إيمانويل كانْط: نقد العقل المحض

01-12-2023

إيمانويل كانْط: نقد العقل المحض

قال عنه شوبنهاور :

           ” يظل الإنسان طفلا حتي يقرأ لكانْط “.

يعد الفيلسوف الألماني "إيمانويل كانْط" من أعظم الفلاسفة في التاريخ وليس في الفكر الحديث فقط. كان هذا الرجل عقلانياً متأثراً بديكارت ولايبنتز، ويرى أن القوانين الكلية تحكم العالم؛ لكنه ذات يوم قرأ كتاب ديفيد هيوم (مبحث في الفهم البشري)، مترجماً إلى “الألمانية”، فأُصيب برعب! يقول : 
       ” لقد أيقظني هيوم من سباتي الدوغمائي “؛
أي من نومي اليقيني. وهيوم فيلسوف شكي، وقد رأى أن القوانين التي تحكم العالم ليست كلية ولا ضرورية. فلنأخذ مبدأ السببية كمثال؛ هذا المبدأ ينص على أن لكل شيء سبباً. فإذا قربنا النار من القطن فإنه سيحترق؛ لكن هيوم يقول :
   ” صحيح أننا نرى شيئين (ناراً) تلامس (قطناً) فينتج حدث (إحتراق)؛ ولكن ليس في التجربة ما يفيد أن النار (يجب) أن تحرق القطن، وكلمة (يجب) تعبِّر عن مفهوم الضرورة أو الحتمية. وحسب هيوم، فقد يحدث أن نقرِّب النار من القطن في المرة القادمة فلا يحدث إحتراق، ونحن فقط نتوقع الإحتراق بسبب (العادة)؛ فقد تعودنا على مشاهدة هذا الحدث مئات المرات، فإعتقدنا أنه (يجب) أن يحدث المرة القادمة. 

هذه الفكرة أرعبت كانْط؛ لأنها فكرة مقنعة وصحيحة. وعلى هذا فإن العلوم والمعارف ليست لها أساس يقيني؛ وهذه الفكرة تفتح الباب للخرافات واللا معقول.

 فما العمل؟

كانْط مقتنع، كما قُلنا، بوجاهة فكرة هيوم؛ ولكنه بالمقابل مقتنع بصحة وحتمية القوانين العلمية التي وضعها نيوتن وجاليليو. (فالقوانين العلمية)، كما يقول كارناب :
 ” ما هي إلا تقريرات دقيقة تعبر عن الإنتظامات الموجودة في العالم “؛ 
لكن هذه الإنتظامات عند هيوم ليست سوى عادات تعودنا عليها، وليست سوى وهم إفترضنا وجوده في العالم الخارجي.

إذن، يرى كانْط أن هناك شيئاً خاطئاً يجب تصحيحه.

فكر كانْط طويلاً ووجد الحل؛ صحيح أن عالم التجربة الحسية لا ينطوي على قوانين ضرورية، وإنما على حوادث تجريبية متتالية، لكن (العقل) نفسه هو مَن يفرض الضرورةَ على العالَم. هذه الفكرة تُسمى بثورة كانط الكوبرنيكية (مقارناً إياها بثورة كوبرنيكوس في الفلك)؛ فالعقل لم يعد صفحة بيضاء تتلقى الإحساسات والمعارف، بل صار العقل نفسه يعيد تشكيل العالَم بما لديه من أفكار.

إن القوانين الكلية الضرورية موجودة؛ ولكنها لا توجد في عالم الأشياء في ذاتها، بل في عالم الظواهر؛ فما الفرق بين هذين العالمَين؟

يتفق كانْط مع التجريبيين على أن المحسوسات مهمة جداً في تكوين الخبرة وتأسيس المعرفة؛ ولكنه يتفق مع العقليين على أن العقل يحتوي على تصورات قبلية ومقولات كلية تقوم بتنظيم المحسوسات وصناعة المعرفة منها. فالمحسوسات أشبه بالمادة الخام، والعقل هو المهندس الذي يبني العالَم كما يبدو لنا.

نحن نستقبل معطيات حسية من العالم الخارجي؛ لكننا لا نعرف العالم الخارجي كما هو في ذاته، بل كما يظهر لنا عبر المحسوسات الصادرة عنه. وهكذا فالعالم الخارجي كما هو في ذاته هو عالم (النومين) أو الأشياء في ذاتها، وأما العالم كما يظهر لحواسنا فهو العالم الظاهري أو (الفينومين)؛ مثلا، فأنا الآن أستقبل معطيات حسية من شيء إتفقنا على تسميته بـ(التفاحة)، وهذه التفاحة تظهر في ضوء ملكة الحس على أنها شيء واحد لونه أخضر، وشكله مستدير، وطعمه حلو؛ ولكن هل هذا (الشيء في ذاته) هو كما يظهر لنا فعلاً؟ يرى كانط أننا لا نملك أدنى معرفة عن التفاحة في ذاتها، فلربما لا يكون طعمها حلواً ولا لونها أخضر. ويضرب الشاعر الألماني الشهير هنريش هايني، مثلاً للتبسيط : 
   ” تصور أنك ولدتَ وأنت ترتدي نظارات لونها أزرق، ولنفترض أنك غير قادر على إزالة النظارات أبداً؛ كل ما تراه سيكون لونه أزرق. هكذا هو العالم كما يظهر لك (الفينومين)؛ لكن العالم كما هو في ذاته (النومين)، فلا تملك أية وسيلة للوصول إليه ومعرفته. عقولنا مثل هذه النظارات الزرقاء؛ فهي تلون العالم بلونها ولذا فهي لا تعرف العالم كما هو في ذاته، والمفارقة أن عقولنا هي الطريق الوحيد الذي من خلاله نتصل بالعالم. وهكذا فعالم الأشياء في ذاتها لا يمكن لنا معرفته على الإطلاق.

إذن أمامنا ثلاث كينونات : العقل والعالم الخارجي (أو العالم في ذاته) والعالم الظاهري (أو العالم كما يظهر لنا)؛ فعندما يلتقي العقل بالعالم الخارجي ينتج العالم الظاهري عن هذا اللقاء.

العالم الخارجي يمدنا بالمواد الخام (الإنطباعات الحسية)، والعقل بفضل مقولاته القبلية (الفطرية) يصوغ العالم الظاهري من تلك المواد الخام؛ فما مقولات العقل؟

🔹العقل يحتوي على ثلاث ملكات :

1- ملكة الحس؛ وهي التي تستقبل الإنطباعات الحسية، وتقوم بتنظيمها بفضل صورتَي الزمان والمكان؛ فهاتان الصورتان عقليتان وليستا موجودتَين في العالم الخارجي.

2- ملكة الخيال؛ وهي التي تطبق مقولات ملكة الفهم على الإنطباعات الحسية المتموضعة في قالبَي الزمان والمكان.

3- ملكة الفهم؛ وهي تنتج تصورات قبلية بشكل تلقائي، مثل تصور الجوهر والعلية والإضافة والتفاعل ونحو ذلك. وتقوم ملكة الخيال بتطبيقها كما، أشرنا في رقم (2)، على المحسوسات.

ملكة الخيال تنتج ما يسميه كانْط بالخطاطات الأولية؛ ولكي نفهم وظيفتها سنضرب مثالاً بالمهندس المعماري.

المهندس يصنع في ذهنه صورة للمنزل، وهي صورة عقلية؛ ولكنه لكي ينفِّذ الفكرة، أي لكي يجسد المنزل فعلياً في الواقع يمسك بورقة وقلم ويقوم بتخطيط هندسي. هذا التخطيط (مخطط البناء) يقوم بدور الوسيط بين الفكرة التي في الذهن والمنزل الفعلي المراد بناؤه .. وهكذا هو عمل الخطاطات التي ينتجها الخيال؛ فالخطاطة تجمع بين تجريدية العقل ومادية الحس.

ملكة الفهم تنتج تصورات قبلية أو مقولات؛ كلمة “قَبْلي” تعني سابق على التجربة، وكلمة مقولة تعني تصوراً كلياً ينطبق على حالات فردية.

أهم مقولات ملكة الفهم هي مقولة الجوهر وتنص على أن الشيء واحد ومستقل وأنه يحمل صفات متنوعة؛ فنحن كما في مثال التفاحة نستقبل إنطباعات حسية تعبر عنها صفات مثل: خضراء، مستديرة، حلوة المذاق.. إلخ؛ ولكننا نعتقد أن هناك (جوهراً) يحمل هذه الصفات المتنوعة، ونسميه: تفاحة. وهذا الجوهر، كما برهن باركلي، ليس حسياً؛ فلو بحثنا في التجربة لما وجدنا سوى إنطباعات فقط. إذن الجوهر، حسب كانط، مقولة فرضها العقلُ فرضاً على المعطيات الحسية.

وهناك أيضاً مقولة العلية أو السببية، ويفرضها العقل على الواقع الحسي، كما هي الحال مع مقولة الجوهر. ولدينا كذلك مقولة الإضافة؛ وهي تجعلنا نربط بين الأب وإبنه مثلاً، فليس في التجربة الحسية المحضة ما يخبرنا أن زيداً هو أبو عمرو؛ لكن عقولنا هي ما يربط بينهما حسب مقولة الإضافة .. وهكذا قُل مع بقية المقولات (وهي إثنتا عشرة مقولة)، 

الإنسان في حياته الواعية يستقبل المحسوسات وينظمها بفضل قدرة العقل؛ فإذا ما نام الإنسان مثلاً تراخت المقولات العقلية وصارت الحياة غير مرتبة (كما في حياة الحلم)، فأنت مثلاً تحلم أنك تكلم صديقك محمداً في مقهى بمدينة القاهرة، فجأة يصبح المقهى في دمشق (هكذا تنهار مقولة المكان في الحلم). وأيضاً، وبصورة غير متوقعة، يصبح صديقك محمداً شخصاً آخر في اللحظة نفسها: لنقل صديقك الآخر أحمد. فأنت تكلم محمداً وفجأة صار أحمد، (وهكذا إنهارت مقولة الجوهر).

وفي حلم آخر يصدف أنك برفقة صديق مات منذ عشرين عاماً (وهكذا إنهارت مقولة الزمان)، وفي حلم ثالث ربما يطلق عليك أحد الأشرار النارَ فلا يصبك شيء أو تسقط من جرف عالٍ فلا تموت أو تتكسر، (وهكذا إنهارت مقولة العلية).

الشاهد من كل هذا هو أن عالمَنا بلا مقولات عقلية لن يكون مرتباً ومفهوماً ومعقولاً؛ بل سيكون مثل عالم الأحلام والهلوسات والكوابيس المشوشة، وهذا يدل على أن العقلَ هو منشئ العالَم (كما يظهر لنا).

هكذا، فإن مقولة العلية التي تعرضت إلى هجمة عنيفة من هيوم، تم إنقاذها بفضل تمييز كانط بين عالم الظواهر وعالم الأشياء في ذاتها؛ فإذا كانت العلية ليست ضرورية أو حتمية في عالم الأشياء في ذاتها، كما قال هيوم، فإنها ضرورية وشاملة في عالم الظواهر، وضرورتها نابعة من كونها مقولة عقلية قبلية بفضلها صارت المحسوسات المشوشة عالماً مفهوماً.

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...