أتاتورك في دمشق... عندما نضجت القومية التركية في أرض العروبة
سومر سلطان:
في الخامس من شباط 1907 جاء أمر فرز الضابط العثماني الشاب مصطفى كمال، الذي كان سيعرف لاحقاً باسم أتاتورك (أب الأتراك)، إلى فوج الفرسان الثلاثين المعسكر في دمشق، والتابع للجيش العثماني الخامس. كان مصطفى كمال سيجري دورة الأركان في هذه المدينة ليجري تعيينه بعد عامين ضابطاً برتبة نقيب ركن. (الصورة له في دمشق، هو الواقف في المنتصف) كان حانقاً بعدما تبين أن زميلاً له كان من جواسيس الاستخبارات العثمانية، وقد وشى به وبزملائه أصحاب الفكر الليبرالي الممنوع حينها، فتعرضوا لعقوبات وكادوا أن يطردوا من الأكاديمية العسكرية.
يقول كاتب سيرته فالح رفقي، والذي كان يقطن في سورية على ما يبدو، لأن الإسلاميين اتهموه، في وقت لاحق، بأنه كان «رجل تنفيذ الخدمات الشهوانية والسفلية للقومندان جمال باشا (السفاح) عندما كان يقاتل في جبهات سورية وفلسطين»، يقول رفقي إن أتاتورك لم يتحرك إلى دمشق فوراً، بل توجه بداية إلى بيروت، حيث استقبله رفاقه، وقد استأنس فيها على ما يبدو لأنها من المدن العثمانية القليلة، التي كانت فيها حياة متحررة من قيود الشرع الإسلامي بسبب وجود أجانب وجالية مسيحية فيها. لم تتوفر هذه المواصفات إلا في إزمير وإسطنبول وسيلانيك (مسقط رأس أتاتورك) إضافة إلى بيروت. وينقل رفقي عن أتاتورك انطباعه بأن دمشق كانت تنزوي في حزن وسكينة قن الدجاج بعد أذان العشاء، وهذا كان يضايقه على ما يبدو، وهو المعتاد على الحياة المتحررة. ويرى المؤرخ رحمي دوغاناي أن اختيار دمشق بالذات كمكان لفرز أتاتورك وزملائه لم يكن اعتباطياً، بل كي يصرف الضباط الشبان، ذوو الأفكار المتحررة، جهدهم ووقتهم في قمع الانتفاضات الثائرة على الدولة المركزية، وتتغير آراؤهم بالتالي.
في دمشق استأجر بيتاً من غرفتين مع زميل له، ولكن زميله غادر لاحقاً للالتحاق بشيخ عشيرة محلي في الجزيرة العربية، هو ابن سعود. ويروي كاتب سيرته أنه في إحدى الليالي، وقد كان عائداً ليلاً إلى منزله، سمع صوت موسيقى. كان الأمر مفاجئاً له بشدة، وعلم أن مصدر الصوت هو مقهى مخفي، وقد غطيت نوافذه بالورق. كان عمال طليان، أتوا للعمل في خط الحديد الحجازي، يعزفون المندولين (آلة موسيقية متوسطية تشبه العود ولكن أصغر) ويغنون ويرقصون ويشربون النبيذ برفقة زوجاتهم وبناتهم. فزفر زفرة متكدرة، وغادر، وقد شعر بأن الحياة في دمشق هي في هذه الأماكن المغطاة نوافذها بالورق، وفي سعادة الأشخاص الذي يصعب تمييزهم في ضوء القناديل المشوب بأدخنة التبغ.
على الصعيد العسكري والسياسي، عانى أتاتورك من التهميش في فوجه، فقد علم بالصدفة من زملائه بأن الفوج بدأ بالتحرك في حملة تستهدف منطقة جنوب سورية (الحالية) وبالتحديد الطائفة الدرزية فيها. وقد حاول التواصل مع رؤسائه، وكبار الضباط لشرح موقفه. ولكنه لم يتمكن من المشاركة في الحملة، التي استمرت أربعة أشهر، إلا كضيف غير مرغوب به، ودون واجبات قتالية. ونزل في القنيطرة. ويظهر أنه لم يشارك في الأعمال الحربية، فكان لديه الوقت الكافي لنسج علاقات مع المدنيين كان لها دور في ميله اللاحق للعب دور القائد الشعبي الثائر دون نجاح. ويروى عنه أن ملاحظاته لمعيشة المدنيين في دمشق، وفي عموم سورية، كان له أثر في رسم تصوراته السياسية اللاحقة، والتي كانت ستنتهي به إلى التخلي (بجرأة كما يرى أنصاره، أو بتخاذل كما يرى خصومه) عن أجزاء شاسعة من أراضي الإمبراطورية، مكتفياً بتركيا الحالية. وبالمحصلة أسس جمعية اسمها «جمعية الوطن والحرية» مقرها دمشق، وأسس فروعاً لها في بيروت ويافا والقدس وغيرها من المدن، وذلك بعد تعرفه على مصطفى أفندي، طالب الطب المطرود من الكلية بسبب آرائه التحررية، والمنفي إلى دمشق بسببها. لقد كان أتاتورك يعتقد في البداية أن بإمكانه التحول إلى قائد شعبي هنا في سورية، ليبدأ مشروعه السياسي، ولكن أغلب أتباعه كانوا عسكريين وليسوا مدنيين. وبعد مغامرات قصيرة له بين يافا وسيلانيك عاد إلى دمشق لإكمال دورة المدفعية. وهذه المرة كان مرضياً عنه من قبل السلطات حتى أنه نال الوسام المجيدي من الدرجة الخامسة. وعاد بعدها برتبة نقيب ركن. وعند مغادرته كانت قد اختمرت في رأسه فكرة جديدة هي التمييز بين «الإسلام العربي» و«الإسلام التركي». كان «الإسلام العربي» متعصباً وبعيداً عن الانفتاح، أما «الإسلام التركي» فكان أكثر اعتدالاً برأيه. وربما تكون لنجاحاته في نشر أفكاره في البلقان، على عكس فشله في سورية وفلسطين، دور في ترسيخ التمييز. وهذا التمييز، مهما كان وهمياً أو مغالطاً، كان هو الأساس في إعطاء المشروعية الإيديولوجية – إن جاز التعبير – لقرار التخلي عن الأراضي الكائنة جنوب تركيا الحالية. «الإسلام العربي» بدأ يصير عدواً بالنسبة لأتاتورك، الذي استخدم مبدأ «إذا لم ينجح أسلوبك مع الشعب غيّر الشعب ولا تغير أسلوبك». وقد ترسخت هذه الفكرة – أي فكرة التمييز على أساس عرقي – لاحقاً، عندما عاد إلى دمشق، بعد نحو عشر سنوات، قائداً للجيش الثاني. وإذا تعمقنا قليلاً بالتحليل النفسي فربما كان لهذه الفكرة دور في ترسيخ اعتناقه العلمانية المتشددة، وبناء الجمهورية الحديثة على أساسها.
إضافة تعليق جديد