من التجحيشة إلى التحشيشة
د.نزار العاني
لا أدري لماذا يحتقر الكثيرون منا هذا الحيوان الصبور اللطيف والذي يحمل اسم "الحمار" !؟ وقليلون هم الذين أنصفوه ، على رغم تفوقه بالذكاء وفضائله في مملكته كمواطن منبوذ من الدرجة الثانية !
أكبر المنصفين للحمار هو المؤرخ العظيم "أرنولد توينبي"، إذ أنه قام بتصويب المعلومة التي تذكر السبق في التدجين للحصان ، وهي مغايرة للحقيقة التاريخية التي تجزم بأن سبق التدجين كان للحمار، فهو وليس غيره الذي نقل اللون الأزرق (التركواز) من أوروك إلى شمال أوروبا ، لخبرته في هندسة الطرق ، والتي استخدمها "بن لادن" كما يقال في شق طريق الهدى بين الطائف ومكة !
والدليل على مقام الحمار وشهرته في تاريخ الأدب رواية (حمار الحكيم) المعروفة والشهيرة لـ "توفيق الحكيم" ، وكذلك كتاب الحائز على نوبل "خوان رامون خيمينث" (أنا وحماري) ، والذي يكتب لحماره "بلاتيرو" : (رقيق مدلل كالطفل والطفلة ..لكنه قوي وصلب في باطنه كالحجر؛ حين أمضي به أيام الآحاد في أزقة القرية ينظر إليه أبناء الريف ويقولون : فيه فولاذ .. فيه فولاذ .. فولاذ وفضة قمرية معاً ) ؛ وغير هذين الإثنين آخرون.
أحد أبطال رواية (مزرعة الحيوان) الرمزية للكاتب الكبير "جورج أورويل" كان الحمار "بنيامين" . واختيار "أورويل" هذا الإسم العبري لحماره له دلالات كثيرة ، فهو العاشر بين أولاد "يعقوب" ، وأحبهم إلى قلبه ، وذلك لأنه الولد اللطيف المطيع ، وهو ابن اليُمن والخير والبركة ، وابن يمين أبيه ، والذي ملأ حياة أبيه يعقوب بالمسرة والطمأنينة ، وخفف عنه أحزان شيخوخته خلال غياب أخيه "يوسف" .
ويقال أن شخصية الحمار "بنيامين" في الرواية ، قد تتماهى في واقع الأمر مع شخصية الكاتب نفسه ، كمثقف ومفكر، إذ أن أصدقاء الكاتب المقربين أطلقوا عليه كنية "جورج الحمار" بسبب سوداوية طبعيهما التشاؤمية . فقد كان الحمار "بنيامين في الرواية يخشى من مخاطر انزلاق الثورات إلى الفوضى والتدهور إذا لم يكن المثقفون في مقدم طلائعها .
كان الحمار المثقف "بنيامين" في رواية (مزرعة الحيوان) أكثر وعياً من أقرانه ومن طبقته الجاهلة . فحين اقتادوا رفيقه وصديقه الحصان "بوكسر" في عربة تحمل اسم صاحبها وعمله : (جزّار خيول وتاجر غراء ومتعهّد جلود وعظام ومورّد غذاء للكلاب) ، صرخ عالياً ضد أقرانه وطبقته مُنبهاً : (أيها المغفلون ، ألا تتقنون القراءة ؟)
يا له من حمار عبقري ؛ ففي موقفه الذكي الحازم هذا نجد الرد المفحم على النكتة التي تنقل لنا شكوى قافلة الإبل والأباعر من ظلم الواقع المتمثل بتكليف الحمار بمسؤولية قيادة قافلتهم !
وهناك صفحة طريفة مخصصة للحديث عن ذم الحمار ومدحه في كتاب "الأبشيهي" (المستطرف في كل فن مستظرف)، وتباين الذم والمدح بحسب الأغراض ، ويُوصف الحمار الأهلي حسب "الأبشيهي" كما كتب : (بِالْهِدايةِ إلى سُلُوكِ الطرِيق) و(وَكُنيتُهُ أبو محمود –"من باب الشكر من عندي"- ، وأبو جحش)1.
الجحش هو ابن الحمار الصغير البريء قبل الفطام . ومن هذه التسمية تم اشتقاق مصطلح التجحيش بصيغة الجمع، ومفردها التجحيشة التي تُستخدم كتوطئة لعودة المرأة المطلقة ثلاثاً بطلقة بينونة كبرى إلى زوجها الأول، عَبْرَ زواج شكلي من رجلٍ آخر هو المُحلل ، يختاره الزوج الأول ويتفق معه ! ولست مؤهلاً للحكم على جواز ذلك شرعاً من عدمه !
وألطف ما قرأت عن التجحيشة ماجاء في رواية الراحل الكبير "خيري الذهبي" في روايته (لو لم يكُن اسمُها فاطمة ) ، وسأنقل لكم حرفياً ما جاء في مقطع صغير في النص ، وأشرح وأعلق : (قال : "لا حلّ إلا التجحيشة !" ،وضحكوا قليلاً، ثم سأله المستشار الفرنسي عما يعني بالتجحيشة ، فقال : " فتوى تبيح لها التحررمن قسمها من دون أن تنكث به ، وتنهي هذا الوضع غير المعقول" . تداولوا في الأمر وأعجبتهم الفكرة ) 2.
وأشرح لكم الحكاية : بطلة الرواية "فاطمة" سيدة عادية سورية ورسّامة، تحلف وتقسم أنها ستعتصم ولن تخرج من بيتها إلا إذا غادر السنغال سورية . واستدعى موقفها الوطني تحشيداً ومظاهرات أرعبت الفرنسيين وأخافتهم من استخدام العنف وعقابيله ، فكانت حيثيات التجحيشة أن يُهدم الجدار المشترك بين بيت "فاطمة" وبيت جيرانها ، على أن يتولى شيخ الفتوى التجحيشية وصاحبها المُضِي في إقناعها بذلك قائلاً : ( برّي بقسمك الطاهر يا ابنتي بألا تخرجي من بيتك إلا بعد رحيل السنغال ! برّي بقسمك يا ابنتي ، واخرجي من بيت الجيران ، ومن باب الجيران ، وبذا لن تحنثي !)3. وهذا ما حصل ، ولكل مشكلة شيخ وحل وتجحيشة ما عدا الموت !
أما أغرب تجحيشة صحافية تبناها صحافي انتهازي أرعن وماجن ونشرها على الصفحة الأولى فتقول : (فليخرج السنغال ، وليبق الفرنسيون! )4.
أما التعليق الأخير ، فأنا دون حرج ، مثل بطل "جورج أورويل" الأستاذ الفاضل الحمار "بنيامين" آنف الذكر ، أقول بتأملٍ وبهدوءٍ وتأنٍ تام ، أن أوضاعنا الحالية الشائكة في سورية تقتضي قبولكم بـ (تحشيشتي وليس تجحيشتي ) المُقترحة ، على أن تضيف حكومتنا المجيدة الحشيش المدعوم على بطاقة المحروقات الذكية ومخصصات البنزين ، وستكون تحشيشتي مختلفة عن تجحيشتي الشيخ والصحافي الإثنتين ، ومختلفة عن رغبة "فاطمة" بطرد السنغال ، إذ يرى جنابي أن يتناول كل سوري نَفَسين من سيكارة الحشيشة ، لنطالب جميعاً بعودة السنغاليين للشام ومساعدتنا في الخروج من مأزقنا الطاقوي والمعيشي التاريخي ، وإلا طردناهم من كأس العالم الذي سنستضيفه عام 3022 م.
معلومات حَمِيرية وجَحِيشية :
- اليوم العالمى للحمار هو يوم 8 أيار/ مايو ، فاستعدوا له .
- عدد الحمير في العالم غير معروف تماما ، والتقدير الإحصائي للأمم المتحدة يعترف بوجود حوالي 45 مليون حماراً، منهم 11 مليون في الصين يقودون الثورة التقنية للجيل الرقمي الخامس 5G ، وحبذا لو استعرنا منهم شوية حمير لتنشيط التهريب من لبنان إلى مضايا ، لأن البغال لم تعد تتقن وظيفتها .
- ووفقاً لإحصائيات منظمة "الفاو" FAOعام 2006 ، يوجد في قارة آسيا 37 % من حمير العالم ، وفي إفريقيا 27 %، وفي أمريكا الجنوبية والكاريبى 20 %، وفي الشرق الأوسط والأدنى 12%،وفي أوروبا والقوقاز 4%، وأقل من 0.1 % في أمريكا الشمالية.
- وعثرت على معلومة تثبت علو وأقدمية مرتبة الحمار على الحصان كما ذكر " توينبي" . فكلمة (هور) باللغة المصرية القديمة تعني (جبل)، وكلمة (آس) تعني (حمار) ما غيره ، وبدمجهما معاً تصبح التسمية (هورآس) ، أي (حمار الجبل) ، أو (الحصان) ما غيره ! وتلطش اللغة الإنكليزية هذه التسمية وتكتبه (هورس/Horse ) ، دون الإشارة إلى أن أصل التسمية تعزى لوصف الإله (حورس) المصري ، أي أن الحصان استعار اسمه من سيده الحمار . وقد لا تعثرون على هذه المعلومة عند عمنا الكبير"غوغل" .5
- يقول "الأبشيهي" : معروفٌ ليس في الحيوان من ينزو على غير جنسه إلا هو والفرس .
المراجع:
1- الأبشيهي ، المستطرف، تحقيق درويش الجويدي ،المكتبة العصرية صيدا/بيروت،ط 2000م الثانية ، الباب 62 ص184 .
2- خيري الذهبي ، لو لم يكن اسمها فاطمة ،دار ممدوح عدوان ودار سرد ، ط 2020 ، ص 120 .
3- المرجع السابق ، ص 121.
4- المرجع السابق ، ص 157 .
5- مانيتون السمنودي، الجبتانا .. أسفار التكوين المصرية ، تحقيق علي علي الألفي ،روافد للنشر والتوزيع ،ط 2010 ، الصفحات 213-215 .
إضافة تعليق جديد