لمحة من تاريخ جبلة
مؤنس بخاري: جبلة، هذه المدينة الصغيرة الرقيقة على الساحل السوري مأهولة منذ خمسة آلاف سنة على الأقل. وبينما لا يتجاوز عدد سكانها اليوم 200 ألف؛ نصفهم من النازحين، لكنّها في الواقع كانت من أهمّ المدن على الساحل السوري طيلة تاريخها. إذ كانت عاصمة سياسية للساحل الشمالي طوال حياتها واحتلّت مكانة دينية كعاصمة دينية لفترة طويلة، حتى مع تبدّل الأديان فيها.
ميلاد جبلة
تبدّلت أسماء جبلة على مرّ التاريخ، فكانت گَبْلَه و غَبْلَه و جِبلِه و جَبَلَه و جَبْله و گَبَله و گَبَلا و گابْلا و گيبِلُّم ومن تعريبات اسمها قِبلة وقبالة… لكنّ أوّل ذكر لهذه المدينة عثرنا عليه في النقوش الأگاريتية التي تعود إلى 3200 سنة، وتذكرها باسم ”أدَد گِ-بَ لا“ وتفصيحها “أداد گِبَلّا” ومعناه الحرفي “مكان أداد” أو “عرش أداد” أو ”تقدمة أداد“، وأداد إله معروف في التاريخ السوري (الأشوري) وعُبد لأكثر من ألفي عام في الإمبراطورية الأشورية وما تلاها وبقي في نصفها الغربي.
في النقوش الأوگاريتية الأحدث ترد مدينة جبلة باسم مختصر هو ”گبلّي“ (گبعلي) بحسب دراسة صادرة سنة 1992 عن جامعة مِچِگَن بعنوان ”سنوات الكارثة: القرن 12 ق.م: من خلف الدانوب إلى دجلة“. وكانت مدينة جبلة ”گبلّي“ آنذاك ميناء المملكة الأگاريتية الرئيس ومنصّة تواصلها مع العالم، سيّما وأنّ أگاريت فضّلت التجارة البحرية على التجارة البرّية. لاحقاً صارت مناطق أگاريت من ممتلكات إبلا ثم ضمّتها الإمبراطورية الأگّدية تحت ولاية آشور، ثمّ ومن بعد انفراط الإمبراطورية الأگّدية صارت من ألوية المملكة الأشورية وانخرطت تماماً في الثقافة الأشورية وأديانها، لتصبح بعدها تحت حكم بابل والعرش الأخميني.
خلال العصر الهيليني تبادل على حكم جبلة والساحل السوري مملكتي الپطالمة المصرية والسلوقية البابلية، وعرفها الناس آنذاك باسم ميناء ”گَبَلَه“ كما ترد في النقوش الإغريقية ومن ثم الإغريقية-الكوينية ومن بعدها اللاتينية الرومانية بذات الاسم، وحافظت على مكانتها ذاتها ما بين 333 ق.م وحتى القرن الحادي عشر، كأهمّ ميناء شمال الساحل السوري، ونهاية شريان طريق الحرير على ساحل البحر المتوسط.
خلال العصر البيزنطي خضعت جبلة للحكم الغسّاني، وكانت آنذاك تسمّى گَبَلاس Γαβαλᾶς وهو ذاته اسم الملك الغساني ”جبلة بن الحارث“، جبلة ”گَبَلاس“ Γαβαλᾶς كما ورد في التدوينات الإغريقية. لذا يُعتقد بأنّ ”الحارث الأول بن ثعلبة“ الغسّاني أسمى ولده جبلة على اسم المدينة وتقديراً لسلطتها الدينية. واشتُهر جبلة الرابع بين العرب بلقب ”أبو شَمّر“، وزوجته ”مارية الكِندية“ كانت أميرة كِندية صنعت بوجودها في البيت الغسّاني في پترا حلفاً وثيقاً ما بين الغساسنة في العربية والكِنديين في نجد.
تحت سلطة النورمان
نهاية القرن الحادي عشر وتحديداً سنة 1098 تأسّست إمارة أنطاكيا النورمانية Princeté de Antioch وشملت ضمن أراضيها مدينة جبلة، وكان نورمان إمارة أنطاكيا من كالابريا الإيطالية… مع الأسف تسبّب الغزو الصليبي لمدينة جبلة آنذاك بنزوح من تبقّى من سكّانها صوب صقلية وكالابريا، وكانوا من المسيحيّين العرب الكاثوليك والسريان، بينما أباد الغزو جميع سكان جبلة من المسلمين. أمّا إمارة أنطاكيا فكانت بأغلب سكانها على الكنيستين اليونانية الأرثذكسية والأرمنية، رغم أنّ الكاثوليكية كانت الديانة الرسمية لعرش أنطاكيا النورماني. وشاعت فيها آنذاك اللّغة النورمانية لغة رسمية إلى جانب الأرمنية لغة لبعض المواطنين، واضمحلّت العربية تماماً.
أسّس النورمان في جبلة أسقفية كاثوليكية وغيّروا اسمها إلى ”گِيبِلٌّم“ Gibellum وصارت أسقفية جبلة هي المفوّضة باسم إمارة أنطاكيا للتواصل مع بابا روما في الڤاتيكان. ومشهور في التراث الكاثوليكي الأسقف ”هيو الجبلاوي“ من القرن 12 الذي حاور البابا ”إيُجين الثالث“ في دير فارفا شمال لاتسيو في إيطاليا وأقنعه بالدعوة للحملة الصليبية الثانية. والأسقف هيو الجبلاوي هو مبتدع أسطورة ”البطرك يوحنا“ الذي زعم أنّه يدعم الصليبيين في حربهم الأتراك المسلمين، وكان البطرك يوحنا بحسب هيو الجبلاوي، بطرك المسيحيّين النساطرة في الهند وتركستان، ويقيم في الهند، ويمدّ الصليبيّين بالمال. لاحقاً زعمت الآداب الأوروپية أنّ ”البطرك يوحنا“ كان ملك المغول الفعلي خلال القرن 13 وهو سبب خضوع الممالك المسيحية في الشرق استسلاماً للإمبراطورية المغولية. ومن بعدهم زعم الپرتغاليون خلال القرن 16 أنّهم اكتشفوا عرش ”البطرك يوحنا“ في إثيوپيا وأنّه لم يزل على قيد الحياة، وأنّه فوّضهم أمراً للقضاء على مكّة قبلة المسلمين.
خلال حياة إمارة أنطاكيا الكاثوليكية عاشت الدولة صراع قوى ما بين الأرمن والنورمان، انتهى سنة 1254 بسيطرة الأرمن على عرش الإمارة، لكن سنة 1260 وقّعت الإمارة استسلاماً لسلطة المغول بإذعان ”هيثم الأول“ ملك الأرمن للإنذار المغولي. وبالتالي تحوّل جيش إمارة أنطاكيا لأحد الجيوش المغولية في سوريا وصارت جبلة ميناء عسكرياً للمغول على المتوسط، وانطلق منها جيش الأرمن بأمر من هولاكو ”هُلَگو“ لغزو حلب ودمشق لصالح المغول، لكن في السنة ذاتها ردّ جيش المماليك من القاهرة باستعادة دمشق وحلب ثمّ تابع فعاقب جميع الممالك المسيحية على الساحل السوري بإزالتها من بعد خضوعها وتحالفها مع المغول، فصارت السلطة على جبلة وأنطاكيا للمماليك سنة 1268 ونزح سكانها الأرثذكس صوب قبرص، بينما تحوّل النورمان إلى الإسلام بعد خمس وعشرين سنة.
جبلة الأذربايجانية
من الملفت في جغرافيا العالم وجود مدينة على قيمة تاريخية وأثرية عالية وبنفس اسم جبلة تماماً، لكنّها جبلة الأذربايجانية، وعاصمة محافظة قَبَلَه الأذربايجانية، وهي أقدم مدن أذربايجان المعاصرة.
اسمها اليوم بلغة أهل أذربايجان هو ”قِبِلِه“ Qəbələ ووردت في النصوص التركمانية القديمة بصيغة ”قوهپهله“ وبالإنگليزية گَبَله Qabala، والمدينة تأسّست قبل الميلاد بألفي سنة باسم گَبَلَه (كاسم جبلة السورية تماماً في ذلك الوقت) ثمّ صارت عاصمة لأوّل مملكة ألبانية في القواقاز، وهي مملكة أسّسها قبل الميلاد بأربعمئة سنة شعب يسمّي نفسه شعب ”أُدي“ أو ”أُتي“ ومملكتهم هي التي منحها الإغريق اسم ألبَنيا Ἀλβᾰνῐ́ᾱ تحوير عن ”ألڤانيا“ تحوير عن ”ألوَنيس“ تحوير عن ”أدُنيا“… وبقيت مملكة ألبانيا حية حتى القرن الثامن بعد الميلاد حين وضعها العبّاسيون تحت سلطة ولاية أرمينيا. ولغة مملكة ألبانيا يسمّيها الأرمن لغة ”أغَوان“ وهي من لهجات لغة اللّزج ”لِزگ“ التي لم تزل حيّة شمال القوقاز. تحوّلت ألبانيا القوقازية إلى المسيحية في القرن الخامس، وساهم العبّاسيون في إخضاعها للكنيسة الأرمنية خلال القرن التاسع، ثمّ تحوّل نصف الألبان الجنوبي إلى الإسلام بعد الغزو المغولي، على عهد إلخانة چوپانی المغولية.
جبلة اليمنية
وفي اليمن على القرن من مدينة إب نجد كذلك مدينة جِبْلَة (گِبلة) المسجّلة على قائمة اليونسكو للتراث العالمي، وفيها قصر الملكة أروى الصليحي التي حكمت منه يوماً كلّ اليمن. وكان الملك عبد الله بن علي الصليحي قد أسّس مدينة جبلة سنة 1066 لتكون مدينة استراحة واستجمام لآل الصليحي. ثمّ صارت عاصمة للمملكة الصليحية، وهي اليوم مزار مقدّس لطائفة البهرة الإسماعيلية. وهم إسماعيلية الهند واليمن، يقيم أغلبهم في جنوب الهند. ومنهم كذلك أغلب الهنود المسلمين العاملين في إمارة دبي.
جبلة في هذا العالم
في هذا العالم العديد من المدن التي تحمل اسم جبلة، وسبق وأن كانت أكثر وتراجعت أعدادها مع الزمن. وجميع هذه المواقع هي نسخة عن مدينة جبلة السورية، والتي تأسّست كجزء من الحضارة الأُگاريتية القديمة.
ومن هذه المدن الباقية في عالم اليوم:
جبلة (سوريا): مدينة ومركز منطقة جبلة في محافظة اللاذقية في شمال غرب سوريا. كانت هذه المدينة تُعرف في العهد البيزنطي باسم “جبل شمعون” بينما عرفها عرب الشام باسم جبلة، وتغيّر اسمها الرسمي من جديد إلى جبلة في العصر الإسلامي.
جبلة (العراق): هو الاسم القديم لمدينة الحلّة الحالية، وكانت قديماً أحد الضواحي الراقية لمدينة بابل. ثمّ غيّر اسمها {عليّ بين أبي طالب فقال: “هذه حُلة من حُلل الجنة”، ثمّ سنة 1101 امتلكها {صدقة بن منصور} أمير إمارة بني مزيد وأعاد تجديدها وترميمها.
جبلة (العراق): مدينة عراقية تتبع إداريا إلى قضاء كوثى، كانت تسمى في عهد الجمهورية الثانية باسم “ناحية المشروع”، واسم جبلة يعود إلى أكثر من أربعة آلاف عام قبل الميلاد ويتوسّطها “تل كوثي” وعليه “أحد المقامات التي تعود إلى “إبراهيم الادهم” أحد المتصوّفة. ويعتقد بعض المؤرّخين أنّ هذه المدينة هي مولد النبي إبراهيم.
جبلة (السعودية): هضبة عملاقة في وسط نجد في السعودية.
جبلة (البحرين): قرية تقع على ساحل الخليج العربي في المحافظة الشمالية من مملكة البحرين. تقع القرية على بعد حوالي 15 كيلومترًا غرب مدينة المنامة. تغير اسمها في القرن 16 إلى “جبلة حبشي”، وتشتهر بآثارها التاريخية، بما في ذلك قلعة جبلة.
جبلة (الكويت): بلدة تجارية كانت تُعرف باسم “جبلة القبلة”. وكانت مركزًا تجاريًا مهمًا، حيث كانت تقع على طريق التجارة بين الخليج العربي وبلاد الشام. في القرن التاسع عشر، بُني قصر السيف في المنطقة. وكان يُستخدم كمقر للحكومة الكويتية، ومذّاك صارت جبلة من أحياء العاصمة الكويت.
جبلة (اليمن): مدينة تاريخية تقع في محافظة إب في اليمن. تعتبر جبلة من المدن اليمنية المشهورة وكانت في السابق عاصمة للدولة الصليحية. تقع المدينة إلى الجنوب من مدينة إب، وكانت تسمى مدينة النهرين لأنّها تقع بين نهرين كبيرين، فيها دار العز، وجامع كبير حيث ضريح السيدة أروى، ومكتبة جامع السيدة أروى، ومتحف الملكة أروى التاريخي.
جبلة (اليمن): محلّة تابعة لقرية شريان، التابعة لعزلة الشراعي بمديرية جبلة إحدى مديريات محافظة إب في الجمهورية اليمنية.
جبلة (الجزائر): قرية في دائرة واقنون وتبعد عن مركز البلدية بـ 3 كلم.
جبلة (أذربيجان): مدينة كانت تُعرف باسم “جبلة” في الماضي، وتُعرف اليوم باسم “غابالا”. في عام 1991، بعد استقلال أذربيجان عن الاتحاد السوڤيتي، تم تغيير اسم جبلة إلى غابالا. تم اختيار هذا الاسم الجديد ليكون أكثر إثارة للاهتمام وسهولة النطق بالنسبة للزوار الأجانب.
جبلة (جورجيا): مدينة كانت تُعرف باسم “جبلة” في الماضي، وتُعرف اليوم باسم “جبالي”.
جبلة (أفغانستان): قرية تقع في ولاية غور في أفغانستان. تقع القرية على ضفاف نهر هاريوت، على بعد حوالي 25 كيلومترًا شمال مدينة غور. وكانت موطنًا لأوّل عاصمة للإمارة الغزنوية، التي تحوّلت إمبراطورية فيما بعد. وفيها مسجد جامع جبلة الذي بُني في القرن العاشر، وهو أحد أقدم المساجد في أفغانستان. وفيها قلعة جبلة، وضريح محمود الغزنوي.
بالإضافة إلى هذه المواقع، هناك بعض المراجع القديمة التي تشير إلى وجود مواقع أخرى تحمل اسم جبلة في مناطق مختلفة من العالم، مثل:
جبلة (مصر): مدينة كانت تقع في مصر القديمة، وتقع اليوم في موقع مدينة أبو صير.
جبلة (قبرص): مدينة كانت تقع في قبرص القديمة، وتقع اليوم في موقع مدينة كيرينيا.
أخيراً ينبغي أن أذكر أنّ اسم مدينة جبلة السورية ترك في اليونان أسرة جبلاوية باسم ”گَبَلاس“ Γαβαλάς كان منها ملوك حكموا جزيرة رودس وجميع الجزر الإيجية ما بين سنتي 1203 حتى 1248، قبل ابتلاعها من قبل إمبراطورية نيقيا التي قاومت الصليبيين الفرنسيين باسم البيزنط والكنيسة الأرثذكسية. ولم تزل أسرة گَبَلاس حية في اليونان حتى اليوم.
إضافة تعليق جديد