جدلية الدهرنة: في العقل والدين
عن حوار يورغن هابرماس ويوزف راتسينغر
- مشير باسيل عون
قلما نعثر على حوار فكري صريح مباشر بين أهل الفلسفة وأهل الدين. ذلك بأن الحقلين المعرفيين يتجاوران حتى التنافس، ويتدافعان حتى التخاصم، ويتزاحمان حتى التنابذ. من الاستثناءات التاريخية الحوار الرصين الذي تشارك فيه الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس (1929-....) والعالم اللاهوتي الكاثوليكي الفذ يوزف راتسينغر (1927-2022) الذي انتخب بابا الكنيسة الكاثوليكية. نشر الحوار في صيغ شتى، منها كتاب "جدلية الدهرنة: في العقل والدين" (The Dialectics of Secularization. On Reason and Religion). كانت العلمنة أو الدهرنة المعاصرة ترسم خلفية المحاورة الفلسفية هذه، وتعين لها إطارها المعرفي الأوسع، لا سيما في نطاق البحث عن مقام العقل والدين في الاجتماع الإنساني المعاصر، وعن طبيعة الأخلاقيات الناظمة في قرائن العلمنة، أما الغاية القصوى فإدراك الأصول الأخلاقية التي تقوم عليها الدولة المعاصرة.
بين العلمنة والدهرنة
لا بد في البداية من تمييز معرفي مفيد يستجلي مفهومي العلمنة والدهرنة. المعلوم أن الدهرنة مفهوم سوسيولوجي ظهر في البيئة الثقافية الأنغلوساكسونية، لا سيما في أعمال عالم الاجتماع اللاهوتي النمسوي-الأميركي بيتر برغر (1929-2017) وعالم الاجتماع الألماني-الأميركي توماس لوكمان (1927-2016). يدل هذا المفهوم على استقلال حقول شتى من الحياة الاجتماعية وانعتاقها التدرجي من هيمنة المرجعية الدينية، سواء على مستوى الاستناد إلى المعنى الروحي الهادي أو على مستوى ممارسة نفوذ المؤسسة الدينية في صلب الحياة الاجتماعية، ومن الطبيعي أن يرافق هذه الظاهرة انتشار مفهوم التعددية الذي يدل على تساكن مرجعيات فكرية تتنافس على اقتراح المعنى الأنسب الذي يمنح الحياة الإنسانية قوامها وصلابتها ووجهتها وغايتها.
بفضل الدهرنة، تعززت إمكانات التعددية في المجتمع الإنساني الغربي، غير أن الناس ما برحوا يستصعبون التمييز بين العلمنة أو العلمانية والدهرنة. الثابت أن العلمانية نشأت في البيئة الثقافية الكاثوليكية الفرنسية المتأثرة بمقصلة الثورة الإقصائية، في حين أن الدهرنة انبثقت من اجتهادات الفكر البروتستانتي الأنغلوساكسوني الساعي إلى ضبط مقام الدين في الاجتماع الإنساني المعاصر واستثمار طاقاته الإصلاحية الأخلاقية. الحقيقة أن هذه الدهرنة لا تبطل الاختبار الإيماني على الإطلاق، بل تجتهد، كما هي الحال في الولايات المتحدة الأميركية، في عقلنة الدين وخصخصته أو رده إلى المجال الفردي الخاص، وإعادة تأصيله في سياق التعددية الثقافية السائدة، وضبط مؤسسته في قرائن تمايز الصلاحيات الناشط في معترك الدولة الحديثة. ومن ثم، أستخدم الاصطلاحين معاً في هذه المعالجة أمانةً على روح المحاورة الفلسفية، وجمعاً للبيئتين الثقافيتين الفرنسية والأنغلوساكسونية في سعيهما إلى تدبر مقام الدين في المجتمعات الغربية المعاصرة.
هابرماس والدعوة إلى الاستعانة بإرث الأديان الأخلاقي
ينطلق الحوار من سؤال هابرماس عن قدرة الدولة الديمقراطية الدستورية على الاستناد إلى مواردها الفكرية الإصلاحية الذاتية من أجل تجديد الاجتهادات التشريعية التي تحيي وجود الدولة الحديثة، وتضبطه في قرائن التبدلات الثقافية والاجتماعية والسياسية الراهنة. من الطبيعي، والاستفسار ناشط على هذا النحو، أن ينظر المرء في إمكان الانعتاق من نفوذ الأنظومة الدينية التي تصر على التدخل والمنافسة من أجل استقطاب التأثير وتزويد الحياة السياسية التسويغ التشريعي الضروري. ذلك بأن الخطاب الديني السائد في أغلب المجتمعات المعاصرة ما برح يدعي القدرة على ضبط الانتظام السياسي وتوجيه الحياة السياسية إلى المقاصد الأساسية التي ينطوي عليها الفكر اللاهوتي.
خلافاً لادعاءات الذين ما فتئوا يعاينون في الدين السند الأساسي في تأييد بنية النظام السياسي الدستورية، يذهب هابرماس إلى أن تشريع القانون في المدينة الإنسانية وتسويغ مستنداته الفكرية يمكن أن ينتجهما النظام الديمقراطي عينه بواسطة المسارات الإجرائية القانونية التي تنبثق من المرجعية الفكرية الديمقراطية. يعني هذا القول إن مشروعية النظام الديمقراطي تأتي من قانونيته الذاتية، لا من خلفية تسويغية عقائدية أخرى. المثال الحسي على هذا القول مسألة التضامن الذي يحتاج إليه المواطنون في المدينة الإنسانية المعاصرة. من غير هذا التضامن لا ينهض الاجتماع الإنساني المبني على الفكر العلماني الدهراني المحض. ولكن لا ضرورة، بحسب هابرماس، إلى استحضار التراثات الدينية، على مختلف أنواعها، من أجل توطيد روابط هذا التضامن. وحدها العملية الديمقراطية تستطيع أن تستنهض الهمم، وتوثق عرى الوحدة الناشطة في صميم المواطنة الجامعة، وتحث الناس على المشاركة في تدبير شؤون مدينتهم في روح من التضامن والتكافل والتعاون. كذلك تستطيع المدينة الإنسانية أن تستحضر قيمة الانتماء الوطني أو محبة الوطن لكي ترسخ التضامن المبني أصلاً على مبادئ العدالة، وقد تغلغلت في وعي الناس وأضحت جزءاً من اقتناعاتهم الفكرية الأخلاقية العميقة. ذلك بأن التضامن الذي لا يحرص على أصول العدالة بين الناس يتحول إلى تعصب مقيت.
ومع ذلك، يحذرنا هابرماس من المخاطر التي تحدق بالمجتمع العلماني المدهرن. أصل هذا التهديد أن المواطنين في هذا المجتمع أخذوا يسلكون مسلكاً أنانياً منعزلاً عن مصالح الشعب والمدينة، بحيث يستخدم بعضهم حقوقه الفردية الذاتية في مواجهة حقوق بعضهم الآخر. لا عجب، والحال هذه، من أن تفسد العلاقات وتندلع الاضطرابات، لا سيما أن منطق السوق الانتفاعي والنفوذ البيروقراطي المتفاقم ما برحا يخنقان حس التضامن الاجتماعي بين الأفراد. في هذا السياق، يعترف هابرماس بضرورة الحاجة إلى استلهام جوهر التراثات الدينية من أجل الفوز بتصور أخلاقي يساعد في تخفيف التوتر، وتقويم الاعوجاج، وتصويب المسار.
بيد أن المفاهيم التي ينطوي عليها التراث الديني ينبغي أن تتناولها الفلسفة تناولاً فطناً وتترجمها إلى لغة الناس المفيدة. لا بد إذاً من التعاون الوثيق بين الفلسفة واللاهوت من أجل نقل التصورات الدينية المفيدة إلى فضاء المدينة الإنسانية العلمانية المدهرنة واستدخالها في وعي المواطنين من غير إفراغها من جوهر مقاصدها. بما أن الوحدة الاجتماعية أضحت مهددة بالانحلال والسقوط، يجب على المسؤولين المشرعين في الدولة الحديثة أن يزينوا دساتير المجتمعات بما تنطوي عليه التراثات الثقافية الدينية من حوافز واستنهاضات وإرشادات أخلاقية تعزز في وعي الإنسان المواطن روح الشريعة الراقية وأخلاقيات التضامن الوجودي. إذا ثبت ذلك كله، كان على جميع المواطنين، من مؤمنين وملحدين ولا أدريين ومشككين، أن يتعاونوا تعاوناً صادقاً نزيهاً، ويتدبروا اختلافاتهم وخلافاتهم، ويستثمروا كنوز إسهاماتهم الفكرية اللاهوتية والعلمانية من أجل إغناء النقاش السياسي العلني.
راتسينغر وضرورة استثمار البعد الديني في استجلاء جوهر الإنسان
تلقف اللاهوتي يوزف راتسينغر الدعوة الصادقة هذه، وأخذ يجتهد في تحليل واقع الاجتماع الإنساني المعاصر الذي يعاني ضروباً شتى من الضياع الأخلاقي وسقوط اليقينيات الفكرية التي تعين للإنسان مقام الخير وطبيعته ووظيفته. على رغم التقدم العلمي والتقني الرائع، يحزن البابا حزناً عميقاً جراء فقدان الضوابط المسلكية التي تصون كرامة الإنسان. ذلك بأن العلم لا يستطيع وحده أن يأتينا بالأجوبة الشافية التي تستثيرها قضايا الحياة ومعانيها ومقاصدها القصوى. موضوع العلم البحث في طبيعة الأشياء، لا النظر في مقام الإنسان ووعيه ووجدانه وفكره.
من المسائل التي ينبغي أن يفطن إليها الإنسان المعاصر علاقة السلطة السياسية بالقانون. فالمجتمع المعاصر ينبغي أن يحرص على إخضاع السلطة النافذة لمعايير القانون المستخرج من طبيعة الكائن الإنساني. لا يجوز أن تستقل السياسة عن المرجعية المعيارية التي يحملها مقام الإنسان في الكون. حقيقة الأمر أن الحياة الإنسانية تكتنز بقيم ذاتية تنبثق من ماهية الطبيعة التي فطر عليها الوجود الإنساني. لا شك في أن هذه القيم تنطوي على سمة جوهرية إلزامية لا يجوز المس بها أو انتهاكها. ومن ثم، يجب الحرص على صون ماهية الطبيعة الإنسانية والاحتراز من استكبار النفوذ العلمي التقني الذي يطمح إلى إعادة تكوين هذه الطبيعة حتى تتحول إلى منتوج من منتوجات العقل الصناعي.
وعليه، يسأل راتسينغر عن المرجعية الثقافية العليا التي ينبغي أن تضبط طموحات العقل الإنساني وترشده إلى الصراط الأخلاقي المستقيم. لا يكفينا، والحال هذه، أن نعتصم بشرعة حقوق الإنسان، بل ينبغي، في نظر البابا، أن نزينها بضمة من الواجبات الأخلاقية التضامنية والحدود المسلكية التهذيبية. خلافاً لما يذهب إليه هابرماس في وثوقه الراسخ بقدرة العقلانية الحديثة على ضم الناس المختلفين في ائتلاف تضامني مفيد، يبين لنا راتسينغر أن هذه العقلانية منعطبة ناقصة لا تستطيع بقدرتها الذاتية أن تسوغ أصولها الملزمة، لا سيما خارج المجال الحضاري الغربي. ولا يلبث أن يستعين بالرؤية المسيحية التي تمنح حقوق الإنسان العمق الروحي الضروري.
مواضع الاختلاف بين الفيلسوف واللاهوتي
من الواضح أن راتسينغر وهابرماس يختلفان في مسألة رسم الحدود التي ينبغي أن تصونها العقلانية الغربية. غير أنهما لا يلبثان أن يتفقا على معالجة أمراض التعصب الديني والأصوليات القومية والتشنجات الأيديولوجية على تنوع منابتها. لا بد من اللجوء إلى سلطة العقل من أجل التصدي لهذه الانحرافات. ولكن العقل أيضاً يعاني، في نظر راتسينغر، انحرافات شتى وأسقاماً بنيوية ينبغي أن يبرأ منها. هنا يقترح البابا أن يستعين العقل بالإيمان والدين استعانته بمرشد حارس أمين يحرص على ضبط عمل العقل في نطاق حدوده الطبيعية الشرعية. فضلاً عن ذلك، يفصح اللاهوتي عن أمله في أن تعمد الحضارة الغربية إلى الانفتاح الهني على الثقافات الإنسانية الأخر، وأن تقبل الإصغاء إلى ما تزخر به من كنور فكرية وروحية مغنية.
لا شك في أن اللاهوتي والفيلسوف يجمعان كلاهما على مقام الدين في المجتمع العلماني المدهرن، ويوصيان بالتعاون الوثيق بين العقل والإيمان في تعزيز أخلاقيات الإنسانية، ويحثان الناس على الإصغاء إلى صوت العقل وإلهامات الإيمان حتى يستقيم الإصلاح المتبادل والتقابس المغني. بيد أن مواقف الرجلين تفترق في مسائل جوهرية. فالبابا يصر على انحرافات العقل التي لم يتردد هابرماس في الاستدلال عليها حين نقد العقل التقني الأداتي. للعقل حدود ينبغي أن يعترف بها. غير أن دعوة هابرماس إلى نقل مفاهيم الدين إلى فضاء العقلانية الحديثة يدل على صدارة العقل وتفوقه المعرفي على الحس الإيماني. لذلك يسأل المؤمنون بقلم راتسينغر: لماذا لا يحرض هابرماس أيضاً العقل على استجلاء مقولاته ونقلها إلى فضاء الاختبار الإيماني؟ لماذا ينبغي للمقولات اللاهوتية أن تخضع لمنطق العقل الفلسفي في حين أن المقولات الفلسفية تحتاج أيضاً إلى مراعاة الاختبار الإيماني؟ لماذا لا تنقل المقولات الفلسفية أيضاً إلى دائرة الاصطلاحات الإيمانية اللاهوتية؟
إيضاحاً لهذا الاختلال في تعيين مقام الصدارة، يستجلي هابرماس مضمون المقولة اللاهوتية التي تعاين في الإنسان "صورة الله ومثاله"، فيخلص إلى ضرورة ترجمة المضمون اللاهوتي هذا إلى كلام فلسفي علماني يناسب مقتضيات الانتساب إلى الدهر الراهن. فإذا به يقترح تفسير "الصورة الإلهية" بالكرامة الجوهرية الناشبة في صميم الذات الإنسانية. على رغم الفائدة الحضارية السلامية التي ينطوي عليها التفسير العلماني المدهرن هذا، لا بد من الانتباه إلى خطر إفراغ المفاهيم الدينية من معناها اللاهوتي اللصيق بها. ذلك بأن "صورة الله" المنقوشة في عمق الكائن الإنساني لا تقتصر على معنى الكرامة الإنسانية الجوهرية، بل تدل أيضاً، بحسب الإيمان المسيحي، على ارتباط إلهي يتجاوز الوجود البشري التاريخي المحض. لذلك ينطوي التفسير العلماني الذي يقترحه هابرماس على مشيئة الإخضاع العقلاني المتعمد، بحيث يهيمن منطق العقلانية الحديثة على مسار الوجدان الإنساني في جميع أبعاده الاختبارية الممكنة. غير أن تجاوز الوجود التاريخي مشكلة شائكة لا يستطيع العقل الفلسفي أن يتدبرها من دون أن يعريها من خلفياتها الأسطورية المتوارثة وحمولاتها الافتراضية المكتومة. فالعلم لا يقول بالتجاوز المطلق خارج رحابة الكون الفسيح.
ثمة اعتراض آخر يتناول مسألة الإسهام الديني في تعزيز الحياة الديمقراطية الغربية. في هذا السياق، يبين لنا هابرماس أن الدين يمكنه أن يساند الدولة العلمانية المدهرنة الحديثة على قدر ما يستثمر تصوراته الروحية وإرشاداته الأخلاقية في ترسيخ روح التضامن والتكافل بين المواطنين. بيد أن هابرماس يغفل الأزمة الكيانية التي تصيب المجتمعات الغربية العلمانية، لا سيما في نطاق صون الأسرة وحفظ النسل ومؤازرة الالتزام التربوي المرهق. لا يخفى على أحد، بحسب راتسينغر، أن هذه المجتمعات أضحت تميل في معظمها إلى إهمال الإنجاب، لا بل طفقت تؤثر الحرية الفردية والاستمتاع الأناني في الالتزام العيلي والتضحية في سبيل الأولاد. من جراء هذا التطرف، أمسى الغرب كله معرضاً للانحلال والتفكك. وما أزمة المهاجرين واللاجئين سوى وجه من وجوه التأزم الاجتماعي البنيوي الناشب في أعماق الوعي الغربي.
وعليه، يحرض اللاهوتي راتسينغر المجتمع الغربي على صون مقام الدين واستثمار الطاقات التهذيبية الإصلاحية التي ينطوي عليها الاختبار الإيماني. ذلك بأن التدين الواعي المستنير يمنح الإنسان القدرة على استحسان التضحية الذاتية، والالتزام التضامني، والتواصل الانفتاحي. وهذه كلها، لعمري، من أوجب القيم التي تحتاج إليها حياة الأسرة المعاصرة من أجل ضمان ديمومتها وتعزيز أثرها الطيب في صون مصالح المجتمع الحيوية.
إنقاذاً للمجتمعات الغربية من تطرف ذاتياتها المستفحلة، يحث البابا الكاثوليكي الجميع على النظر الحصيف في تراثات المجتمعات الأخرى التي لا تنتسب إلى المركزية الأوروبية الحديثة، وفي اعتقاده أن هذه التراثات بمنزلة المستودعات الثقافية الغنية القادرة على الإلهام التجديدي النافع. لا ينفع الإنسان الغربي أن يمجد حضارته من غير أن يلتفت إلى الكنوز الإنسانية المبثوثة في تضاعيف الحضارات الأخر، لا سيما في مسائل الأسرة والأولاد والتضامن الاجتماعي والوجدان التشاركي. ليس على الغرب أن يسقط في محن الشرق الاستبدادية، وليس على الشرق أن يقلد انحرافات الغرب الأنانية. ليس أفضل من التقابس الاستصفائي الذي يستخرج المضامين الإنسانية الرفيعة من كلتا الحضارتين. في هذا السياق، يستوقف البابا ما تختبره بعض المجتمعات الآسيوية والأفريقية من انسجام شبه فطري وتكامل إغنائي بين مقتضيات التفكر العقلاني ومستنهضات الاختبار الإيماني.
التكاملية البناءة في أبعاد العقل الحديث
في جميع الأحوال، ينطوي حجاج الفيلسوف وحجاج اللاهوتي على عناصر جليلة من الإصابة الموضوعية والوجاهة الخصبة. غير أن خطاب راتسينغر يميل إلى تعظيم الفروق الحدية بين العقل والإيمان، ولو أنه ما برح وريث فكر توما الأكويني (1225-1274) التصالحي التوفيقي، في حين أن تناول هابرماس يتيح إغناء المقام العقلي وتوسيعه حتى يستوعب جميع الأبعاد الاختبارية. ومن ثم، ينبغي إعادة النظر في أبعاد العقل التي استجلى هابرماس مقاماتها في غير بحث من أبحاثه النقدية. ذلك بأن العقل الحديث ينطوي على طاقات إصلاحية ذاتية تأتيه من تساكن المقتضيات المعرفية والأخلاقية والجمالية في دوائر نشاطه التاريخي. فالعقل عقول متضامنة متكافلة متعاونة، منها ما يعنى بأصول المعرفة، ومنها ما يعنى بأحكام الشرائع المسلكية، ومنها ما يعنى بمعايير الإبداع الفني. هل يمكننا، والحال هذه، أن نجعل الاختبار الوجداني الروحي الحر بعداً رابعاً من أبعاد العقل الحديث من غير أن نستغل هذا البعد من أجل أن نخضع العقل لتصورات الأنظومة اللاهوتية ولإملاءات المؤسسة الدينية؟ أعتقد أن الناس، على اختلاف حضاراتهم، يحتاجون اليوم إلى إعادة النظر في بنية العقول التي يستندون إليها في تدبر طرائق تفكيرهم ومسالكهم ومعاملاتهم. أما السبيل الأقوم، فليس التزاحم والتدافع والتحارب، بل التلاقي الصادق والتواصل المتواضع والتعاون البناء. ليس لعقل حضاري من أرجحية كيانية على عقل حضاري آخر إلا على قدر ما يعزز مقام الكرامة الإنسانية ويوطد روح الأخوة الكونية الشاملة.
إضافة تعليق جديد