رحيل الشاعر الألماني الغاضب إنتسنسبرغر
ترجمة: سمير جريس
قبل نحو أسبوعين أتمّ المفكر والشاعر الألماني إنتسنسبرغر الثالثة والتسعين، غير أنه كان في ما يبدو، سئم تكاليف الحياة، وآثر الرحيل بعد أن توارى عن الناس في السنوات الأخيرة، وهو الذي كان طوال عقود ملء السمع والبصر.
منذ الستينيات بدا هانز ماغنوس إنتسنبرغر (11/11/1929 – 24/11/2022) واحداً من أبرز المثقفين في ألمانيا وأشهرهم عالميا، وأحد أكثرهم تأثيراً في المجتمع الألماني الغربي، إلى جانب الروائي غونتر غراس والكاتب ألكسندر كلوغه والفيلسوف يورغن هابرماس.
ترك إنتسنسبرغر تراثاً ضخماً ومتنوعاً يزيد عن سبعين كتاباً، فقد كان شاعراً، وكاتب مقالة، وروائياً، ومؤلف قصص للأطفال والشبيبة، وناشراً، وكان أيضا مترجماً يجيد أربع لغات، ترجم أعمالاً لشكسبير وفلوبير وبابلو نيرودا وموليير وأنطوان دو سانت أكزوبيري وتشارلز سيميك وسواهم.
كان المفكر من أبرز أعضاء المجموعة الأدبية الأسطورية "مجموعة 47" التي تأسست بعد الحرب العالمية الثانية، وضمت أدباء شباناً سرعان ما أضحوا نجوم الأدب الألماني في العقود اللاحقة، مثل غونتر غراس، وهاينريش بُل، وباول تسيلان، وإنغبورغ باخمان، وماكس فريش. وفي عمر الثالثة والثلاثين حصل إنتسنسبرغر على أرفع الجوائز الأدبية في المنطقة الألمانية وهي جائزة بوشنر، فكان أصغر فائز بها حتى ذلك العام. وبعد عشر سنوات حصل عليها بيتر هاندكه في الحادية والثلاثين من عمره.
بعد أن نال الدكتوراه برسالة عن الكاتب الألماني الرومانسي كليمنس برنتانو، عمل إنتسنسبرغر محرراً إذاعياً، ومحرراً في أشهر دور الأدب الألمانية، دار زوركامب. وإلى ذلك كان يكتب المقالات النقدية، وسرعان ما حاز لقب "الطفل المشاكس" في الأدب الألماني. وعندما أصدر عام 1957 ديوانه الشهير "دفاعاً عن الذئاب في مواجهة الحملان"، احتفى به النقاد، ومنهم الناقد الشهير آنذاك ألفريد أندريش الذي وصفه ب"الشاب الغاضب" وأعتبر أنه يتميز بشيء فريد بين زملائه الألمان، وهو الخفة في الكتابة، وقال إنه يكتب مثلما يؤلف موتسارت موسيقاه. إتسمت لغته آنذاك بالبرودة والحداثة، على عكس لغة كثيرين، ومنهم أستاذه الفيلسوف مارتن هايدغر الذي كان يتردد على محاضراته عندما كان طالباً في فرايبورغ.
دفاعاً عن الذئاب
في هذه القصيدة الشهيرة هاجم إنتسنسبرغر ضحايا القمع والظلم والاستغلال لأنهم خانعون، ضعفاء، أذلاء: "انظروا في المرآة: جبناء أنتم، / انظروا في المرآة: جبناء أنتم، / تتهربون من أعباء الحقيقة / تنفرون من التعلم، / تلقون بمسؤولية التفكير على عاتق الذئاب / أي حيلة تنطلي عليكم، وتقبلون / كل عزاء رخيص، وكل ابتزاز لكم / هو أقل مما يجب".
ويختتم الشاعر قصيدته بتمجيد الذئاب قائلا: "المجد للصوص، إنكم / ترحبون باغتصابكم، / تتمرغون على فراش الكسل، / والطاعة، ثم تولولون / وتكذبون، إنكم / تشتهون مَن يمزق لحمكم، أنتم / لن تغيروا العالم.
كانت قصائد إنتسنسبرغر بمثابة نقطة تحول في مسيرة الشعر الألماني. فبعد أن كان غوتفريد بن هو المثال للشعراء الشبان، جاء إنتسنسبرغر من معطف الشاعر اليساري بريشت. إعتبره النقاد رائداً لما سمُي "شعر الاستهلاك"، أي الشعر الذي يقترب من الحياة اليومية بأشيائها الزائلة، ويبتعد عن القضايا الكلية والمشاعر السامية. يقول إنتسنسبرغر:
"بمقدور القصائد أن تقدم اقتراحات، أن تحرض الناس على العصيان، أن تحلل وتشتم وتستميل وتعرض وتحتفي وتسأل وتستجوب وتُنظم وتبحث وتبالغ وتهدر بالقهقهات".
لم ينشر إنتسنسبرغر قصائد كثيرة، كما أنه لم يقتصر في نشاطه الإبداعي على الشعر، إذ إنه تحول في الستينيات إلى كتابة المقالات النقدية التي أثارت دوماً اهتمام الرأي العام، ومنها مقالاته الشهيرة التي صدرت بعد ذلك في كتاب بعنوان "صناعة الوعي"، وفيها تناول بالتحليل والنقد، لغة الصحيفة المشهورة "فرانكفورتر ألغماينه" ومجلة "دير شبيغل". وفي عام 1962 أصدر كتابه "تفاصيل"، وفيه لم يتناول بالتحليل أعمال بروست وجويس فحسب، بل كتب أيضاً عن الشركات السياحية الألمانية، إذ إن اهتمامه في تلك الفترة كان منصباً على المجتمع الاستهلاكي والإعلامي.
قام إنتسنسبرغر خلال حياته برحلات شملت معظم بلاد العالم، فسافر عام 1957 إلى الولايات المتحدة والمكسيك، وأقام عامين في النرويج ثم عاماً في إيطاليا، وعمل أستاذاً جامعياً في فرانكفورت، ثم قام برحلة إلى الإتحاد السوفياتي، وبعدها عمل أستاذاً زائراً في الولايات المتحدة، غير أنه لم يتم فترة عقده، وعاد إلى ألمانيا، وكتب عن الولايات المتحدة منتقداً: "إنني أعتبر الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة الأميركية والحكومة التي تسيّر أعمال تلك الطبقة، خطراً على العالم لأن هدفهما السيطرة عليه: سياسياً واقتصادياً وعسكرياً".
وبعد أن قطع رحلته في الولايات المتحدة سافر إنتسنسبرغر إلى الشرق الأوسط، ثم إلى كوبا (1968/1969)، والرحلة الأخيرة تركت أثراً عميقاً عليه، فهناك عايش عن قرب الهوة العميقة التي تفصل بين الواقع الشيوعي المزري، والمثال الإشتراكي الجميل، ومع ذلك منع نفسه عن الكتابة حول تلك الأوضاع المتردية حتى "لا يجهض الحركة الطالبية في ألمانيا"، وهو نموذج لما أسماه الشاعر فيما بعد "الرقابة الذاتية لليساريين".
في السبعينيات كتب الشاعر قصائد تتمحور حول فكرة التقدم، مثل "الضريح – 37 غنائية من تاريخ التقدم"، و"غرق التيتانيك". وإلى جانب دوره الشعري والسياسي النقدي، قام إنتسنسبرغر بدور كبير في الترجمة والنشر، فأصدر عام 1960 مجموعة بعنوان "متحف الشعر الحديث" ضمت أشعاراً من ست عشرة لغة، وكان لها أثر كبير على الشعراء الشبان في تعريفهم باتجاهات الشعر الحديث في العالم. كما أنه كان المسؤول عن سلسلة شهيرة بعنوان "المكتبة الأخرى" التي تأسست في الثمانينيات، واعتمدت مقاييس غير تجارية في الاختيار والنشر.
الخاسر الراديكالي
اقترب إنتسنسبرغر من العالم العربي عبر رحلاته، وعبر قراءاته. وقد التقى به عديد من المثقفين العرب في أنشطة ألمانية أُقيمت بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001. وأتذكر أنني التقيته في برلين في إحدى الأمسيات الشعرية، التي ضمت أيضاً محمود درويش ووديع سعادة وعبده وازن وأمل الجبوري. وأجريت معه حواراً إذاعياً قصيراً، ولفتت نظري آنذاك حيويته ولمعان عينيه وذكاؤه، وأنه كان يسأل ويصغي أكثر مما يتكلم، وإذا تكلم، قال جملا قصيرة ذكية، مدهشة في تركيزها.
وفي عام 2006 أصدر كتاباً صغيراً بعنوان "رجال الرعب"، حاول فيه فهم نفسية ما أطلق عليه "الخاسر الراديكالي"، سواء كان شخصاً مختلاً نفسياً يقوم بإطلاق النار عشوائياً على مَن حوله، أو "متطرفاً إرهابياً" يفجر نفسه ومن حوله لأسباب سياسية في الغالب. رأى إنتسنسبرغر أن النظام الرأسمالي الحالي في العالم يؤدي إلى زيادة عدد الخاسرين يوماً بعد يوم، إذ إنه أيقظ توقعات بالمساواة بين البشر لم يستطع أن يلبيها. والخطورة - في رأي إنتسنسبرغر - ليست في حالة الخاسر الراديكالي الفرد، بل عندما يجد وطناً من الخاسرين، مجتمعاً من أمثاله يرحب به ويحتاج إليه. عندئذ تتراكم الطاقة الهدامة الكامنة فيه، ولا يتورع عن فعل أي شيء؛ عندئذ تتحد شهوة الموت بجنون العظمة، ولا ينقذه من شعوره بفقدان الوعي سوى شعور كارثي بالتحكم في مصائر الآخرين. ولكن الخاسر يظل محتاجاً إلى نوع من الأيديولوجية التي "تشعل فتيله"، وتجعله ينفجر. ويقارن إنتسنسبرغر بين سمات "الخاسر الراديكالي" وسمات قادة النازية في ألمانيا، ويقول إنّ في نهاية حقبة "جمهورية فايمر" اعتبرت قطاعات عريضة من الشعب الألماني نفسها خاسرة. موضوعياً لم يكن ذلك صحيحاً، كما أن الأزمة الاقتصادية وحدها لم تكن كافية للإتيان بهتلر على قمة هرم السلطة. كان لا بد من بروباغندا تجيد توظيف تلك الإهانة النرجسية التي تولدت لدى الشعب عقب هزيمة عام 1918 واتفاقية فرساي.
في كتابه اعتبر إنتسنسبرغر العالمَ العربي منطقة تفريخ للخاسرين، وتساءل: كيف وصلت الحضارة العربية إلى هذه الدرجة من الانحطاط بعد فترة الازدهار التي بلغت ذروتها قبل ثمانية قرون؟ ذكرى ذلك المجد التليد تحولت لدى عديدين إلى يوتوبيا ذهبية، عندما يتذكرونها يشعرون بالحسرة لزوالها. وهذا "السقوط من علٍ" رآه المفكر تفسيراً لمحاولة المرء في العالم العربي البحث عن قوى خارجية وإلقاء الذنب عليها. وتساءل إنتسنسبرغر:
لماذا يختلف وضع الهنود والصينيين أو الكوريين عن العرب، رغم أنهم عانوا وطأة الغزاة والمحتلين والمستعمرين؟ لماذا نجحوا في مواجهة تحديات الحداثة، وأصبحوا فاعلين على الساحة الدولية؟ وقد امتلأ هذا الكتاب بالأحكام العامة، والخلط بين "الإسلام" و"المسلمين" و"الإسلامويين"، أو بين "العرب" و"المسلمين"، ولعله استشعر ذلك الخطأ، فكتب في إحدى فقرات الكتاب، وكأنه يعتذر عن كل تلك الأحكام العامة التي أصدرها: "إن أي حديث عن جماعة أو شعور جمعي لا بد من أن يكون عاما"ً. وأضاف: "ولسنا بحاجة إلى القول بأن المسلمين ليسوا كلهم عربا، وليس كل العرب خاسرين، وليس كل الخاسرين راديكاليين".
بالطبع لم يقصد إنتسنسبرغر بكتابه "رجال الرعب" أن يقدم دراسة تجيب على كل الأسئلة المتعلقة بالعمليات الانتحارية، وهو قد أثار أسئلة أكثر بكثير مما قدم من أجوبة.
وبالرغم من شهرته الكبيرة ألمانيا وعالميا، فإن إنتسنسبرغر مجهول في العالم العربي إلى حد كبير، ولم يترجم من أعماله سوى قصائد متفرقة، وديوان واحد عنوانه "روبرت الطائر"، ترجمه الشاعر والناشر خالد المعالي بالاشتراك مع الروائي والشاعر فاضل العزاوي (بيروت 2003). وليت الناشرين العرب يلتفتون إلى عمل إنتسنسبرغر الخصب المتنوع، أو إلى سيرته الذاتية التي صدرت عام 2018 بعنوان: "حفنة من النوادر".
قصيدة: دفاعا عن الذئاب في مواجهة الحملان
أعلى النسر أن يفترس الزهور؟
أو تطلبون من ابن آوى
أن يسلخ نفسه، ومن الذئب؟ أعليه
أن يخلع أسنانه بنفسه؟
ما الذي لا يعجبكم
في الحكام العسكريين وفي الباباوات،
ولماذا تحملقون ببلاهة
في الشاشات الكاذبة؟
من يخيط للجنرال
الشريط الدموي في سرواله؟ مَن
يقطّع الدجاج للمرابي؟
من يعلق بزهو الصليب الصفيحي
أمام البطن المزمجر؟ مَن
يأخذ البقشيش، القطعة الفضية،
والرشوة الصغيرة من أجل الصمت؟ هناك
الكثير من المسروقين، والقليل من اللصوص؛ مَن
مَن يصفق لهم إذاً، من
من يتحرق شوقا إلى الكذب؟
أنظروا في المرآة: جبناء أنتم،
تتهربون من أعباء الحقيقة،
تنفرون من التعلم،
تلقون بمسؤولية التفكير على عاتق الذئاب
الحلق في الأنف هو أثمن مجوهراتكم،
أي حيلة تنطلي عليكم، وتقبلون
كل عزاء رخيص، وكل ابتزاز لكم
هو أقل مما يجب.
أيها الحملان، إنكم تشبهون
الأخوات الناعقات:
كل منكم يخدع الآخر.
الأخوّة الحقة
سائدة بين الذئاب:
فهم يسيرون في قطعان.
المجد للصوص؛ إنكم
ترحبون باغتصابكم،
تتمرغون على فراش الكسل،
والطاعة، ثم تولولون
وتكذبون، إنكم
تشتهون مَن يمزق لحمكم، أنتم
لن تغيروا العالم.
إضافة تعليق جديد