بديع جحجاح : الإصدار الأول من "وثائق عرفانية"
عمار حسن:
الجمال ليس واحدياً فهو يتطلب اتحاداً بين وحدتين، إحداهما مرئية والأخرى خفية، فإن رؤية ومعرفة العمل الفني من نظرة واحدة سيجعل مرئيته تتضاءل وتخمد، فالجمال الفني هو إعادة تأليف مستمر، بحسب سارتر.
ما سبق ينطبق بكثير من الدقة على أعمال بديع جحجاح الفنان الذي توالد من بذرة اللون والضوء حين دورانٍ في فلك المحبة، فكان أن رسمته اللوحة مبتهلا ومرنما جمال شرقٍ ينتمي اليه بعيدا عن كل الدروب التشكيلية الغربية والتغريبية، فاللوحة ليست فقط شكلا جميلا أو صادماً أو محتوى تعبيرياً وإن كان هذا جيدا، لكن الخلاف يكون على نوعية المحتوى التعبيري وأثره ، فشتّان بين طاقة تعبيرية تأخذك الى التوتر والغضب والقبح وبين طاقة تعبيرية تأخذ قلبك الى الطواف والدوران بمدار الجمال الذي تتوق اليه روحك، ثم لا تتوقف هنا بل تعطيك المزيد من الاسرار لتعرف الأكثر ، فتستمر بلامرئيّها أكثر من مرئيّها، ولهذا فلوحة بديع مواجهة وتكشّف وترسيخ هوية وتأصيل لرؤية دروب وعي قلّ سالكوها .. ولكنها دروبنا نحن بثقافتنا التي تعلي من قيم الروح ، فشرقنا يتصّف بالروحانية، وهنا يلحّ بديع على تأصيل هذا الوعي في لوحته لحدّ أنه يمهرها بأختام تحمل في شيفرة كثافاتها رمزية التثليث، ورمزية التكوين ورمزية التساؤل ورمزية الرؤية ورمزية المحبة ورمزية الدوران والعطاء عبر درويش ولد من بذرة فن ووعي ومحبة ثم تكاثف بكل هذا وعاد بذرة، تميمة، لوحة، كوثيقة عرفانية ممهورة بختم يعيد تشكيل وتأليف التجربة برمتّها بشكل مستمر وبهذا إشارة بالغة الأهمية على مدى قوة الرمز واللامرئي في صياغة المرئي والرؤية والسلوك ، فنحن في النهاية أبناء طريقتنا في الرؤية والتفكير، وإذ صاغ وألف وتشكل بديع من لوحته وفيها فليقول عبر الخط واللون ذاته التي ارتقت لحالة وحال ، ولنا أن نسمع بطريقتنا هذه الترنيمة البصرية!
هذه الترنيمة قد نقرؤها معكوسة كحال الدرويش في دورانه وهذا المرئي في الرؤية هذه، ولكن اللامرئي فيها هو العودة بالزمن الى بذار الحق والخير والجمال، وبتلك الصياغات التشكيلية المعتّقة فهي تعيدنا الى زمن النقاء .. ألا يخطفنا جحجاح بهذا الحال التشكيلي لزمن آخر ووعي آخر؟!
إنه يأخذنا الى النبش في تربة الزمن وغباره وطبقات هوائه ليفتح نافذة ليعبر منها رذاذ اللون مصحوبا بحبق الوعي ليوشّح حدقات الروح بتركواز الغبطة، تلك التي وصل اليها ، وبدوره وعبر الفن يعيد نثرها الينا وعلينا، هذه الثمار التي هي لوحات أمامكم احتاجت للكثير من الزمان والاختمار والاحتراق لتكون ثمار وعي جمالي روحي عرفاني تشهد لذاتها بذاتها ثم تضيف من ماهيتها الى ماهيتها الختم كوثيقة عرفانية عابرة للعالم، عالم المحبين، فأخوة العشق أمة واحدة..
فنان وناقد تشكيلي
إضافة تعليق جديد