تصوراتنا للعالم لمارتن هيدجر
أحمد رباص:
أثار كتاب “دروب لا تفضى إلى أي مكان” أو "الهولتزفيغي"، باعتباره واحدا من الكتب الأساسية في فلسفة هيدجر بصفة خاصة وفي تارخ الفلسفة بصفة عامة، الكثير من الجدل. فيه تكلم هيدجر عن طرق تتواجد في الغابة وكل واحد منا يتبع طريقه الخاص، ومع ذلك يعرف الحطابون ورجال الغابات بدقة دروبهم في ذلك الزحام. ولذلك، اهتم الكتاب بمفهومي الوجود والحقيقة، وكيف يؤثران على حياتنا اليومية.
نحن أمام كتاب له مكانته في مجال الفلسفة. عند صدوره، عرف انتشارا سريعا عبر سائر سائر أرجااء العالم، ولا يزال يحتفظ بأهميته إلى يومنا هذا.
يندرج هذا الكتاب في اللحظة الفلسفية الألمانية ويتحدث بلغتها ويهتدي بمنهجها. ومن خلال عنوانه ندرك أنه يتحدث عن الدروب التي لا تفضي إلى أي مكان وكيف يمكن للفرد اكتساب الحرية في اختيار طريقه الخاص في الحياة والوجود وإيجاد معنيهما.
من الناحية العملية، يهتم الكتاب بمفاهيم فلسفية هامة تمكن القارى من تحقيق أهدافه وأحلامه إذا وجد إلى تطبيقها في حياته اليومية سبيلا. ولعل ما يجعل ذلك ممكنا هو أن الكتاب يوضح فلسفة هيدجر الشهيرة التي تؤمن بضرورة ممارسة الحياة بصورة متناغمة مع العالم والطبيعة والعقل.
يمكن التأكيد على أن فكرة كتاب فيلسوف الغابة ترتكز على انعدام المسارات والطرق الثابتة في الأدغال، مما يجعل الشخص الذي يسلك هذه الدروب يحتاج إلى اعتماد حواسه وذكائه في اتخاذ القرارات الصحيحة لتجاوز الصعوبات التي قد تواجهه أثناء السير. ويعتبر هذا النهج في صلب الفلسفة الحديثة ويشتمل على نواحي العلم والروحانية والفن.
كما يتحدث الكتاب عن مفهوم الحرية والتحرر من القيود والتجاهل للتقاليد المفروضة علينا، راسما أيضا الأهداف والأحلام التي يجب أن يسعى إليها الفرد من أجل تحقيق هذا التحرر وهذه الحرية الشخصية بشكل مستقل.
في مقالنا المنشور هنا يوم أمس، ذكرنا أن "دروب لا تفضي إلى أي مكان" مكون من مجموعة من الدراسات، وهي: “كلام أناكسيمندر”، “تصوراتنا للعالم”، “أصول العمل الفني”، “هيجل وتصوره للتجربة”، “لماذا الشعراء؟” و”عبارة نيتشه”. وبما أننا ركزنا في ذلك المقال على تعليق هيدجر على شذرة ما قبل سقراطية الذي جاء تحت عنوان "كلام أناكسيمندر"، يحق لنا الآن الحديث عن الجزء الثاني من "دروب..." المعنون ب"تصوراتنا للعالم"، على أن نكتب أربع مقالات عن الاجزاء المتبقية في القادم من الأيام.
النص المعنون "تصوراتنا للعالم"، كان في الأصل محاضرة ألقاها مارتن هيدجر، في فرايبورغ يوم 9 يونيو 1938، وموضوعه العام هو “أسس التصور الحديث للعالم” كما أشار إلى ذلك المترجم فولفغانغ بروكماير. هنا، حرص هيدجر على التمييز بين الفلسفة وأي نظرة إلى العالم (Weltanschauun)
وفقا للمؤلف، تسعى الميتافيزيقا إلى تحديد المبدأ الذي يحكم "من الأعلى إلى الأسفل" جميع الظواهر المميزة للعصر التاريخي، وبهذا المعنى يؤكد غيوم فانييه أن الميتافيزيقا والنظرية العالمية تتطابقان إلى حد كبير. بالنسبة إلى هيدجر، يفترض بديهيا هذا المبدأ التوجيهي، ذو الطبيعة الميتافيزيقية، أن هناك نموذجا واحدا منه لكل عصر تاريخي، يمثل جميع مظاهر الحياة الاجتماعية. ويشكل العلم في هذا النص إحدى السمات الأساسية للعصر، العلم مصحوبا بأربع خصائص أخرى: التقنية الممكننة، دخول الفن إلى أفق الجماليات، التفسير الثقافي لجميع مساهمات التاريخ البشري، وما يسميه "تجريد الآلهة".
يعيد آلان بوتو إلى الأذهان (انظر هيدجر ومسألة التقنية)، أن الظاهرة الأساسية في العصر الحديث لن تعود لاحقا بالنسبة إلى هيدجر، "علما، بل تقنية لم يعد العلم نفسه حينها مجرد أحد جوانبها العديدة.". ويضيف أن "العلم الحديث، من خلال المشروع الرياضي للطبيعة، يتطلب من الطبيعة المادية أن تظهر نفسها كمجموعة معقدة من القوى القابلة للحساب، وهي من وجهة النظر هذه يحكمها جوهر التقنية". يتساءل هيدجر: “أي معنى للوجود وأي تفسير للحقيقة يكمن في أصل هذه الظواهر؟". التوضيح الأول يقوم على أساس من التشكيك في جوهر العلم.
بين العلم الحديث والعلم اليوناني هناك اختلاف وجودي: “لم يكن العلم اليوناني علما دقيقا أبدا. يشير هذا الاختلاف إلى اختلاف أعمق ذو طبيعة وجودية: العلوم، اليونانية والحديثة، لا تفسر "الموجود" بنفس الطريقة. ولهذا يجب أن نتوقف عن “تمييز العلم الحديث عن العلم القديم باختلاف الدرجة من وجهة نظر التقدم”. لا يهدف اليونانيون إلى أن يكون النوجود دقيقا في حين أن المحدثين يهدفون إلى أن يكون دقيقا. ويبدو أنه بالدقة، على الأقل في هذه المحاضرة، يجب أن نفهم دقة ما يمكن حسابه.
بالنسبة إلى هيدجر، فإن جوهر ما نسميه اليوم "العلم" هو البحث. بعد ذلك يتساءل الفيلسوف: "ما معنى الوجود وما هو مفهوم الحقيقة الذي يمكّن العلم من أن يصبح بحثا". يجب أن يكون الموجود متاحا، وهذا الوضه للموجود رهن إشارة البحث يعني تشيؤه الذي يتم في “التمثل”.
"إن ما يميز العصر الحديث عن العصر القديم والعصر الوسيط هو أن "الوجود يصبح موجودا في التمثل ومن خلاله، وهذا ليس هو الحال لا في العصر الوسيط، حيث يكون الموجود كمخلوق مدركا بالإحالة إلى العلة الخالقة، ولا في العالم اليوناني، حيث الموجود […] هو بالأحرى ما يخص الإنسان".
مع ديكارت، يظهر الإنسان، بعد أن أصبح ذاتا، كأنه "المركز المرجعي للموجود بوصفه كذلك"، ما يعني ضمنا، بحسب هيدجر، أن "قبول" الموجود "يتغير من الأعلى إلى الأسفل" مقارنة بالفترة السابقة. كما أشار هيدجر إلى أن “التصور الحديث” للعالم يختلف، سواء بالنسبة إلى الموجود بشكل عام أو في ما يتعلق بالإنسان، في وقت واحد، عن “التصور القروسطي” أو عن “التصور القديم”؛ الشيء الذي سمح له بطرح الفرضية التي مفادها أن لكل حقبة تاريخية "تصورها الخاص عن العالم"، و"صورتها" التي تتوافق معها كلمة (Weltbild).
"العالم" هنا يؤخذ بمعنى "الوجود في كليته" وليس فقط الطبيعة، ولا حتى الكون، وإلى كل ذلك تنضاف أيضًا أشياء الروح. وبهذا المعنى الأوسع، ينتمي التاريخ ينتمي أيضًا إلى (Bild). أما بالنسبة لصورة عبارة WeltBild فهل هي مجرد لوحة؟ تعبر الصيغة الألماني للعبارة بشكل أفضل عن المعنى الذي أراد هيدجر أن يعطيه، Wir sind über erwas im Bilde، نحن شيء في الصورة، ونحن نعرف من أين عاد. يتمثل الموقف من وضع الموجود أمام الذات والحفاظ عليه بشكل حاسم في "التمثل".
إذا كانت كلية الموجود ثابتة على هذا النحو، فيمكن للإنسان أن يوجه نفسه، ولن تعود WeltBild صورة، بل العالم نفسه الذي يمكننا فهمه باعتباره العالم الذي يمكن أن تكون لدينا فكرة عنه، كما يشير إلى ذلك غيوم فانييه. "وبالتالي فإن الموجود في مجمله يُؤخذ الآن بطريقة تجعله موجودا حقيقيًا وفقط بالقدر الذي يوقفه الإنسان ويثبته في التمثل والإنتاج".
يقول هايدجر: "إن العملية الأساسية في العصر الحديث هي غزو العالم كصورة متخيلة. وكلمة صورة الآن تعني التشكيل [...] وفي هذا يكافح الإنسان من أجل الوضع الذي يسمح له بأن يكون الموجود الذي يقيس جميع الموجودات ويضع جميع المعايير".
بخلاف اليونانيين، يؤكد هيدجر أن تفاهم الموجودات ينتمي إلى الوجود بقدر ما ينفتح ويجتمع".
من وجهة نظر عامة، يشير جان بول ليرو إلى رؤية هيدجر التي تتمثل في توحيد جميع خصائص عصر ما، حيث أن تحقيق مظهر من مظاهر الوجود سيؤدي إلى مواءمة العلم مع الشعر وبالتالي إنكار فكرة التقدم.
من وجهة نظر علمية تركز الانتقادات الموجهة إلى هذا النص (في أغلب الأحيان) على إظهار أنه لا يوجد فرق في الطبيعة بين العلم الحديث وعلوم العصر الوسيط أو العصر القديم. ينتقد جان بول ليرو الموقف مؤكدا أن هناك اختلافا جوهريا بين علم العصر الحديث وعلم العصرين الوسيط والقديم. غير أنه يرفض رأي هيدجر القائل بأن "العلم اليوناني لم يكن أبدا علمًا دقيقا"، ويسعى إلى إثبات أن العلم الحديث، في الواقع، يحقق المثل الأعلى للعلم اليوناني.
خلق العلم اليوناني عالما من الكائنات الجديدة، عالم الكائنات الرياضية. ظل تعريف الدائرة دون تغيير، وهذا هو الحال بالنسبة لجميع الكائنات الرياضية لأن اللغة الرياضية مبنية على تجنب كل الغموض الثانوي الذي يتحدث عنه أرسطو. الكائنات دقيقة، العوامل دقيقة، قواعد التفكير دقيقة، الرياضيات دقيقة سواء كانت يونانية أو حديثة".
كانت طبيعة هذه الكائنات موضوع نقاش حاد في اليونان، وهذا النقاش أبعد ما يكون عن الإغلاق، لكن هذه ليست النقطة الرئيسية. فالأمر الأساسي هو أن اليونانيين هم من خلقوا المجال البرهاني، وأننا نعيش الآن في عالم هو نتيجة لوجود هذا المجال.
من وجهة نظر أنطولوجية، لم يكن للعصور السابقة أي تصور عن العالم، لأنها، على عكس العصر الحديث، لا تختزل العالم في صورة متخيلة. وفقا لهيدجر، في عقل اليونانيين، ينتمي إلى الوجود توافق الموجود حالما ينفتح ويزدهر. فالإنسان مفهوم ومحتوى ومن ثم فهو محمول على انفتاح الوجود. فهو الذي يجمع ما ينفتح، ينقذ ويحفظ، ولهذا لا يمكن للعالم أن "يقدم نفسه كـ "صورة متخيلة" بل كـ "صورة متلقاة".
الآن يجب علينا أن نتذكر “أن الفئة الأساسية للتمثل العلمي المعمول بها عند ديكارت وعند كل المحدثين، ألا وهي 'الحتمية'، حاضرة بشكل كبير في الفكر اليوناني، (مثلا) فكرة تحول العناصر إلى بعضها البعض كانت حاضرة في اليونان على الأقل منذ طاليس”. ولذلك سينتقل هيدجر بشكل اعتباطي، ليحدث قطيعة وجودية، من فكرة الصورة البسيطة عن العالم الحاضرة في العصور القديمة إلى الصورة المتصورة في العصر الحديث.
لا يمكننا الانتقال مباشرة من جوهر الفكر القديم إلى جوهر الفكر الحديث، دون المرور عبر فكر العصور الوسطى، حيث يفسح اكتشاف الحاضر الطريق للوحي الإلهي، حيث يتم خلق جميع الكائنات وتنظيمها بواسطة إله "يعمل كسبب أسمى"، يكتب جان فرانسوا ديون في مذكراته.
وفي ما يتعلق بالعصور الوسطى، "أن تكون كائنًا يعني أن تنتمي إلى درجة محددة من نظام المخلوق وأن تتوافق، كمعلول، مع العلة الخلاق". بالنسبة لهذه الفترة، فإن السؤال الذي يطرح نفسه لا يتعلق بدرجة العلم بقدر ما يتعلق بمعرفة "لماذا نسي الأوروبيون العلوم الدقيقة والفيزيائية والرياضية لليونانيين ثم عادت للظهور انطلاقا من العصور الوسطى؟"، يتساءل فرانسوا ديون.
إضافة تعليق جديد