بين باخوس وديونيسوس
لا يمكن فهم أساطير المنطقة، بما فيها الأساطير الإغريقية والرومانية، انطلاقا من التقليد اليوناني. يستحيل ذلك في نظري. فالتقليد اليوناني، ووليده الروماني، يعاني من خلل مركزي يخلط خلطا لا شفاء منه بين ديونيسوس وبين باخوس. فكلاهما يبدو إلها للخمر. وهذا يوصل إلى التيه. ذلك أن أساطير المنطقة استقطابية، وتنهض على التفريق بين الخمر والقمح، بين السائل والصلب، بين الساكن والمتوج، قاسمة الآلهة إلى قسمين خمري وقمحي. الخمري هو ديونيسوس. والقمحي هو باخوس. السيال هو ديونيسوس، والجامد هو باخوس. لكن التقليد اليوناني يجعل ديونيسوس وباخوس شيئا واحدا. يجعل الضدين أمرا واحدا. والتقليد الغربي الحديث لم يجد حلا لهذا التشوش، بل زاده عمقا وضلالا. لذا لا يمكن الركون إلى الغرب في فهم أساطير المنطقة، لا الأساطير المصرية، ولا البابلية- الآشورية، ولا الفينيقية- الكنعانية، ولا اليونانية- الرومانية. أعني: إذا أردت الصورة الكلية للعالم الأسطوري فلن تعثر عليه في الثقافة الغربية أبدا. يمكنك العثور على جزئيات سليمة وجيدة هنا أو هناك، لكن الصورة الكلية ستكون غائمة خاطئة.
مناسبة هذا الكلام هو عودتي لمسرحية يوربيدوس (الباخيات) أو (عابدات باخوس). وهذه المسرحية عرض عميق للديانة اليونانية، أو للأسطورة اليونانية المركزية، بشكل مسرحي، لكن مع التشوش اللانهائي ذاته الذي يجعل من باخوس يختلط بديونيسوس.
باخوس هو الخبز لا الخمر. وقد ورد عند هيرودتس في تاريخه ما يساعدنا على فك الاشتباك بين الإلهين. إذ أخبرنا أن الفرعون بسميتاك المصري أراد أن يحسم مسألة أي الشعوب أعرق، المصريون أم الفريجيون، الذين هم من العالم اليوناني:
"لما وجد أن الاستقصاء والبحث وحدهما قاصران عن الكشف عن الجنس الأعرق، خرج بطريقة مبتكرة تأتي بالقول الفصل في هذا الأمر. فكان أن التقط طفلين صغيرين من أسرة من عامة الناس وسلمهما إلى أحد الرعاة ليتولى رعايتهما، بين قطيعه، وأمره بوضعهما في كوخ منعزل بعيدا عن الناس، وألا ينطق بكلمة واحدة أمامهما. وأوعز إليه أن يأتي بمعيزه بين الحين والأخر ليطمئن إلى أنهما ينالان نصيبهما من الحليب، والاطمئنان إلى راحتهما في كل أمر آخر. وقد أراد بسميتاك من ذلك أن يعرف أول كلمة ينطق بها هذان الطفلان، حتى يبلغا من العمر ما لا يكفي معه لغو الأطفال. وكان أن أفلحت خطته، فبعد أن مضى عليهما عامان على هذه الحال، صادف أن جاءهما هذا الراعي ذات يوم على عادته في الزيارة للاطلاع على أحوالهما، فقاما يستقبلانه وأيديهما ممدودة، وهما يصيحان بكلمة "بيكوس". ولم يأبه الراعي بما سمع من نطق الطفلين بادئ الأمر، ولم يذكر الأمر لأحد، ولكنه لما وجدهما يكرران الكلمة كلما زارهما، عرض الأمر لمولاه. فأمر بسميتاك بإحضار الولدين ليسمع منهما كلمة "بيكوس"، فلما كان ذلك أمر بالبحث لمعرفة اللغة التي تنتمي إليها تلك العبارة. وبعد بحث واستقصاء عرف أن الكلمة تعنى الخبز بلغة الفريجيين، وبناء على هذه الواقعة تنازل المصريون وسلموا بقدم الفريجيين، تلكم حقيقة ما حدث وعلمت من الكهنة في معبد هيفستوس "بتاح" بممفيس). (تاريخ هيرودوت، ص 133، 2001).
ليست هذه في الحقيقة قصة أصل المصريين والفريجيين، بل قصة الآلهة وأيها أقدم، الآلهة الخمرية أم الآلهة الخبزية. وهي تؤكد لنا أن الآلهة الخبزية هي الأقدم. فالكلمة الأولى التي نطق بها الطفلان bakos تعني: الخبز. تبعا لذلك، فالخبز أقدم من الخمر. والاسم باخوس Bachus اشتُقَّ من هذه الكلمة. أي أن اسم يعني الخبز، أو الخبزي.
أي أن باخوس قمحي ولا علاقة له بالخمر في الأصل. أما ديونيسوس فهو الخمرة، وهو الخمري. والغرب كله تائه بين الخبز والخمر.
زكريا محمد
إضافة تعليق جديد