حامل الهوى تعب.. ممدوح عدوان في ذكرى الرحيل
عماد عبيد:
في مثل هذا اليوم ترجل واحد من أعتى الرسل اللادينيين، وترك طيفه جوالا ينهر عنا كوابيس الخوف ويكنس غبار العتمة عن مرايانا الموحشة.
خيّل فوق صهوة الفكر والأدب، ونسج جلبابه من كبب الضوء، ترك مطاياه تخبُّ في البراري الموحشة، ثم حثّها لترقل في الشعاب الوعرة، جال السفر في أقانيم الحبر مسكونا بلهفة جامحة، تواقا إلى طراد محموم أرعن الصهيل، يتآلف فيه مزاج الفارس الحالم مع نزق الفرس الحرون، طائفا على مرافئ الأدب وشطآن الثقافة، بعد أن راوغته مناراتها بالوميض هنا واللمعان هناك، ليترك شراعه قلقا تراقصه ريح مشبوبة الشبق، فلا يرسو على يقين ولا يستتب إلى شك، يمارس خياله عصفا مستمرا متكئا على جوع مزمن، استولد منه نهم البحث والاطلاع، سابرا أغوار البيان، باحثا عن كنوز الحقيقة، جامعا منها قطافا يانعا، فيعيد طحنه وعجنه وخبزه وفق مذاقه الفريد، ليطبع وشما على خارطة الثقافة، ويرسم علامة في تضاريس المشهد الأدبي.
ممدوح عدوان، هذا البدوي الأخضر العينين، الأبيض البشرة، الأسمر الانتماء، القزحي الهوى، المعطر بالأصالة، والمستحم بالندى، قضى عمره فوق صواهل الأدب، اختار مهاره السبوق بعناية سائس حاذق، ومغامر ماكر، وادخرها للمضامير الصعبة، مزودا إياها بذخيرة من مكنوناته الجوانية، تاركا لكل نزال مهر رهان موشوم بالخاتم العدواني الجارح.
استاف خمرة الشعر حتى انتشى بقشعريرة اللذة، وجاس في واحة الفكر فاعتصر خلاصة رحيقها، تشط به رغبة ذهبية المنى في أن يكون .. ولا بد أن يكون..!!
بين عام 1941و 19- 12- 2004 عمر قصير السنوات، طويل الحضور، غني الثروة، أليس هو القائل ؟:
إننا ننهض عن مائدة العمر ولم نشبع
تركنا فوقها منسف أحلام
نحن أكملنا مدار العمر فرسانا
وقد متنا شبابا
ولد ممدوح عدوان في بلدة قيرون من قضاء مصياف عام 1941، وتلقى تعليمه بين مدارس مصياف وحماة وحمص، ثم انتسب إلى كلية الآداب بجامعة دمشق، قسم اللغة الإنكليزية، وتخرج منها عام 1966.
بدأ حياته الأدبية متسكعا على رصيف الثقافة والصحافة الأدبية، وبعد أن اطلع على مجلتي شعر والآداب، اللتين كان لهما دورا تلمس من خلاله نهج الحداثة الشعرية والنزاعات المتعلقة بهذا الفن الجديد، كما تساكن مع صديقه الشاعر علي كنعان الذي علمه وحدة التفعيلة بدلا من وحدة البيت، في تلك الفترة نشرت له مجلة (الآداب) قصيدة بعنوان (لقيطان) وهي مهداة إلى صديقه علي كنعان، صديق البؤس والحرمان والتشرد، وكانت باكورة الغيث لنهر دافق.
وهكذا بدأت الجذوة تعس الدفء في خاصرة الكلام وتتأجج رويدا رويدا، ما لبثت أن أشعلت حطبا من الطاقات المتفجرة لفح لهيبها ساحات الثقافة وحاراتها وأزقتها، بدأ في الصحافة الأدبية وما أن توهجت قريحته حتى حجز كرسيه هناك، ثم ركب بساط الشعر وحلق بين فجاج الغيم جاعلا من هذا الفضاء مجاله الحيوي، كما دلق خمرته على خشبة المسرح فأسكر الجمهور، وفي الفكر نسج عباءة مختلفة عن نهج السالفين، منتقلا إلى القصة والرواية ليفرغ أحماله التي عجز عن طرحها شعرا ومسرحا، ليستريح في عالم المونودراما والسيناريست ويكون واحدا من مؤسسي هذا الفن في سوريا، ثم نراه يتحول إلى ربان حاذق في عالم الترجمة، فترجم أعمالا شهيرة كانت الأجمل حتى أنها بزت الأعمال الأصلية التي ترجمت عنها.
نكاد لا نغالي إذا قلنا إن ممدوح عدوان مبدعا شاملا، فبحدود علمي لم يسبق لمبدع موهوب (عربيا وعالميا) أن استطاع أن يتنقل بين الشعر والقصة والرواية والمسرح والسيناريو والمقال والترجمة والكتابة الفكرية، تاركا بصمات واضحة وأعمالا شاهدة كمّاً وكيفاً في كل لون من هذه الألوان، كما فعل ممدوح عدوان رغم ضعف إمكانياته المادية ومحاربته من الوسط الثقافي والسياسي الذي كان يخشى من جرأته وسطوة قلمه.
المعروف عن ممدوح عدوان أنه لم ينتم إلى مدرسة سياسية بعينها، (لكنه في مقابلة يتيمة مع الشاعر علي سفر يصرح ممدوح أنه انتمى إلى حزب البعث في بداية الستينيات وتركه بعد نكسة حزيران، ثم انضوى في العمل الفدائي) غير أنه بقي مختلفا منفردا متميزا، ولعل الحزب الأساسي الذي حفل بنشاط ممدوح، بل أسسه، هو (حزب الجوع) كما تصفه الأديبة نهلة كامل في كتابها (ممدوح عدوان – الفارس الخاسر، وهو الذي كتب أكثر من عمل أدبي برزت فيه ثيمة الجوع ملحاحة لتظهر مآسي الحياة وتوحشها، من (قصيدته الجوع يسرق المدينة وليس انتهاء بمسرحية سفر برلك).
حمل الهم القومي والوطني وقضية فلسطين لتوسم كتاباته بهذا اللون، حتى لقبه البعض (بالسوري الفلسطيني) وهو الذي اعترف أنه مطبوخ بالهم الفلسطيني، وفي التكوين العام لشخصيته نجدها شخصية إشكالية، جامحة، مشاغبة، جريئة، مثقفة، متمردة، يقول عن نفسه (أنا بوهيمي المزاج) ولعل زاده الأهم هو تلك الحصيلة الفكرية والمعرفية التي تزود بها فقد كان مطلعا على الثقافة العربية قديمها وحديثها، كما اطلع على الثقافة الأجنبية وقرأها بلغتها الأم وتأثر بها، وقد تأثر بكزنتزاكي أثناء ترجمته لسيرته الذاتية (تقرير إلى كريكو)
يشاع عن ممدوح أنه مثقف ماجن، وزير نساء، معاقر للخمر، متسكع في شارع الثقافة، طويل اللسان، لاذع النقد، ساخر من الآخرين، وهذه الإشاعة مجحفة ومجانبة للصواب، فمن يقضي وقته في القراءة والكتابة والاطلاع ويترك لنا هذا الإرث الوفير من المؤلفات، لا يمكن أن يكون لاهيا، كان الوقت لديه ثمينا، ومدروسا حتى أنه كتب مقالة بعنوان (اليوم سبعون ساعة) متمنيا أن يكون كذلك كي ينجز ما يريد، فضلا عن تبجيله للثقافة والإبداع والمبدعين، ومن يقرأ كتابيه (دعوة إلى الجنون و جنون آخر) يلاحظ مدى دفاعه واحترامه للكثير من القيم والأفكار والأدباء حتى المغمورين منهم، أما عشقه للمرأة فيراه عشقا ندّيا، فهي عنده ليست متاعا، يحب فيها الثقافة والجرأة والحرية والجمال، والحب في مذهبه ليس نزوة أو غزوة، هو الحب بمفهومه الشامل حيث كرسه للحياة والوطن والقضية والإنسان والأم والحبيبة، فعشقهم جميعا لذلك قلت عنه (حامل الهوى تعب)، والجدير بالذكر أن ممدوح عاش قصة حب مع ابنة عمه إلهام وتزوجها.
في الغوص إلى عالم ممدوح الشعري، نجد أنه كتب نصوصه عن الحب والثورة والغضب والحياة والانتماء والسلام، ويعتبر من مؤسسي تيار الحداثة الشعرية في سورية، فشعره رسالة مرهونة لخدمة القضية حافظ فيها على جمالية الأدب والفن، حيث تبرز الشعرية العالية لديه في دواوينه الناضجة، وأخص منها (يألفونك فانفر) (الليل الذي يسكنني) (تلويحة الأيدي المتعبة) كما برع في الوصف الشعري والتصوير الفني متكئا على لغة ماتعة، ناهلا من الأسطورة إشارات إسقاطية باهرة، موظفا الرمز للارتقاء بالفكرة، ومشتغلا على تقنية الانزياح الشعري في تحميل المعنى دلالات خارجة عن حرفية المقصد، وهو الذي ترك لنا قرابة عشرين مجموعة شعرية ابتدأها بديوانه (الظل الأخضر) مرورا بـ (أقبل الزمن المستحيل ـ لا بد من التفاصيل ـ الدماء تدق النوافذ ـ يألفونك فانفر ـ أمي تطارد قاتلها ـ الليل الذي يسكنني ـ الخوف كل الزمان ـ وهذا أنا أيضا ـ أبدا إلى المنافي ـ لا دروب إلى روما ـ للريح ذاكرة ولي ـ وعليك تتكئ الحياة( وانتهاء بديوانه (كتابة الموت)
اختبر نجاحه مبكرا حين شارك في مهرجان بغداد الشعري عام 1969، فكان قبله الجواهري، وبعده نزار قباني، وأستطاع أن يثبت حضوره لينطلق بجرأة الواثق.
تباين شعره بين الشعر السردي التقريري المحافظ على رتم الوزن والموسيقى والقافية أحيانا، والشعر الرمزي المستتر بثوب الغموض والمنفلت من عقال القافية الجرسية الإيقاع، لكن الغموض مذهب عرف به شعر ممدوح، وهو الذي يقول عن ذلك:
(الغموض صفة الجمال، وكل جمال هو غامض، لكن تعمد الغموض يفسد الشعر، فالفن الجيد لم يعد يجدي أن تتلقاه وأنت مسترخ، الفن الجيد هو الذي يؤنب الذهن ويوقظ في النفس الأسئلة(
من شعره الرمزي نقرأ في ديوانه (يألفونك فانفر) مقطعا من قصيدة (العياذ بالجراح)
يألفونك
فانفر
إلى وطن قد يهاجر فيك
وينسى تغربه
ثم تذوي
كأنك شلت الثرى مرضا
كنت تخضرُّ بالحزن
تقوى كعاصفة
قل: أعوذ بما ظلَّ فيَّ
إلى ألمٍ
كنت فيه الربابة والجرح.
بينما نجده ينساب طربا في قصيدة بعنوان (مصياف) من ديوانه (للريح ذاكرة ولي) فيقول:
الأهل في مصياف ... والروح تواقة
يا ليتني صفصاف .. أو زهر دراقة
لأبل حلقي الجاف ...في نبع ورّاقة
تتجمع الأطياف .. في الريح كالباقة
والريح في التطواف ... للدمع سباقة
وفي القصيدة نفسها يعود لنهجه الشعري في الالتفات على المباشرة والجنوح إلى الرمز.
كتب ممدوح عدوان في المسرح والمونودراما نصوصا رقشت بصمتها في المشهد المسرحي السوري، لا يزال يذكرها القراء والمشاهدون على السواء، منها (القيامة ـ الزبال ـ الوحوش لا تغني ـ حال الدنيا ـ الميراث ـ الخدامة ـ محاكمة الرجل الذي لم يحارب ـ حكي القرايا وحكي السرايا ـ حكايات المملوك ـ آكلة لحوم البشر ـ سفر برلك ـ ليل العبيد ـ الفارسة والشاعر ـ هملت يستيقظ متأخرا ـ جمال باشا السفاح ـ الغول ـ القبض على طريف الحادي ـ زيارة الملكة ـ زنوبيا تندحر غدا ـ المخاض)
في الرواية له رواية (أعدائي) وفي القصة مجموعة بعنوان (الأبتر)
في فن السيناريست كتب مجموعة من الأعمال تأليفا وحوارا وسيناريو أهمها (دائرة النار ـ صور اجتماعية ـ شبكة العنكبوت ـ ليل الخائفين ـ قصة حب عادية جدا ـ اختفاء رجل ـ جريمة في الذاكرة) وتوج مسيرته بعملين ضخمين بارزين هما (الزير سالم ـ والمتنبي) كما أنجز روايته أعدائي لتكون عملا تلفزيونيا قبل وفاته، ومازالت قيد الانتظار.
أما ممدوح عدوان المترجم، فهو مبدع آخر استطاع بقريحته الأدبية وثقافته الشاملة ولغته السامقة أن يترجم للغة العربية ترجمات بالغة البيان والجمال، أهم أعماله في هذا المجال (مذكرات كزانتزاكي ـ جزءان ـ تلفيق إسرائيل التوراتية لكيت وايتلام ـ بيمناهن ويسراهن لبثينة شعبان ـ سد هارتا ـ رحلة إلى الشرق ـ دميان ـ لهرمان هسة ـ هاملت لشكسبير ـ والإلياذة لهوميروس) كما ترجم من العربية إلى الانكليزية العديد من المؤلفات منها مجموعات شعرية وقصصية وكتابات سياسية وفكرية، لينقل للقارئ الغربي بعضا من الثقافة العربية، وتعتبر ترجمته للإلياذة أهم ترجمة قُدمت للعربية، بعد أن قرأ جميع الترجمات السابقة، والترجمات الإنكليزية من اللغة اليونانية الأم، واستطاع بما يملكه من موهبة شعرية أن يوظفها في صياغة النصوص الشعرية، مقدما خيانة للنص ولا أجمل دون المساس بقدسية الفكرة، لتكون الترجمة الأهم لهذا العمل الملحمي.
ويبقى ممدوح عدوان الإنسان والمفكر طاغيا في حضوره، فهو الصحفي الذي ملأت مقالاته الدوريات السورية والعربية، وقد ضمّن كتابيه (دعوة إلى الجنون وجنون آخر) بعضا من مقالاته المنشورة ومقالات أخرى مطولة تكشف عن فكر وفلسفة متجاوزة للقار والمألوف، وكتب مؤلفه (حيوَنَة الإنسان) ومؤلفه (نحن دون كيشوت) حيث تعامل مع دون كيشوت وصاحبه سانشو برؤية مغايرة لما كتب سرفانتس وكتابه (لو كنت فلسطينيا) ومؤلفه النقدي (ظواهر أسلوبية في الشعر)
هذا هو ممدوح عدوان، المسافر نحو القلق، المتعجل إلى الحياة، الهازئ بالموت، نفر حين ألفناه، وترك خلفه ودائع زاخرة تفيض بالمعرفة والثقافة والفن الرفيع ... شابا ترجل الفارس وهاهي قطعانه تجوب المراعي، مكنوزة بإرثه الثمين، أكثر من ثمانين عملا إبداعيا خلفها هذا المغامر الريفي، وبقيت تركته مشاعا لمن أراد أن ينهب غلالا شهية.
افتقدته الساحة الأدبية في العالم العربي عموما وفي سوريا خصوصا، مخلفا فراغا واضحا ليخلد كواحد من أعلام المشهد الثقافي العربي بامتياز، ولا غرابة أن تصدر وزارة الثقافة كتابا ضخما عنه بعنوان (ممدوح عدوان – زوربا العربي) يحتوي على عشرات المقالات والشهادات بهذه القامة الاستثنائية.
رثاه أصحابه بكلام يهز النفوس ويوقظ المشاعر، وها هو الشاعر مظفر النواب يقول فيه (قليل من الناس من يترك في كل شيءٍ مذاقاً، وممدوح عدوان واحد من هذا القليل فهو الشاعر والكاتب المسرحي والكاتب الدرامي والصحفي.. والمترجم.. والمثقف الصاخب، الحاضر دائماً بحيوية يُحسد عليها وفي كل هذا وذاك هو ممدوح – الإنسان الذي يترك نكهته بكل ما تلمسه أصابعه، وبغض النظر عمّن يقف إلى جانبه أو ينتقده، فالكل يسلّم له هذا الحضور الإبداعي والثقافي المشّع الذي امتلأ عبر السنين ألواناً وتنوّعاً، وخبرةً، وعمقاً، حتى بات واحداً من أعلام المشهد الثقافي السوري)
أما الشاعر اليمني عبد العزيز المقالح فيفتقده بقوله (قد كان ممدوح شاعراً مبدعاً، وناقداً متمكناً يراجع الأعمال الأدبية بعين ورؤية ثاقبتين كما كان مترجماً رائعاً تقرأ ترجماته وكأنك تقرأ عملاً إبداعياً يضارع النص الأصلي وقد يتفوق عليه)
بكاه صديقه ورفيقه محمود درويش ورثاه بنثرية صاخبة تضج صدقا وحنينا، كأن الحياة اقتلعته من قلبه، وأقتطف هذا الجزء من مرثية محمود لممدوح:
(ممدوح.. ماذا فعلت بك وبنا .. فلم نعد نحزن من تساقط شعرك المبلل بالزيت، فإنك تستعيده الآن من عشب الأرض.. ولكن في أية ريح أخفيت عنا سعالك، فلم يعد في غيابك متسع لغياب آخر.. لا لأن حروف اسمك هي حروف اسمي.. لا أتبين من منا هو الغائب.. بل لأن الحياة التي آلفت بين ثعلبين ماكرين لم تمنحنا الوقت الكافي لنقول لها كم أحببناها.. فتركت ثعلباً منا بلا صاحب، ممدوح، يا صديقي، لماذا كما يفعل الطرخون خانك وخاننا قلبك؟ لماذا لم تعلم كم نحبك؟ لماذا تمضي وتتركني ناقصاً؟ لماذا… لماذا؟)
وأخيراً رقص ممدوح عدوان رقصته الأخيرة مع الموت، محلقاً إلى عوالم الما وراء، وانطفأت شعلة ألهبت والتهبت في 19/12/2004 عن عمر ناهز الثالثة والستين، بعد صراع مع مرض عضال، تعامل معه ممدوح بجرأة ومكر ودهاء، فبقي يكتب ويقرأ حتى اللحظات الأخيرة، وها هي ذكراه تطل علينا بقوة وحضور طاغيين لما له من مكانة، وما خلف من إرث ثمين.
إضافة تعليق جديد