عن أهواء الكتّاب وطقوس الكتابة

27-05-2023

عن أهواء الكتّاب وطقوس الكتابة

الجمل - عماد عبيد:


(الشعر نكد، بابه الشر، إن دخل في الخير ضعف)، هذا البيان النقدي الصاخب ينسب إلى الأصمعي (عبد الملك

Image

بن قريب بن علي بن أصمع 740-828 م) أورده (ابن قتيبة 828-889 م) في كتابه (الشعر والشعراء)، أما مناسبة قول الأصمعي هذا فقد جاء في معرض تناوله لشعر (حسان بن ثابت 554-674 م) يقارن فيه بين شعر حسان قبل الإسلام وما تميز به من الجزالة والصنعة والمتانة، وكيف ضعف بعدها لما تحفظَّ بالورع والتقوى.
لكن عبارة الأصمعي هذه لم تكن مجرد رمية نرد ولا هي بالمحصورة بحالة بعينها، بل لها دلالات وإشارات تصح جدا في معرض التناول للكثير من الشعراء الذين خفت بريقهم مع الزمن بعد أن فقدوا نزق الجموح ونداوة الإحساس وجرأة القول، سيما من دخل منهم في عالم التدين أو التدروش أو التصوف، أو أولئك الذين نضبت ذخيرتهم وأفلس معينهم.


ولا عجب أن نسمع رأيا ذا مرامٍ وقصدٍ – يشبه إلى حد ما بيان الأصمعي - عند أحد أعلام فن الرواية العالميين المعاصرين، الإيطالي (أمبرتو إكو 1932-2016م) يتوافق مع قول الأصمعي لكن على مقلب آخر حيث يصرح: (على الشعراء أن يتوقفوا عن كتابة الشعر بعد سن الثلاثين، وعلى الروائيين إلا يكتبوا رواياتهم قبل سن الستين) ... فإلاما يرمي إكو في قوله هذا؟، من الواضح أن إكو أعطى رأيا تمثيليا لا يجوز إطلاقه وتعميمه، فهو يرى أن الشعر فن الحماس والتوقد والانفعالات والنزق، يحتاج إلى طاقة متوهجة غالبا ما تضطرم في سن الشباب الأكثر قدرة على البوح بها والتعبير عنها، في حين أن فن الرواية يحتاج إلى تجارب وخبرة واختمار للمعارف والإحاطة بالعلوم وفلسفة الحياة حتى يستطيع الروائي أن يجسدها دون تهور أو طيش أو تسرع، كما هو عند الأدباء الشباب المستعجلين إلى الشهرة والوصول.


أسوق هذين الرأيين تقديما لطرح فكرة تتعلق بمدى تأثير الأهواء والمزاجيات والظروف على سيرة الكاتب الإبداعية، سواء أكانت ناتجة عن السلوكية الشخصية والأهواء الذاتية للكاتب، أم تلك التي لعبت الأقدار والزمن دورا في تحولاتها وانعكاس ذلك على أدب الأديب، ربما سلبا، وأحيانا جودة ولمعانا.


هل صحيح أن (الفرزدق 641- 728) قال: (إن خلع ضرس أهون علي من كتابة بيت من الشعر في بعض الأوقات؟) وأن (محمد الماغوط 1934-2006) اعترف أنه أحيانا يمضي نهاره حائرا لتغيير كلمة واحدة في

Image

نص شعري؟ وأن الروائية التشيلية (إيزابيل الليندي 1942) صرحت (إن إنهاء كل رواية من رواياتي يصاحبه ألم لا يقل عن ألم مخاض الولادة).


بغض النظر عن مجازية هذه الاعترافات، إلا أنها تشير إلى ما يصيب حالة الكتابة من قلق وحيرة واضطراب، إما نتيجة خصوصية شخصية الكاتب، أو بسبب الظروف والمصاعب المحيطة بواقعه وحياته، لكنها في النهاية مؤشر إلى أن العمل الإبداعي حالة اجتراح وخلق تحتاج إلى جهد وتجربة وحصاد معرفي وثقافي ليس من اليسار حدوثها دونما مضاعفات وانقلابات تواكبها وتؤثر وتتأثر بها.


الأديب الإيرلندي (ويليام بيتلر ييتس 1865-1939م) يعتبر درة الأدب الإنجليزي وأحد الأدباء القلائل العالميين الذين لم ينطفئ توهجهم حتى آخر سنواته، والحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1923، تميز بإيمانه الشديد بالسحر والجن والشعوذة، وادعى أنه يشاهد الأشباح ويحكي قصصا غرائبية عنها، أسس في العشرين من عمره (جمعية دبلن لعلوم السحر) ثم انظم لجمعية (نظام الفجر الذهبي) وهي جمعية سرية عنيت بتدريس السحر وتجاربه العملية، واشتد تولعه بهذه الأفكار وقراءة الطالع وحركات الكواكب وتأثيرها على السلوكيات البشرية والطبيعية، ولم يقف عند هذا الحد، بل تعرف عام 1915على شابة عمرها ثمانية عشر عاما (جورجيا هايدليس) وتزوجها عام 1917، كان في الثانية والخمسين من العمر، ما جمع بينهما هو الإيمان بالسحر والأشباح، بعدها اشترى ييتس برجا أثريا في فرنسا وعاش به مع زوجته هذه، حيث اختاره لاعتقاده أنه مسكون بالجن والأشباح، وهناك ابتدع نوعا جديدا من الكتابة الأدبية سمّاها الكتابة التلقائية، يستعين فيها بزوجته التي تدعي أنها تستحضر الأرواح وترى الأشباح، فتحدثه عما ترى، بينما يبدأ ييتس بتهويماته بنقل ما تدعيه زوجته من مشاهدات وأحداث مع عالمها الغرائبي إلى شعر وابتكارات أدبية ناتجة عن تلك التجربة، فهل كانت الأشباح وراء كل هذه السيرة اللامعة؟؟؟


الكاتب الأمريكي (عزرا باوند 1885-1972م) واحد من أعتى شعراء القرن العشرين ومن مؤسسين الحداثة

Image

الشعرية، عُرف بمزاجيته العالية وتقلبه وشدة انفعالاته وغرابة أطواره، ومع ذلك مازال يصنف بأنه أميز الشعراء الذين أنجبتهم أمريكا، باوند هذا أعجب بالكاتب الإيرلندي (ويليام بيتلر ييتس)  فقصد لندن للقائه والتعرف عليه، حيث اعتبره أعظم شاعر في القرن العشرين، قربه ييتس منه واعتمده سكرتيرا شخصيا له، إلا أنه طرده فيما بعد حينما اكتشف أنه يغيّر بالقصائد والمقالات التي يبعثها ييتس إلى الصحف، لكن باوند استفاد من تجربة ييتس وانتقل إلى باريس ليشارك الدادئيين طقوسهم ثم سعى إلى تأسيس الحركة السوريالية مع (جون كوكوتو) و(أندريه بروتون)، وليصاب بعدها بالهوس الموسوليني منذ عام 1932 ، فرحل إلى إيطاليا واصطف مع دول المحور في الحرب العالمية الثانية، وبدأت تظهر انفعالاته في البيانات التي كان يبثها من الإذاعة الإيطالية، كان يرى في موسوليني المخلص الجديد لعالم يمور بالغبن والتوحش، وأنه سيبني المدينة الفاضلة التي تخيلها أفلاطون، وبعد أن أسر وحوكم في أمريكا بتهمة الخيانة، اعتبروه معتوها ومريضا نفسيا وتم وضعه تحت المراقبة في مصح نفسي لمدة إثني عشر عاما، وحين خرج قال: (كنت في مصح صغير داخل مصح كبير اسمه أمريكا)، وعندما سئل في سنواته الأخيرة إن كان مخطئا أو نادما لوقوفه مع الفاشية أجاب: (ربما أخطأت، لكنه كان خطئا يوازي كل نجاحات العالم). ربما أراد باوند أن يقول لنا أحيانا الأخطاء تفضي إلى إبداع عجز عنه الصواب!!!


في الكتاب الثاني من مذكراته المعنون بـ (شارع الأميرات) والتي جاءت بعد الكتاب الأول (البئر الأولى) يروي

Image

الأديب الفلسطيني العراقي (جبرا إبراهيم جبرا 1919-1994) عن صدفة جمعته في العراق مع عالم الآثار الإنجليزي (ماكس مالوان 1904-1978) وزوجته، وبعد أكثر من لقاء وجلسة علم أن الزوجة الهادئة الوقورة التي قلما تتحدث لم تكن إلا الأديبة العالمية الشهيرة (أجاثا كريستي 1890-1976)، هذه المفاجأة جعلت جبرا يتحسر على اللقاءات الأولى وكيف لم يستغلها في الحديث والاكتشاف لعوالم أديبة امتهنت فن (أدب الجريمة)، حيث لم تسمح له الظروف بعدها باللقاء لانتقال أجاثا وزوجها خارج العراق، ويستغرب جبرا كيف لأديبة بهذا الجمال والرقة والهدوء أن ينجز خيالها هذا الكم الهائل من حبكات الجرائم في كتاباتها المثيرة، حيث كتبت ما يربو على ثمانين رواية وقصة اشتغلت فيها على الحدث البوليسي وعنصر الجريمة، وفي غير مكان تعترف كريستي أن معظم أفكار رواياتها تواتيها أثناء استرخائها في حوض الاستحمام، وحينما تستوي الحكاية تهرع إلى الألة الكاتبة التي قد تجلس أمامها أكثر من ثمان ساعات متواصلة. نعم ... تلك السيدة الجميلة الرزينة كانت تطبخ في رأسا وجبات شهية من الجرائم لتجسدها في روايات شيقة، فحازت بجدارة على لقب (ملكة الجريمة)!!!


يقال إن أغزر كاتب في العالم هو الكاتب البلجيكي (جورج سيمنون 1903-1989) حيث بلغ رصيده حوالي 500 رواية وأكثر من 1000 قصة قصيرة، بين تلك التي كتبها باسمه الصريح أو بالأسماء المستعارة، هذا الكاتب يملك قدرة جبارة على التحدي والعناد والجلد، ينهض في الساعة السادسة صباحا ويدخل مكتبه ويواصل الكتابة حتى السادسة مساء مانعا أحدا من اقتحام خلوته، يستمد عزيمته من غليون التبغ وحافظة القهوة، ويروى أنه كان ينجز رواية كل خمسة عشر يوما، وبلغ به التحدي أن تراهن مع أحد الناشرين على كتابة رواية متسلسلة في ستين حلقة لصحيفة الناشر خلال ثلاثة أيام، فقبل التحدي وجلس في غرفة زجاجية تحت المراقبة وأنجز العمل وربح الرهان وقدره خمسة وعشرين ألف فرنك فرنسي، أما الكارثة الكبرى التي حلت عليه يوم كتب رواية تراجيدية تنتحر فيها فتاة يانعة بإطلاق النار على نفسها من مسدس، وما أن قرأت ابنته (ماري جو) الرواية حتى ذهبت إلى نفس المتجر الذي اشترت منه فتاة الرواية مسدسها، وابتاعت مسدسا مماثلا للمسدس الموصوف في الرواية وانتحرت بنفس الطريقة المرسومة في الرواية، هذه الحادثة أثرت جدا على سيمنون وقرر بعدها اعتزال الكتابة والابتعاد عن المجتمع، وقام ببيع كل ممتلكاته ووزع ثروته، وسلّم كل مخطوطاته إلى جامعة (لياج) ورفض التعاطي مع الصحافة والمشاركة بأي نشاط حتى وفاته. أليس صعبا أن يتحول كل هذا النهم للكتابة والشهرة إلى اعتكاف واحباط لحادثة تقلب حياة أديب مكثار إلى رجل كئيب ومنزوٍ؟!!


يشاع كثيرا أن الأديب العالمي الفرنسي (فكتور هوجو 1802-1885) كان لا يكتب إلا عاريا، ومثل هذه الإشاعة

Image

توسع المروجون في استثمارها خاصة عبر صفحات الشابكة، لدرجة يظن معها القارئ أن هوجو كلما أراد كتابة مقطع شعري أو صفحة سردية يسرع إلى التعري لينجز ما يريد، وهو أمر مضحك بالتأكيد. في الحقيقة أن هوجو فعلها مرة واحدة أثناء كتابته لروايته الشهيرة (أحدب نوتردام) – وهناك قول (البؤساء) فكان ينشغل عنها بالخروج من المنزل وتجزية الوقت بقضايا صغيرة، إلى أن دخل يوما إلى غرفته وخلع ملابسه واستتر بحرام صوفي وسلّم الخادم ملابسه وطلب منه ألا يدخل عليه إلا لتقديم الطعام والشراب، وبقي ثلاثة أيام على هذه الحالة حتى أنجز الرواية، وبقيت هذه الحادثة سرية إلى أن أفشاها الخادم، فعممتها بروبوغندا الأدب. لكن ما من أحد تمثل حالة هوجو وتعرى ليكتب، فالدفء ملهم الابداع!!


(إيزابيل الليندي 1942) الروائية التشيلية الشهيرة التي غادرت بلدها على إثر الانقلاب الفاشي الذي قام به الديكتاتور (بينو شيت) على قريبها الرئيس المنتخب (سلفادور الليندي) هربا من بطش الانقلابين، عاشت في الولايات المتحدة، ومن المعروف أن إيزابيل ذات توجهات اشتراكية وامرأة علمانية، في الثاني من شهر كانون الثاني من عام 1981 بدأت بكتابة روايتها الشهيرة (بيت الأرواح) وقد لاقت هذه الرواية إقبالا عالميا وسمعة طافحة، وترجمت إلى أكثر من 40 لغة عالمية، وعلى إثر هذا النجاح اعتبرت أن اليوم الذي باشرت  به كتابة تلك الرواية يوما فارقا وعيدا وطنيا لها، ومن يومها قررت ألا تبدأ بكتابة أي عمل لها إلا في مثل هذا اليوم... حتى العلمانيون يؤمنون بالحظ!!


في إطار الإبداع الفني الموسيقي، يحكى أن الموسيقي الروسي العظيم (بيتر إليتش تشايكوفسكي 1840-1893)

Image

صاحب السيمفونيات الشهيرة (بحيرة البجع- كسارة البندق – الجمال النائم)، حينما كان يؤلف سيمفونية (بحيرة البجع) بدأ بها في عام 1875 وفترت همته على المواظبة لإنهائها، إلا أنه في أحد الأيام من أواخر عام 1876 كان يسير في أحد شوارع مدينة (سان بطرسبورغ) شاهد عربة مسرعة يجرها أربعة جياد تركض تحت المطر الثلجي، والحوذي يلهب ضهور الجياد بسوطه اللاذع، والجياد خائرة القوى مغلوب على أمرها، تأثر تشايكوفسكي بالمشهد جدا، وعاد إلى بيته منفعلا، وبدأ يعمل على منجزه هذا بتوتر وقلق وخلال فترة وجيزة أنهى مؤلفه الشهير الذي أضحى من أهم التراث الموسيقي العالمي. وكأن بتشايكوفسكي يقول لنا: أن تشهد وقع الألم والظلم أصعب من الألم نفسه.!!


كثيرة هي الأحداث والمناسبات التي كان لها دورا مفصليا في حيوات المبدعين، منها من فجر طاقاتهم وأتحفتنا بنتاجات لهم مبهرة تفوق حد الوصف، ومنها من كانت مثبطة وقاتلة للهمة والنشاط فخسّرتنا إبداعات كان يمكن أن تترك وشما دامغا يضاف إلى المنجز الإنساني، كما أن هنالك أسرار وحكايات وحوادث لم يبح بها أصحابها، ساهمت في انقلابات جذرية إيجابا أو سلبا، وبقيت طي الكتمان، بعضها فضائحي، أو مأساوي، أو على العكس قد تكون صدفة عابرة ساهمت في تألق مبدع، أو ضربة حظ، فكل تلك المناسبات تلعب دورها في تبديل وتغيير سلوكية المبدع ليتألق أو يخبو نجمه.


أما الأمزجة الشخصية والحالات السيكولوجية التي تتصف بها شخصيات فالحديث عنها مديد وبلا حرج، وربما لكل أديب طبيعة لولاها لما تفتقت مواهبه ولا درجت خطاه على طريق الإبداع، وهنا تضيق الصفحات عن ذكر مثل هذه الأمور.  

 


 

 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...