كتابُ الــ لفياثانْ Leviathan
هوَ كتابٌ ضخمٌ في إشكالياته ، و هامٌ جداً في مدلولاته ، غني بالأفكارِ ، يصعبُ - في نقديري - تلخيصهُ . ألّفه الفيلسوفِ الإنكليزيِ " توماسْ هوبزْ " . ( 1588 - 1679).
جاءَ الكتابُ الذي يُعتبر عالمياً منْ العلامات الفارقة في تاريخِ الفلسفةِ السياسيةِ. مُقسماً إلى أربعةِ أجزاءٍ :
- في الجزءِ الأولِ ، شرح الفيلسوف فيه كيفيةَ عملِ عقلِ الإنسانِ والطبيعةِ البشريةِ والقوانينِ الطبيعيةِ التي تحكمُ سلوكهُ .
- في الجزءِ الثاني ، برّر لنا لماذا هناك ضرورة لإقامةِ دولةٍ قويةٍ تستندُ إلى عقدٍ اجتماعيٍ بينَ المواطنينَ، حيثُ يتخلونَ عنْ حقهمْ في كلِ شيءٍ مقابلَ حمايةِ حقهمْ في الحياةِ .
- في الجزءِ الثالثِ ، تحدثَ بإسهابٍ، عنْ دورِ الدّينِ في المجتمعِ والسلطةِ المدنيةِ، و رفض فكرةَ الفصلٍ بينهما. كما دافع عنْ تفسيرهِ للإرادةِ والقانونِ منْ منظورٍ ديني.
- في الجزءِ الرابعِ ، هاجمَ هوبزْ المذاهبُ والأفكارُ التي تخالفُ رأيهُ، أوْ تشككُ في سلطةِ الفكر المحافظِ . كما حذرُ منْ خطورةٍ “ مملكةِ الظلامِ ” التي تستغلُ جهلَ وخوفَ الشعبِ لإضعافِ دولتهِ .
لكي نتوسع أكثر في فهم متن تلك الأجزاء قليلاً ، أرى
بدايةً ، وجوب شرح معنى كلمةٌ " االــ لفياثانْ " : هيَ مفردةٌ عبريةٌ ، تعني ذاكَ الوحشِ الأسطوريِ المخيفِ ، غيرَ المرئيِ ، ذو القوةِ الساحقةِ ، الذي يتلوى بخفةٍ وخفاء، ليتحكمَ بكلِ ثنايا الأشياءِ ، أوْ يلتفُ بمهارةٍ على الأجواء ، كيْ يحكمَ قبضتهُ الصماء ، على كافةِ مفاصلِ الحياةِ للمجتمعِ .
حسب تقديري، فإن إدراك جوهر الفكرةُ الرئيسةُ لهذا الكتابِ ، تقتضي منا التذكير بنقيضها الفكري، المُتمثلُ في فلسفةِ الفرنسيِ " جانْ جاكْ روسو "
الذي رأى أنَ الطبيعةَ الإنسانيةَ خيرةً بفطرتها وطيبةَ ، وأنَ شرورَ التقدمِ وأنانيةِ إعمالِ العقلِ ، وسحرٍ المنجزِ الحضاريِ، هيَ منْ أفسدتْ حياةَ البشرِ ، ولهذا يتوجبُ على إفهامِ الناسِ التصالحِ فيما بينهمْ ، على تنظيمِ عقدٍ اجتماعيٍ ، يكون ملزماً ، ويقومَ في جوهرهِ على سلطةِ القانونِ الصارم، الذي يجبُ أنْ تكونَ حسب روسّو " كالموتِ لا تستثني أحداً ، أياً كان.
في سطور الــ لفياثانْ، خالفَ هوبز أفكار روسو ، و شرح لنا كيف أنَ البشرَ أنانيونَ وعنيفونَ في طبيعتهمْ ، ولهذا عليهم منْ أجلِ الهروبِ منْ شرورِ هذهِ الحالةِ الطبيعيةِ العنيفةِ، وضمانَ بقائهمْ على قيدِ الحياةِ ، الدخولُ في عقدٍ اجتماعيٍ معَ بعضهمْ البعضِ ، حيثُ يتنازلونَ عنْ بعضِ حقوقهمْ وحرياتهمْ الفرديةِ ، إلى سلطةٍ مركزيةٍ ، تتمتعَ بسلطةٍ مطلقةٍ على كلِ مواطنيها ، مقابلَ تقديمها لهمْ الحمايةُ والأمنُ ، ومنعَها المجتمع منْ الانهيارِ ، والدخولُ في حالة الفوضى والعنفِ .
مما سيعني العودةِ إلى حالةِ الطبيعةِ الإنسانيةِ البدائيةِ - الحالةُ الافتراضيةُ للبشرِ في غيابِ حكومةٍ أوْ حضارةٍ - التي هيَ حالةُ حربٍ وعنفٍ مستمرينَ كما قلنا ، وحياةُ " منعزلةٌ ، وفقيرةٌ، سيئةً، وحشيةً ، وقصيرةٌ ". تتهض على حقيقة أنَ -" الإنسانَ ذئب أخيهِ الإنسانِ"
لذلكَ لابد منْ وجودِ السلطةِ السياديةِ المطلقةِ ، والتي تمثلُ في رأي هوبز الحكومةُ المركزيةُ الشديدة، و قد رمزُ إليها بوحشٍ عملاقٍ قويٍ للغايةِ Leviathan، الذي يقوم على فرضِ العقدِ الاجتماعيِ، وحماية الافراد من طبيعتهم الشريرة، ومنعهم بالقوة، منْ العودةِ إلى حالةِ الطبيعةِ العنيفةِ .
و وفقاً لـ هوبزْ ، يجبَ أنْ تكونَ قوةٌ الــ لفياثانْ ( الحكومةُ ) مطلقةً ولا جدالَ فيها ، لأنَ أيَ تحدٍ لسلطتها أو الثورة عليها ، سيؤدي إلى الفوضى وضياع الامن والامان ، وتفاقمِ الظلمِ الذي سيسببهُ الناسُ لبعضهمْ البعضِ .
وإنَ شرعيةَ هذهِ القوةِ السياديةِ المطلقةِ ، تتأتى فقطْ منْ قدرتها على الحفاظِ على النظامِ وتوفير الامن و حمايةِ مواطنيها ..الخ
قصارى القولِ :
لا شك في أنَ كثير منا ، سيجد أفكارَ هوبزْ مثيرةً للجدلِ ، ولا غرابةَ أنْ انتقدَها كثيرونَ . لكنَ من المؤكدَ أنَ هذه الأفكارِ العميقة ، قدْ أثرتْ بالفعل في العلومِ الإنسانيةِ قاطبةَ، وما زالتْ تناقشُ فيها حتى يومنا هذا .
ومنها بالطبعِ " علمَ النفسِ . . الذي تجادلُ علماؤهُ ، - ومازالوا - حولَ أنَ كلَ السلوكِ البشريِ يمكنُ تفسيرهُ منْ حيثُ المصلحةُ الذاتيةُ ، وأنهُ حتى الأفعالِ غيرِ الأنانيةِ - على ما يبدو - كانتْ مدفوعةً في النهايةِ بالرغبةِ في تحقيقِ مكاسبَ شخصيةٍ .
وكذلكَ امتدَ تأثيرها على " علمِ الأخلاقِ " . . وفيه اعترض كثيرٌ منْ المفكرينَ على رفضِ هوبزْ للمفاهيمُ التقليديةُ للأخلاقِ ، وبالذات قولهُ إنَ الصوابَ والخطأَ لا يمكنُ تحديدهما إلا منْ خلالِ القوانينِ والمعاييرِ التي وضعها المجتمعُ . ولذلكَ على الأفرادِ اتباعُ هذهِ القوانينِ ، ليسَ لأنهمْ عادلونَ أوْ أخلاقيونَ بطبيعتهمْ ، ولكنْ لأنَ القيامَ بذلكَ يصبُ في مصلحتهمْ الذاتيةِ، ويساهمُ في استقرارِ المجتمعِ ككلٍ .
كما رأى بعضَهم في تأكيدَ هوبزْ على أهميةِ وجودِ حكومةٍ مركزيةٍ قويةٍ مطلقةٍ ، مبررا فكرياً غير منصف للاستبدادِ والطغيانِ ،
لكن في زعمي ، يبقى منْ أهمَ ما قيلَ عنْ الــ لفياثانْ هوبزْ هوَ أنهُ يقدمُ حجةً قويةً لضرورةِ وجودِ حكومةٍ مركزيةٍ قويةٍ للحفاظِ على النظامِ الاجتماعيِ ، ومنعَ انهيارِ المجتمعِ في الفوضى والعنفِ . بخاصةٍ ، إذا كانتْ تلكَ المجتمعاتِ متخلفةً أوْ تعاني منْ تدهورٍ عقليٍ وعلميٍ كبيرٍ .
و في رأيِ الشخصيِ، لقدْ أهملَ هوبزْ مفهومَ " العدالةِ " الاجتماعيةِ ، ولمْ يتطرقْ - للأسفِ - إلى تلكَ القيمةِ الأخلاقيةِ الأساسيةِ الساميةِ ، التي ينهضُ عليها - في زعمي - استقرارُ وازدهارُ أيِ سلطةٍ أوْ دولةٍ ،
و ربّما غابَ عنْ ذهنِ فيلسوفنا، أنهُ عندما يكونُ العدلُ غائباً في مجتمع ما ، فلنْ يلمسَ الناسُ كثيراً ، الفرقُ بينَ سلطةَ الدولةِ وقطاعِ الطرقِ . .
وحينئذٍ لنْ تختفي شرورُ تلكَ الفوضى في المجتمع ، ولنْ يغيبَ العنفُ في جوهرِ الناسِ ، بلْ قدْ يُكْبتُ الشرّ إلى حينٍ فقطْ .
إضافة تعليق جديد