الطاهي "خليل صويلح"رهينة الاكتئاب
الجمل - د.نزار العاني:
*الاستهلال .
برشاقة لاعب جمباز ، وقلق جاسوس ، وبشغف المرابي لجمع المال ، وانضباط مجند سوري ، وبشجاعة لص ، اقتحمت خلوة الطاهي "خليل صويلح" جالساً وشارداً على مائدة كبيرة خالية من الصحون ، ولاشيء أمامه في مطبخه الواسع ، سوى ربطة خبز طازجة ، يقلّب أرغفتها بحسرة وهلع ، وقد استولت سمات الكآبة الشديدة على وجهه الطافح بالحزن :
ـ إجلس يا نزار ، قال لي . سأحضر لك الشاي ، ومكتبتي بمتناول يدك ، لكن إياك أن تسرق كتاباً كما يفعل بعض أصدقائي ! وقفتُ أتأمل رفوف الكتب ، ووقع نظري على كتاب صغير مطبوخاً على نار هادئة عنوانه (ناحية الماء والكلأ) كما في الصورة ، وعلى الصفحة الأولى قرأت كلمات برائحة الهال وحلاوة السكر : (الدكتور نزار ..عسى أن تجد ماءً وكلأً .. كل الحب .. خليل .. والتوقيع) ، كما في الصورة .
بعد قليل ، توافد على مطبخ "الشيف خليل" عشرات الزائرين والمتذوقين ، منهم العطشان إلى (ماء) الثقافة ، ومنهم الجوعان إلى (كلأ) المعرفة ، ووجدت نفسي زاهداً بالتواصل مع أحد ممن هم حولي ، إذ إنني لا أعرفهم ، كما في الصورة .
انسحبت ، وعدت إلى بيتي ، والتهمت طبق (ناحية الماء والكَلأ) في وجبة واحدة ، وشبعت !
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*المتن .
خلال السنوات الأربع الماضية ، تابعت بشغف كل ما كتب الروائي والأديب والناقد والصحافي والقارئ المحترف خليل صويلح ، وصار لدي إحاطة (مُخابراتية) بمجهوداته الرهيبة ( كي لا أقول الإرهابية) في مطابخ الكتابة العربية والغربية ، بتوصيفه هو للكتابة ، وترسخت صورته الأدبية في ذاكرتي ومخيلتي عَبْرَ عشرات اللقاءات الشخصية ، الأمر الذي سأطرحه طازجاً بين أيديكم مع التوابل.
* مازوات وأطباق رئيسة .
خليل صويلح روائي ، وقارئ روايات متعمق ، وناقد يتنزه في بساتين الفكر، وصحافي بارع وأمين . ومن باب خبرته الطويلة في الكتابة ، امتلك ما يشبه النظرية ، أو النظرة حول فن وعلم كتابة الرواية ، وفن الكتابة عموماً ، بما في ذلك الشعر قبل حصول الطلاق بينهما .
وكتابته في هذا الشأن النقدي وسجالاته القرائية لا تشبه كتابة ( تعلم الصينية بخمس دقائق) ، بل ترتكز على أبحاث وتنقيب وحفريات تحتاج إلى صبر أيوب ، وجهود ماركيز وكازنتزاكي في توظيب أعمالهما . ومن ثوابت نظرته المبثوثة في كل كتبه النقدية تقريباً، والتي أعتبرها أنا (مازواته) على مائدة مطبخ إبداعه ، وأرى الطبق الرئيس الدسم على المائدة إياها رواياته الساحرة ، وأجزم أنه استأنس حَمَل المازوات مع ذئب الرواية في حظيرته !
من أهم وصفاته للكتابة الذهبية ، لا الخشبية ، الاختزال والتكثيف ، والتلميح لا التصريح ، ووزن الكلام " بميزان الذهب بوحدة الغرام" لا بـ " ميزان البضائع" ومال القبّان . ويقف "خليل صويلح" طبعاً مع الجديد والتجديد على صعيد المضمون وحيثياته من أسرار السرد والحبكة وبناء الشخصية وأصالة التخييل ، شاجباً التقليد والاستلهام والتناص .
ودائماً كأكاديمي ، يحرص "خليل صويلح" على سلامة اللغة وجزالتها وبلاغتها وخلوّها من مجازر القواعد والنحو مما هو شائع على منصات التواصل والتضاؤل ! وهناك الكثير الذي سأتجاوزه وأختزله ، خوفاً من هجاء قلم الطاهي الشاطر والحاذق "خليل صويلح" الذي أحياناً ( لا يعجبه العجب ، ولا الصيام في رجب ) ، وتلك نزاهة غير معهودة في ضجيج أبواق النقد السطحية الممجوجة والمستشرية في الساحة النقدية .
* عن الكتاب تحديداً .
يحشد خليل صويلح الأدلة والإثباتات في أكثر من مقالة في كتاب (ناحية الماء والكلَأ) ليدافع عن صحة قيمة الاستهلال في الكتابة، وأنا معه .
وكي أسترضيه ، حاولت في عنوان مقالتي والاستهلال أعلاه أن أطبق هذه القاعدة ـ بعد انصياعي لمبدأ الاختزال الذي لا أرتضيه لقلمي ـ ولا أدري إن كان عنوان مقالتي هذه ، واستهلالي لها ، قد اصطادت إعجاب "صاحب الناحية" أم لا ؟
يضم الكتاب بين دفّتيه ـ قد لا تعجب هذه الجملة ذائقة خليل صويلح الأدبية لأنها مألوفة ـ 35 مقالة من كتاباته اللمّاحة ، ويتراوح عدد كلماتها من 300 كلمة إلى 1500 كلمة ، وقد سبق لي أن قرأت بعضها في جريدة الأخبار اللبنانية ، وعلى رغم ذلك داخلني الشعور بالمتعة ، وكأنني أقرأها للمرة الأولى ، وغالباً سأعود إلى قراءتها ثالثة ورابعة دون ملل ، ولكم أن تتحرّوا صدق كلامي إن شئتم .
هناك مقالة في الكتاب الجديد عنوانها ( أن تتنزّه برفقة أمبرتو إيكو ..) ص 77ـ82 سبق للمؤلف أن نشرها في سياق مختلف في كتابه (ضدّ المكتبة) ط ثانية ، ص 22ـ 28 ، ولأن حروف المقالة من الذهب الذي لا يصدأ ، والموزونة بالميلي غرام وليس بالغْرام ، فلا حرج عند المؤلف وعندي ، أن يعاد نشرها لفتح شهية القارئ على اقتناء الذهب الغالي ، إذ إنني لم أقرأ عن "أمبرتو إيكو" أجمل مما كتب "خليل صويلح" ، ومن خلال 1500 كلمة فقط ، هي المساحة المتاحة للكاتب حين ينشر مقالاته في الجريدة التي يكتب فيها .
فكل ما جاء في كتبه النقدية من معايير ووصايا يطبقها بحذافيرها على كل نصوصه ، وهو لا يتقيد بقاعدة لكل مقام مقال ، فمقامه الأول هو الاقتصاد اللغوي ، والتخلص في الكتابة من الدهون والشحوم والحشو والإسهال الضبابي غير المفهوم ، وكل ذلك لصالح الحفاوة بـ "الكتابة بالعصب العاري" .
بالمسطرة والفرجار ، كانت كتبه الستة أو السبعة التي قرأتها خلال السنوات الثلاث المنصرمة ، في مستوى ثابت من الجودة والالتزام بمعايير ميزان الذهب ، لصوغ حليّ الكتابة من أجل المتعة والفائدة ، وينطبق قولي وتعميمي على كتابه الأحدث ، والذي تشرفت بحضور توقيعه مؤخراً في دمشق ، برعاية من دار نينوى للنشر .
لا مجال لتلخيص الكتاب . ولكنه بكلمات قليلة يكتظ بتسمية عشرات الروايات المقروءة ، وعشرات الكُتّاب العباقرة والموهوبين ، وعشرات الرؤى والأطروحات والمأثورات والأوابد والمختارات الذكية من بطون ( وكروش وأمعاء) الكتب الهامة والنادرة والمشهورة والمجهولة .
وكما سبق وذكرت ، يتكئ كتاب ( ناحية الماء والكلأ) على عتبتي المتعة والفائدة ، والكفالة مدونة بورقة طابو زرقاء تحمل توقيعي . والمتعة معروفة للجميع، أما الفائدة فتظهر جلية من خلال غزارة ما جاء في المقالات الاستقصائية من معلومات ومعارف وطرائف غير متداولة ، بحيث يبدو الكتاب وكأنه دليل إرشادي للسياحة الثقافية والمعرفية بالمجّان ، ونزهة للقارئ الذكي بين قصور الأدب ، في عربة فارهة تجرها خيول أصيلة ، تتجول في الهواء الطلق ، ليتلمس القارئ الراكب في العربة ، معنى الحياة الثرية وقيمة عرش الكاتب والكتابة ، في عصر الثراء التجاري والمالي المفضوح .
* خاتمة .
أختم بما كتب "خليل صويلح " : (أما كتاب "مانغويل" المدهش ، والأكثر ثراءً ومتعةً ، فهو "تاريخ القراءة" .كتاب لا يمكن أن نختزله بفكرة ما ، أو بتشريح لفصوله ، أو ضيوفه من الكُتّاب . إنه من تلك الكتب التي توضع إلى جانب السرير ، كي يُقرأ باستمرار، ومن أي صفحة تشاء ، وكأنك تقرؤه للمرّة الأولى. الكتاب الذي أمضى "مانغويل سبع سنوات في تأليفه ، لن تتردد بصحبته ، سبعين سنة ، من دون ندم ).
أستعير من مطبخ الشيف "خليل صويلح" هذه الوصفة النقدية أعلاه لكتاب "تاريخ القراءة، والطافحة بالمذاق الطيب ، لأصف بها كتابه ( ناحية الماء والكلأ .. مرافعات عن عمل الحكّائين ) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملاحظة : عنوان مقالتي (الطاهي "خليل صويلح" رهينة الاكتئاب) مأخوذ من جملتين وردتا في نصوص الكتاب :
ـ الروائي طاهي كلمات أولاً وأخيراً . ص 115
ـ أن تعيش مخاض الكتابة فأنت مرتهن للشغف والاكتئاب . ص102
إضافة تعليق جديد