غوستاف يونغ وصناعة الأعداء
إبراهيم العريس:
كانت الخصومة بين سيغموند فرويد وكارل غوستاف يونغ الذي كان الأب المؤسس قد عينه خليفة له رافعاً إياه إلى أعلى المستويات بين المحيطين به، من الضخامة والراديكالية إلى درجة أنها تحولت إلى قطيعة مستديمة وجعلت يونغ يكتب صفحات عديدة في كتابه "حياتي" يكشف فيها بعد سنوات طويلة كيف أنه تردد طويلاً قبل أن يذكر أستاذه الكبير في الكتاب الذي مع ذلك يبسط تاريخ حركة التحليل النفسي وتطورات ذلك التاريخ، والحقيقة أن أسلوب التجاهل كان واحداً من تلك الأمور التي لا يتردد صاحب "الكتاب الأحمر" في اللجوء إليها كلما دعته الحاجة (أو الأحقاد الشخصية) إلى ذلك، لكنه إذ وجد أن كتابه سيكون دون صدقية إن لم يذكر فيه فرويد، تحدث عنه ولكن، بحسب الفرويديين الأقحاح، بافتراء بين حاول من خلاله أن يشوه سمعة فرويد إلى أقصى الحدود، وهذا الجانب من تصرفات كارل غوستاف يونغ كان معروفاً ومتوقعاً ولا يأبه به أحد عادة لا سيما إن كان يطاول قامة كفرويد الذي بدوره كانت له خصوماته وأساليبه في التجاهل.
تصرفات مؤذية
لكن تصرفات يونغ ستكون أكثر أذى حين تمس، مثلاً، تجاهله نساء حدثت بينه وبينهن قطيعة ما شخصية غالباً، فيضر ذلك بمكانة كل منهن إلى الأبد، بل يمحى ذكرها من التاريخ العلمي. ولعل المثالين الأسطع على ذلك، مثالا الروسية سابينا سبيلرين – التي سيعود المخرج السينمائي الكندي دافيد كروننبرغ ليعيد إليها وإلى علاقتها بيونغ وحتى بفرويد اعتبارها في فيلمه الرائع "منهج خطير"، ولكن من المستحيل العثور على ذكر لها في كتاب الـ 600 صفحة "حياتي"، الذي استعرض فيه يونغ سيرته وفكره وتاريخه وإنجازاته، وهي امرأة حسناء وشابة كانت مريضة يونغ فارتبط معها بعلاقة عاصفة قبل أن تشفى وتتحول بدورها إلى محللة نفسية، والسويسرية طوني وولف التي عاش معها علاقة مشابهة دامت سنوات قبل أن يتركها دون أي ذكر لها في "حياتي" (وقد يبدو لنا هنا أن فيلم "منهج خطير" قد دمج الحكايتين في حكاية واحدة، لكن هذا لا يغير من الأمر شيئاً). المهم هنا أن يونغ محا المرأتين من تاريخه وكأنهما لم توجدا أبداً، وهو كان قادراً على ذلك بفضل مكانته وتشعب مريديه، لكنه في المقابل لم يكن قادراً عليه في ما يخص ما لا يقل عن ثلاثة من أصحاب الأسماء الكبيرة في آداب القرن العشرين.
بين يونغ وجيمس جويس
فالحال أن يونغ في مراحل متفرقة من حياته وسع خصوماته، بالتالي أحقاده المعتادة لتشمل على التوالي الإيرلندي جيمس جويس والألماني هرمان هسّه والفرنسي أندريه بريتون، وهؤلاء الثلاثة إذ لم يكن قادراً على تجاهل أوليهم في الأقل، وجد نفسه مرغماً على التعامل مع كل واحد منهم على حدة، ودائماً كرد فعل على ما كان من شأنه أن يتوقع منهم فتسببوا له في خيبة من المؤكد أن طيف فرويد كان يحوم في خلفياتها.
ولنتفحص هنا باختصار تلك المناسبات الثلاث بادئين بالحالة الأقدم، حالة جيمس جويس، ففي عام 1916 قرأ يونغ رواية جويس "يوليسيس" التي كانت صدرت حديثاً، كتب عنها مقالة اعتبرها فيها "غامضة وشاهدة على انهيار العالم" قبل أن يعدل رأيه بعد سنوات ويرى، مثلاً، أن الـ 40 صفحة الأخيرة من الرواية يمكن اعتبارها "عقد لؤلؤ حقيقي" في عالم التحليل السيكولوجي، ولعل الغريب في الأمر أنه قد حدث شيء آخر في الفترة الفاصلة بين المقالة الأولى والتعديل اللاحق، فيونغ وجويس كانا قد تعارفا في زيوريخ منذ عام 1915 والتقيا كثيراً هناك تحديداً في "كاباريه فولتير" الذي سيكون مهد الحركة الدادائية والصخب الثقافي حينها، في ذلك الوقت كان جويس يكتب آخر فصول "يوليسيس" وحدث مرة أن عرف صديقه الجديد يونغ على الثرية الأميركية إديث روكفيلر ماكورميك التي لم تكن تبخل على الأدباء والفنانين ومنهم جويس الذي لسبب أو لآخر سيتهم يونغ بأنه السبب في التوقف عن مساندتها مالياً له، في وقت كان أحوج فيه ما يكون إلى القرش، ومن هنا صرخ جويس ذات يوم بأن ثمة أشخاصاً في زيوريخ كانوا يحاولون إيداعه في المصح الذي يديره يونغ في المدينة! ولنا أن نتصور بقية الحكاية.
"علمته حب الشرق والغنوص"
ولئن كان جويس تعمد ألا يسكت عن تلك الحكاية التي سيقول إنها فاجأته من جانب رجل كان يكن له احتراماً كبيراً إلى درجة أنه عهد إليه بابنته الصبية لوتشيا كي تعالج في عيادته "على رغم سمعته السيئة في تعامله مع الصبايا"، فإن هرمان هسّه، كان أقل صخباً إنما أكثر حسماً، فهو الذي تعرف على يونغ في سنوات العشرين من القرن الفائت لفت نظره ذات مرة ما نقل له من أن يونغ يقول أن هسّه قد تأثر بروايتين له في الأقل، هما "سيدهارتا" و"ذئب البوادي" بنظرياته السيكولوجية، وإزاء هذا الكلام انتهز هسّه فرصة سؤال صحافي طرح عليه حول هذا الأمر في عام 1927، ليجيب بشكل حاسم وهو يبتسم قائلاً إن الإنتاج الأدبي لا يحتاج على الإطلاق إلى أن يتأثر بأية نظريات سيكولوجية مهما كان شأنها، فهو يحمل أفكاره ونظرياته في داخله، "يمكن للتحليل النفسي، كما قال، أن يتحدث عن المبدَع الأدبي أو الفني كما يشاء ولكن الكاتب الحقيقي لا يحتاج إليه وإلا لفقد المبدَع روحه وصار مجرد ترجمة لأفكار مسبقة".
يومها سكت يونغ صاغراً فهو لم يكن ليجرؤ على مناقشة كاتب كبير من طينة هسّه في شؤونه الأدبية الخاصة، هذا في العلن، أما في حلقاته الضيقة وفي مراسلاته مع المقربين منه، فإنه واصل كلامه السابق مؤكداً وإن همساً، "منذ تعرفت على هسّه في عام 1916، عرفته على المحلل النفسي البروفيسور جي. بي. لانغ الذي كان عالماً كبيراً ومثقفاً مدهشاً يتقن من اللغات الشرقية العربية والعبرية والسريانية ويهتم خصوصاً بالنزعة الغنوصية التي استقاها إلى حد كبير مني ونقلها بالتالي إلى هسّه بحيث نجد آثارها في رواية "دميان" وكذلك في العلاقة التي أقامها هسّه مع الشرق والفكر الشرقي بصورة عامة".
اجتماع "سري" في باريس
مهما يكن من أمر، لسنا ندري ما إذا كان هسّه قد اطلع على مثل تلك التأكيدات التي راح يونغ يمررها من أبواب ضيقة، لكننا نعرف أن التقدير المتبادل ظل قائماً بين الرجلين على رغم كل شيء، وفي المقابل لم تجر الأمور على تلك الشاكلة بين يونغ وزعيم السريالية الفرنسية أندريه بريتون، الذي قابله لكن يونغ لم يعره اهتماماً، ولكن فقط وكما يبدو لأنه كان يعرف أن بريتون في أية حال من الأحوال سيقف في صف فرويد، وهو ما كان قد سبق لبريتون أن أعلنه قبل لقائهما على أية حال، على رغم أن لقاء فرويد – بريتون نفسه لم يكن قبل ذلك ناجحاً، ولقد كان اللقاء الوحيد كما يبدو الذي لم يترك أي أثر يذكر في كتابات يونغ، إذ يخلو كتابه "حياتي" من أي ذكر له وكذلك من أي ذكر لجاك لاكان الذي عقد بريتون أصلاً الاجتماع "السري" بحسب تعبيره لجمعه بيونغ في قاعة خاصة بفندق ليتيسيا الباريسية.
وتقول الحكاية التي تغنى بها حواريو بريتون وفي مقدمتهم آراغون وتسارا وبول إيلويار ممن حضروا ذلك اللقاء، طويلاً منذ تم اللقاء يوم 20 سبتمبر (أيلول) 1939 وقد اندلعت الحرب العالمية الثانية بالفعل، لكن أحداً لم يذكر ماذا دار في اللقاء، بل إن يونغ سيقول لأصحابه لاحقاً إنه لم يفهم حقاً ما الذي كان يريده "أولئك الشبان الفرنسيون الظرفاء"، بالتالي لم يكلف نفسه الإشارة إلى الإجتماع في أي من كتاباته، على حد علمنا في الأقل! كل ما في الأمر أن بريتون سيحافظ على السرية ويقول فقط أن "العالم السويسري قد أفلت منه موعده مع الثقافة الفرنسية الحقيقية"!
اندبندنت عربية
إضافة تعليق جديد