أنا واذاعة لندن
محمد خير الوادي :
اليوم توقف عن البث القسم العربي في الاذاعةالبريطانية، التي اعلنت ان الغاية الاساسية من هذا القرار ضغط النفقات والانتقال الى الاعلام الرقمي .
ايقظ هذا الخبر في ذاكرتي احداثا عشتها قبل نصف قرن مرتبطة باذاعة لندن العربية .
ففي بداية سبعينات القرن الماضي ، وكنت آنذاك ادرس الصحافة والاعلام في جامعة موسكو ، اقترحتُ على عميد كلية الصحافة ان يكون موضوع دبلوم تخرجي من الجامعة مخصصا للقسم العربي في هيئة الاذاعة البريطانية .وعللت اقتراحي هذا ، بمذكرة خطية بينت فيها ، ان الاذاعة المذكورة تملك تاثيرا كبيرا على الجمهور العربي ، الى حد انها كانت –آنذاك –في طليعة اجهزة الاعلام الناطق بالعربية في المنطقة ، وان الحكومة البريطانية تستغل هذا الوضع من اجل الترويج لسياستها ولتحالفها مع الولايات المتحدة ضد الاتحاد السوفياتي آنذاك .
وافق عميد الكلية ، على اقتراحي ، وقرر منحي اجازة دراسية لجمع المعلومات ، وتسهيل سفري الى بريطانيا لاستكمال البحث .
في لندن ، وفي بداية عام 1973،حصلت على موافقة من ادارة البي بي سي ، للدخول الى مكتبة الهيئة والاطلاع على الوثائق المتاحة . وبقيت هناك نحو ثلاثة اسابيع ، درست خلالها المراجع المتعلقة بانشاءالقسم العربي عام 1938، خاصة الكتب السنوية التي تصدرها البي بي سي. كما اتيحت لي الفرصة للالتقاء بمجموعة نجوم من المذيعين والمعدين العرب ،الذين كانو يعملون في تلك الفترة في القسم العربي ، وعلى رأسهم جميل عازر ، وحسن الكرمي واحمد كمال سرور وغيرهم من ، الذين تألقوا فعلا في عملهم ،ونجحوا في ادخال اللغة العربية الرصينة ذات الصياغة الرفيعة المتماسكة والالقاء السليم المتميز الى العمل الاذاعي .
وفهمت آنذاك ، ان الفضل في هذا النجاح يعود الى المرحوم حسن الكرمي ،المدقق اللغوي في الاذاعة ومعد برنامج ” قول على قول “،والذي ابرز جمال العربية وطلاوة اسلوبها وقدرتها على جذب اهتمام المستمعين ،من خلال فخامة الالقاء وسلامة اللغة وجزالة الاسلوب وخفته .
وبعد نحو نصف قرن ، لا تزال النصائح التي سمعتها من حسن الكرمي للمذيعين ترن في اذنيٌ حتى اليوم . قال المرحوم حسن :” ان المذيع ليس بوقا اجوفا . فهو ينبغي ان يكون خطيبا مفوها ، ولغويا يطوع اللغة ويمتلك ناصيتها ، وممثلا قادرا على نقل احاسيسه وانفعالاته من خلال القائه واثبات حضوره على الهواء “.
سالت آنذاك العاملين العرب هناك عن سر تألقهم المهني هنا في لندن ، رغم انهم كلهم اصحاب خبرات سابقة في المجال الاذاعي في الدول العربية . أجابني جميل عازر : “نحن متحررون هنا من قيود الرقيب الثقيلة ، وتُركت لنا حرية اختيار الاخبار وفق القاعدة الذهبية : الموضوعية والمصداقية وهو ما كنا نفتقده في دولنا العربية “.
قد اجادل بعض الشيء في ذلك ، فاذاعة لندن لم تكن مستقلة وموضوعية مائة بالمائة ، فهي كانت الذراع الاعلامي لوزارة الخارجية البريطانية . ومع ذلك ، فان فسحة الحرية والثقة التي تمتع بها العاملون العرب في القسم العربي ، وفرت لهم امكانية النجاح والتألق عبر المصداقية التي مكنتهم من نيل تثقة المستمعين العرب .
رجعت من لندن وقدمت بحثي الذي نال درجة الامتياز ، و صدر بعد عدة سنوات عن دار المسيرة في بيروت على هيئة كتاب بعنوان ” القسم العربي في اذاعة لندن “.
وزرت هذا القسم مرة اخرى بعد ثلاثة عقود ، وكان قد غير اسمه فاصبح بي بي سي – عربي، ولمست تغير الاجواء المهنية الرصينة و، تراجعا مهنيا واضحا . وللامانة ، فان السبب لا يكمن فقط في قلة الكفاءات ، ولكن ايضا في المزاحمة الشديدة من جانب التلفزيون والانترنت ، والتي ادت الى اتخاذ قرار باغلاق القسم العربي في اذاعة لندن . وبذلك تندثرمرحلة طويلة من عمر هذه الاذاعة العريقة ، مرحلة تحكي قصة غروب الامبراطورية التي كانت الشمس لا تغيب عنها .
إضافة تعليق جديد