليل النفسي لجاك لاكان وتيار التجاوزية الأميركية لبواكير كتّاب منتصف القرن التاسع عشر، الممثل بكل من هنري ديفيد تورو ورالف والدو إيمرسون.
تقول نظرية لاكان أننا ندخل العالم عبر الكلمات. نلاحظ العالم ونراقبه عبر حواسنا، لكن العالم الذي نستشعر إنما يشيّد (بمعنى يتأمل) داخل ذهننا عبر اللغة. وهكذا فإن لا وعينا مشيد كذلك بدوره كلغة. هذا يجعلنا في حالة إرباك. ليس بمقدورنا إدراك العالم إلا عبر اللغة، لكن ينتابنا، والحال هذه، إحساس بوجود شيء مفقود. هذا هو الإحساس بوجودنا خارج اللغة. لا يمكن تشييد أو تركيب العالم إلا عبر اللغة، لكنها دائماً ما تترك شيئاً مستوراً، غير مكتشف، شيء لا يمكن إخباره أو التفكير فيه، بل جل ما في الأمر يمكن الإحساس به. هذا بشكل ما أحد المواضيع الرئيسية لكتابة بول أوستر.
يعتبر البعض لاكان واحداً من الشخصيات الأساسية في تيار ما بعد الحداثة الفرنسية. لكن بعض الدارسين الأكاديميين يتتبعون تأثيرات فلاسفة ما بعد نيويين عبر كتابة أوستر بالتحديد جاك دريدا، جان بودريلار وميشال دي سيرتو، رغم ما نقل عن أوستر أنه يجد أن فلسفة كل من هؤلاء لا يمكن قراءتها.
يؤمن التجاوزيون بأن النظام الرمزي للحضارة فصلنا عن النظام الطبيعي للعالم. ومن خلال التحرك ثانية باتجاه الطبيعة كما فعل تورو في مؤلفه «والدن"يصبح من الممكن العودة إلى هذا النظام الطبيعي.
القاسم المشترك للفكرتين هو سؤال معنى الرموز بالنسبة للمخلوقات البشرية. أبطال أوستر غالباً ما يكونون كتّاباً يقيمون النظام داخل حياتهم عبر الكتابة ويحاولون إيجاد مكانهم داخل العالم الطبيعي، من أجل تمكنهم من العيش داخل «الحضارة» ثانية.
من جهتهم، كان لكل من إدغار ألان بو، صموئيل بيكيت وهيرمان ميلفيل تأثير قوي على كتابة أوستر. وشخصيات هؤلاء السردية ليس فقط هي ما يظهر في كتابه أوستر (وليم ويلسون في «مدينة من زجاج"أو ذلك شخصية فانسهو في «الغرفة المقفلة» لهوثورن، تظهران في «ثلاثية نيويورك"لأوستر) بل أن كاتبنا يستخدم تنويعات على مواضيع هؤلاء الكتاب أيضاً.
حياته وأعماله
ولد أوستر في نوارك، نيوجرسي، لوالدين من الطبقة الوسطى من أصل بولندي، بعد تخرجه من جامعة كولومبيا عام 1970، سافر إلى باريس حيث عاش من ترجمة الأدب الفرنسي إلى الإنكليزية، بعد عودته إلى الولايات المتحدة، راح ينشر قصائد، مقالات وروايات من تأليفه، كما ترجماته لأعمال كتاب فرنسيين من مثل ستيفن مالارميه وجوزف جوبيه.
عام 1981 تزوج بشريكة حياته الثانية، الكاتبة سيري هاستفيدت، وهما يعيشان في بروكلين ولهما ابنة هي صوفي. أما زواجه الأول فكان من الكاتبة ليديا دينيز ورزق منها بإبن هو دانيال.
نقل عن أوستر عام 2012 قوله، في مقابلة، أنه لن يقوم بزيارة تركيا كاحتجاج على معاملة السلطات للصحافيين. وقد رد رئيس الوزراء التركي عليه «وكأننا بحاجة إليك! من يكترث سواء حضرت أم لا؟».
منذ عام 2010 يعكف أوستر على كتابة رواية جديدة، لكن نقل عنه أنه في السنوات الأخيرة وجد أن الأمر غدا أصعب فأصعب في الإتيان بأفكار: «إعتدت وجود مَعين لا ينضب لديّ من القصص، لكن منذ سنوات قليلة وجدت أدراج مكتبي خاوية. أعتقد أني أقترب من النقطة التي أصارح فيها نفسي قائلاً: إذا لم أستطع إعطاء كتاب آخر فالأمر ليس بالمأساة. هل يقدم أو يتأخر إذا نشرت 16 و17 رواية؟ إذا لم يكن ثمة ما هو ملحّ بالتحديد، لا معنى للكتابة».
بعد عمله الأول الناجح بعنوان «اختراع العزلة»، أحرز أوستر شهرة بعد سلسلة من الروايات البوليسية الثلاث التي نُشرت تحت عنوان «ثلاثية نيويورك». والملفت أن هذه الملفات أو الكتب ليست قصصاً بوليسية بالمعنى التقليدي، لجهة انتظامها حول لغز وعدد من المفاتيح. إنه يستعمل في المقابل الشكل البوليسي لمقاربة مسائل وأسئلة وجودية تتعلق بالهوية، الحيز، اللغة والأدب، مولداً خلال العملية شكله الكتابي الخاص الما بعد حداثوي (والناقد لما بعد الحداثوي). وفي مقارنة لعملية، «اختراع العزلة"و»الثلاثية»، قال أوستر: «أعتقد أن العالم مليء بالأحداث الغريبة. الواقع أكثر غرابة بما لا يقاس مما نعتقد. ضمن هذا السياق تنبثق بل تولد «الثلاثية"مباشرة من رحم «اختراع العزلة».
شكل البحث عن الهوية والمعنى الشخصي عاملاً مخترقاً لإصدارات أوستر اللاحقة التي ركز العديد منها بشكل واضح على دور الصدفة والأحداث العشوائية («موسيقى الصدفة») أو بشكل متزايد على العلاقات بين الأشخاص وأقرانهم وبيئاتهم («كتاب الأوهام»، «قصر القمر»). غالباً ما يجد أبطال أوستر أنفسهم مرغمين على العمل ضمن مشاريع أو مخططات غامضة أكبر من الحياة لأحد الأشخاص. في عام 1995 كتب أوستر وشارك في إخراج فيلمين، «الدخان"الذي حاز جائزة الروح المستقلة لأول عمل سيناريو، وعن الفيلم الآخر «زرقة في الوجه». من بين أعمال أوستر الأخيرة نسبياً «ليلة الوحي» (2003)، «حماقات بروكلين"(2005) والرواية القصيرة «ترحال في عوالم غرفة الكتابة» والتي لاقت جميعها نقداً مرحباً.
«تقرير من الداخل»
يستفيد العديد من روايات أوستر من عناصر حياته طفولته في نيوجرسي، التحاقه بجامعة كولومبيا خلال اضطرابات ستينات القرن الماضي، ذهابه إلى باريس، سنواته اليافعة في بروكلين. «تقرير من الداخل» لا تشكل العمل الأول الذي حفر فيه فيما يشبه السيرة الذاتية التقليدية بل يقال إنه وجه إليها طعنة. «عيشة الكفاف"(1977) تحكي جهود اوستر اليائسة لإعالة نفسه من الكتابة قبل انطلاقته الناجحة عام 1985 بكتابه «مدينة الزجاج»، الذي شكّل مؤلفه الأول ضمن «ثلاثية نيويورك».
في «يوميات شتوية"(2012) يتمعن أوستر في الاعتلالات الجسدية، الارتباطات، مختلف أماكن السكن، الأطعمة، وحالات الموت التي صاغت شخصيته. عبر هذا العمل المنتمي إلى السيرة الذاتية وعبر «تقرير من الداخل» يسرد الكاتب مستعملاً صيغة المخاطب. في بداية «تقرير من الداخل» يميز أوستر بين مشروعي السيرة الذاتية هذين شارحاً أنه فيما شكل العمل الأول محاولة «للكتابة عن جسدك»، مصنفاً الضربات العديدة والمسرات المختلفة «التي خبرها جسدك»، فإن «هدف الكتاب الحالي («تقرير من الداخل») العمل «على استكشاف طيات ذهنك كما تتذكرها منذ الطفولة«.
مهما يكن فإن التمييز بين الجسد والعقل أو الذهن، بين الخارج والداخل، أشبه بالطفيف. تحطم السيارة الذي يصفه في «يوميات شتوية"يصيبه برعب يجعله يتجنب قيادة السيارة ثانية، والانهيار العصبي الوارد في «تقرير من الداخل» له علاقة بالبقاء على قيد الحياة مفلساً وجائعاً. وليورد أوستر في دفتر مذكرات له فكرة حازقة تقول: «العالم داخل رأسي. جسدي داخل العالم».
لا بد من إشارة تبرر استخدام أوستر لصيغة الشخص الثاني في هذا الكتاب: «ليس لأنك تجد نفسك نادراً أو شخصاً استثنائياً بل بالتحديد لأنك لا تجد نفسك كذلك. لأنك تعتقد أنك كأي شخص، مثل كل امرئ».
يغطي كتابه الجديد العقدين الأولين من تنوع شتات حياة هذا المتذكر مقسماً إياه ضمنياً إلى ثلاثة أجزاء. في الجزء الأول يعرض لسنوات ما قبل المراهقة حيث الإحساسات والانطباعات المبكرة ومحاولة كتابة أول قصيدة. تبسط الصفحات الأولى نظرة صبي إلى عالم حيث بمقدور «المقص أن يمشي فيما أجهزة التلفون وأباريق الشاي هي ابناء عم، أما العينان والنظارات فهي أشقاء». النجوم والطيور بالنسبة للصبي الصغير مثابة أحاجي وألغاز وهو يرى نفسه «حبة فاصولياء بشرية"ثمة ذكر خافت للحرب الكورية وللمكارثية، لكن أوستر يترعرع نامياً على صور الكارتون، وأفلام الكاوبوي، وآيات النصر الأميركي.
القسم الثاني أو منتصف الكتاب مخصص للسينما، بل الأقلام التي ما فتأت تسحر فؤاد أوستر المعروف عنه كتابة العديد من السيناريوات. يسهب أوستر في «تقرير من الداخل» في الكلام عن فيلمين تركا انطباعاً قوياً على الصبي. في عمر العاشرة حدث عنده تغير بفعل «الرجل العجيب المتقلص» الأشبه بدراما كافكاوية عن تغير جسدي غير منتظر. وفيلم «أنا هارب من عصابة متسلسلة"جعل ابن الرابعة عشر يدرك بما لا يدع مجالاً للشك أن ثمة وجوداً للظلم واللاعدالة الاجتماعية.
إذن ينتهك أوستر قراره بعدم ذهاب مذكراته أبعد من عمر الثانية عشرة «لأنه بعد الثانية عشرة لن تكون طفلاً بعد الآن... وتكون قد تحولت إلى مخلوق مختلف عن الشخص الصغير الذي كانت حياته الانغماس في الجديد، والذي يأتي كل يوم بشيء للمرة الاولى...».
أما القسم الأخير من «تقرير من الداخل» الذي يدعوه «كبسولة الزمن» فيتناول غزله الرسائلي (عبر الرسائل) لليديا ديفيز، الروائية التي ستصبح زوجته، مقتطفاً بحرية من الرسائل التي كتبها لها. يرى في الرسائل المنطوية على قدر من الثرثرة أنها «الباب الوحيد الذي وجدت أنه يفتح مباشرة على ماضيك». ويقول البعض إن إعادة طبع أوستر لتلك الرسائل الفضفاضة الكلام يتعارض مع ما صاره من روائي إيجازي أو مقصد التعبير.
جريدة الرأي الاردنية
إضافة تعليق جديد