حراس العالم
ناظم مهنا:
غرفة عمليات للشعر الجديد "غرفة القابون!..." المكان الذي أقمت فيه منذ 1978 حتى 1990. يقول البعض: إنه أجمل مكان. الواقع أنه أبشع مكان. ويمكنني أن أقول: إنه غرفة في قلب الجحيم!. حيث القابون، من ضواحي دمشق، المكان الأكثر بؤساً وجحيمية في البلاد. مع ذلك ومن جانب آخر، ووسط هذا البؤس، خلقنا حميمية وصنعنا أفقاً كونياً من الأفكار والشعر والصداقة والحب. على ضفة نهر يزيد بن معاوية الآسن، أحد فروع بردى، تقع هذه الغرفة ذات السقف الخشبي إلى جانب ثلاث غرف أخرى يشغلها مستأجرون عزاب. ضمن دار عربي له حوش مفتوح على السماء، وفيه عريشة عنب، وأمام الغرفة مصطبة كأنما شيدت خصيصاً لمؤتمراتنا العالمية الصاخبة. نهر يسرح فيه أكبر تجمع جرذان في جغرافيا الأرض. جرذان تغزو البيوت، وتتجول في الليل وفي وضح النهار، بين الناس، وتقتحم مجالسهم، وحيثما تحركت تقفز في وجهك أو تمر من بين ساقيك!.
كان رواد هذه الغرفة كثر، يصعب عليَ تذكرهم جميعاً، حشد هائل من الأصدقاء الذين يهجسون بالأدب، قراءة وكتابة. أغلبهم معروفون، وبعضهم صاروا مشاهير، توزعوا في أرجاء الأرض، وفي مواقع عديدة، والبعض الآخر أخذتهم الحياة في سبلها المتشعبة، وقلة منهم رحلوا مع مشاريعهم وطموحاتهم التي لم ترَ النور.
تركت فيّ هذه الغرفة أثراً لن يزول. فمعظم معارفي، من أصدقاء الكتابة والتشرد، عبروا فيها، وتركوا بصمات عبورهم في ذاكرتي، وذاكرة المكان، وذاكرتهم أيضا. وقد ذهب البعض من هؤلاء بعيداً في طوباويتهم، مطالبين بأن تكون الغرفة متحفاً للهامشيين والمارقين، لكثرة من عبرها منهم! ومن أراد، فليجعلها متحفاً في ذاكرته. من جهتي وأنا المعنيّ الأول في هذه الغرفة ، تكاد مجموعتي الأولى: "حراس العالم" تدور معظم قصصها في تلك الغرفة، وتسرب تأثيرها على مجموعاتي اللاحقة. وكذلك فعل الصديق الشاعر والروائي جودت حسن، إذ لا يخلو عمل من أعماله الشعرية والنثرية من ذكر لهذه الغرفة، حتى إنه كتب رواية، لم تطبع بعد، عن تلك الغرفة وزوارها بالأسماء الصريحة. وبشكل أقل فعل أحمد ونوس، وشعراء آخرون...
في هذه الغرفة المفتوحة دائما للزوار، أحيينا الأممية الخامسة بالاشتراك مع الرصيفي الكبير رسمي أبو علي الذي كنت ألتقي به في مقهى الروضة. ثم السريالية الجديدة مع الشاعر جودت حسن المنبوذ من حزبه الشيوعي... نشرت وإياه نصوصاً مشتركة في جريدة النهار البيروتية، بإشراف الشاعر الكبير شوقي أبي شقرا. ثم انضم إلى الحركة شعراء، منهم: حسن وسوف، أحمد ونوس، فهد ديوب، والراحل المأسوي رياض أحمد. في تلك الفترة من ثمانينات القرن العشرين كانت تربطني صداقات مع معظم أبناء جيلي، وممن هم قبلي وبعدي، من الوسط الأدبي في دمشق، والقادمين إليها من المحافظات والأرياف، نلتقي في المقهى أو في الحانات... وصارت الغرفة ملتقى يومياً للأصدقاء وللمتطفلين أيضاً!..
وعلى وقع المشاحنات والشجار حول قضايا الشعر والعالم كان البعض يعتقد أنه من هذا المكان يدار كل شيء، حتى لكأن هذه الغرفة هي مركز العالم!.
من جبلة يأتي عماد الجنيدي، الشاعر الخطير بكل المقاييس، ومعه رهطه الساحلي، دائماً ودون موعد!... ويأتي السريالي العريق أسعد الجبوري، نخبوي في ربع الساعة الأولى فقط، والباقي صعلكة... وكريم عبد المرهف بحساسيته العراقية. وأحياناً الشاعر الصديق اسكندر حبش، الذي أجرى معي حواراً مبكراً، أعتقد في عام 1984، تحدث في مقدمته عن غرفة القابون... ثم كتب عنها مؤخراً في جريدة "السفير"، في معرض حديثه عن ترحيل أحمد جان عثمان.
أما الصديق الصيني المنشق أحمد جان عثمان الذي أحييه في منفاه الجديد متمنياً له طيب الإقامة ومواصلة الكتابة، فهو مقيم يومي، يترك كل مساء مسكنه في المدينة الجامعية وغرامياته خلف ظهره متهيئاً للحوار والمشاكسة. كنا كائنات ليلية، تزهر رؤوسنا في الليل والعتمة... ما أكثر ما كانت تنقطع الكهرباء!... ونقضي ليلنا على ضوء الكاز الذي لا أزال أحتفظ به إلى اليوم. مرة بحضور الصديق الألماني غونتر وآخرين. مثل بدائي عريق، أشعلت مشعلاً من الأقمشة الممعوكة بالمازوت والملفوفة على رأس عصا، ونصبتها في الجدار، ما أشبهها بالشعلة الأولمبية، تضيء ليلنا لساعات!... وقد أوحى هذا الطقس لأحمد جان: بقصيدة "الكاهن البربري" التي نشرها في جريدة السفير مهداة لي... وفي هذا الجو اعتقد الألماني أننا سنقوم بتحضير الأرواح بعد قليل. كانت الطرافة والتهكم والصخب هي مظلتنا لمواجهة التهميش والبؤس المحيط بنا، والذي حولناه من عامل إحباط إلى حيوية وتفاعل. ووسط فوضى بدائية شاملة، …
المستقبل 28 تشرين الثاني 2004
إضافة تعليق جديد