الحداثة وتسارع الزمن
هارتموت روزا - ترجمة: كمال بومنير
لقد ظهرت مؤخرًا تجربةٌ جديدةٌ في أفق الحداثة La modernité تتمثل في الشعور-بل وفي الاقتناع الخاص- بأنّ الزمن في عصرنا هذا أصبح “مضطربا” وأنّ الأزمة التي تعرفها الحداثة مردها إلى “أزمة متعلقة بالزمن”. على هذا الأساس يتفق الدارسون والمهتمون بالحداثة على نمط التحوّل الذي عرفه مفهوم الزمن، حتى وإن لم يجمعوا فيما يخص تقييم هذه الظاهرة. والحقُ أنه منذ عام 1750 (أي منذ تلك الفترة التي وُصفت بما يُسمى في اللسان الألماني ﺑ Sattelzeit، وتعني–حرفيا- “لحظة تحوّل أو لحظة زمنية مفصلية”) التي تمت قبل ظهور الثورة الصناعية، وقبل قيام الثورة الفرنسية، حيث كانت هناك بعض الشهادات التي عبّرت في كثير من الأحيان عن ما يمكن أن نسميه ﺑ “الشعور بالتسارع الهائل للزمن ولحركة التاريخ”. والحقُ أنّ هذا الشعور كان قد تعزّز –بشكل خاص- بعد ظهور القطار، ثم تأكد أثناء الثورة الصناعية، نتيجة التجارب العملية واليومية العديدة التي عرفتها هذه الثورة. لهذا السبب، سيعرف تاريخ الحداثة موجات متتابعة من التشخيصات الجديدة التي ستؤكد وجود تسارع وتيرة الزمن على فيما يخص العديد من المستويات (أي وتيرة الحياة، العالم، المجتمع، التاريخ، والزمن نفسه). والحال، أنّ التجربة الأساسية التي ميّزت الحداثة هي الاعتقاد بأنّ “الأمور تجري بسرعة فائقة” وأنّ كل شيء في حركة دائمة، وبالتالي، أنّ المستقبل أمر مفتوح وغامض ولا يمكن التنبؤ به انطلاقا من الماضي والحاضر. ولكن ومع ذلك، فإنّ هذا لا يميز في حقيقة الأمر سوى جانب من الأغلبية الساحقة للتحاليل النقدية المعاصرة بخصوص الزمن. وبالتوازي مع ذلك، ظهر تحليل سوسيولوجي مخالف لهذه التحاليل كلها، يمكن أن نجد منطلقه لدى ماكس فيبر Max Weber وألكسندر كوجيف Alexandre Kojeve ، وهو تحليل قد اكتسى أهمية بالغة في الطور المتقدم للحداثة، الذي توطد في نهاية القرن العشرين. والحقُ أنه يتماشى -في الظاهر- مع واقع تجربة أغلبية المفكرين المعاصرين. تجدر الإشارة إلى أنّ الأمر هنا متعلق ﺑ” تبلور” ثقافي وبنيوي للعصر الراهن الذي أصبح بمثابة ” قفص فولاذي” Cage d’acier لا متحرك، لا يشهد أي تحوّل أساسي ولا يعرف أي جديد يذكر. انطلاقا من هذه النظرة الخاصة بالمجتمع الحديث، فإنّ ما أصبح يميّز عصرنا هذا يتمثل في ما يمكن أن نسميه “نهاية” الحركة، بحيث تنضب أو تضمحل القوى الطوباوية بسبب استغلال كل إمكانات الفكر. ويوشك في هذه الحالة أن يظهر ضجرٌ مخيفق خالٍ من كل حدث. لقد تمت صياغة هذه الأطروحة بشكل حافل في الخطابات ما بعد التاريخية وفي كتاب فرانسيس فوكوياما Francis Fukuyama الموسوم ﺑ “نهاية التاريخ” . ويمكن أن نجد هذه الأطروحة أيضا في تلك التعريفات السلبية للعصر من خلال كلمات مثل “البعد” و”ما بعد”، و”النهاية ” أو “نهاية العقل”، “نهاية الذات”، “نهاية القيم”، “نهاية التربية”، “نهاية السرديات”، “نهاية السياسة”، “نهاية التاريخ”، الخ. ويمكن القول بأنّ هذه التشخيصات الراهنة ليست بجديدة إلا بالمقارنة مع محاولات سابقة، لذلك فهي –بطبيعة الحال- تبدو ناقصة و”مبتورة”: إنها مجرّد معاينات لفترة تحولات ولكنها خالية من منظور “التجديد الثقافي”، وبالتالي، من تسلسل أو ترابط متسق ومتناسق بين الماضي والحاضر والمستقبل. هذا، ويمكن أن نلاحظ أنّ البنية المتناقضة ظاهريا لزمن الحداثة، ولما بعد الحداثة ليس فقط على مستوى زمن التاريخ وإنما بالنسبة إلى زمن الوجود الفردي والحياة اليومية. ليس من شك أنّ تاريخ الحداثة يزخر بالشكاوي المتكررة بخصوص “تسارع وتيرة الحياة”، بشكل مسعور، حيث أصبح هذا التسارع مسببا للعديد من الأمراض (الاجتماعية) ومصدرا للتهيجات الفائقة. لقد أصبحنا نشعر وكأنّ الحياة تمر بسرعة فائقة بالرغم من زيادة معدل الحياة في المجتمعات الغربية. ولذا فقد اتخذت تجربة “الزمن اللامتحرك” شكلا مرضيا دفعت الكثير من علماء النفس إلى الاعتقاد بأنّها مجرد رد فعل لضغوط التسارع المتتابع الذي لم تعد فيه الذاتُ قادرةً على تحمله. والحقُ أنّ الدراسات قد أثبتت أنّ هذه الظاهرة منتشرة –بشكل خاص- في المجتمعات الحديثة. ضمن هذا السياق يمكننا القول إنّ التحوّل المتسارع لشروط الحياة والمؤسسات والعلاقات، أو بعبارة أخرى، إنّ تسارع التغيّر الاجتماعي يجعل الأفراد أمام المشكلة التالية: يجب عليهم تخطيط حياتهم على المدى البعيد حتى يحققوا استقرارا زمنيا، غير أنه يتعذر عليهم –في الوقت نفسه-تحقيق هذا الإجراء العقلاني بسبب عرضية الشروط الاجتماعية المتزايدة. وليس من شك أنّ هذه الصعوبة المطروحة بحدة في زمن الحداثة المتأخرة لا تخص الفاعلين كأفراد فقط وإنما بالأحرى تخص المجتمع برمته، وقد تبيّن أنها تمثل المشكلة الأساسية ﻠ “زمننا الراهن”. ضمن هذا السياق، نستطيع أن نقول إنّه، ومن منظور الحياة اليومية للمجتمعات الحديثة، وكما يلحظ ذلك كل إنسان انطلاقا من تجربته الخاصة، يظهر الزمن بصورة مفارقة لأنّ تطبيق تقنيات تخطيط وتنظيم الزمن قد سمح باقتصاد الزمن أكثر فأكثر، ولكن وفي مقابل ذلك، “كلما ربحنا وقتا أكثر كلما افتقدناه بشكل أكثر” كما تقول الحكمة الشعبية المعروفة .
وسواء كان التسارع مجرد تحوّل زمني إيجابي أو سلبي، فإنه يتوقف في هذه الحالة -بطبيعة الحال- على أخذ بعين الاعتبار نتائجه. والحالُ أننا إذا نظرنا إلى الطابع المحدود للوجود الإنساني، بإمكاننا أن نفترض بأنّ تسارع العمليات “الموجّهة نحو غاية” (إنتاج الخيرات أو الأوضاع، نقل المعلومات، الخ) أمر مرغوب فيه. غير أنه، ومع ذلك، هناك خطر كبير يكمن بشكل أساسي في إمكانية إزاحة الطابع الزمني عن العمليات والأنساق والمنظورات نتيجة التسارع الأحادي الجانب. ومع ذلك، لا يبقى التسارع في مجال محدود من الحياة الاجتماعية مقبولا اجتماعيا إلا إذا كان بإمكان ” ترجمة” زيادة الوتيرة المناسبة له بدون حدوث صدامات كبيرة في الحدود البنيوية والثقافية المشتركة. والواقع أننا نجد في عدد متزايد من التشخيصات تلك الأطروحة –الضمنية أو الصريحة- التي مفادها القول بأنّ هذه ” الترجمة” و”إعادة اعتبار للطابع الزمني” قد أخذت طابعا إشكاليا في كثير من ميادين الحياة الاجتماعية. وفي حالة ما إذا أردنا إضفاء طابع نسقي على هذه التشخيصات سنجد –لا محالة- أن إزالة الطابع التزامني Désynchronisation متعلق –بطبيعة الحال- بالميادين الثلاثة للتطور التي يمكن أن نميّز بينها من الناحية التحليلية. هذا، وقد أشرنا سابقا، إلى أنه من الممكن أنّ تتطوّر من جهة، ولكن كل على حدة، نماذج ومنظورات زمنية نظامية ومؤسساتية ونماذج ومنظورات للفاعلين من جهة أخرى. وقد تختلف هذه النماذج كليا أثناء الهجرة أو تحوّل النسق مثلا، وبالتالي تزول تزامنية هاتين البنيتين الزمنيتين. هذا، وقد لاحظ غيورغ زيمل Georg Simmel أنّ الوتيرة المفروضة بهذه الكيفية بنيويا ومؤسساتيا يمكن أن تكون مرتفعة بالنسبة إلى الذات، أو على العكس من ذلك، قد تبدو لها ساكنة وجامدة. وعلى هذا الأساس، يمكن أن نعتبر التطورات البنيوية أو التحوّلات الثقافية السبب (الداخلي) لمثل هذا الفصل أو التفاوت الزمني. لذلك فقد تتم عملية إعادة الطابع التزامني لصالح جانب أو آخر: فإما أن يختار ويدمج الفاعلون توجهات زمنية جديدة أو يتغيّر النسق نفسه كما حدث مثلا في الأنظمة الاشتراكية التي كانت سائدة في أوربا الشرقية عندما تم استبدال البنيات الجامدة والمتصلبة بتدابير وترتيبات مخففة ومتحوّلة أو العكس. من المعلوم أنّ الكثير من علماء الاجتماع المعاصرين قد وجهوا العديد من الانتقادات لما يسمى بالعمليات النظامية التي يعرفها المجتمع الحديث، والتي أصبحت سريعة جدا بالنسبة إلى الأفراد. وفي مقابل ذلك يلام الفاعلون الاجتماعيون لجمودهم وميلهم إلى لين العيش وافتقادهم للمرونة، أو بعبارة أخرى، لقد أصبحوا متثاقلين بالنظر إلى متطلبات أو “مقتضيات الزمن”. والحقُ أنّ هذا اللوم يوجهه في أغلب الأحيان رؤساء المؤسسات الاقتصادية والاقتصاديون والمسئولون السياسيون، وهذا حينما يضطرون إلى الحديث عن العجز أو عن التوزيع السيئ للثروات (أو البطالة مثلا). وفي مقابل ذلك، نجد شكلا آخر من إزالة الطابع التزامني، وهو مكوّن من لا توافق متزايد بين الأفاق الزمنية الثلاثة التي توّجه الفاعلين (أي ما يتعلق بتفاوت أو تباعد منظورات زمن الحياة اليومية والزمن السيريّ Temps biographique والزمن التاريخي) في المجتمع الرأسمالي المعاصر، بحيث أنّ الطابع المتنافر أو غير المتوافق السائد في هذا المجتمع يجعل الأفراد يدركون “زمانهم” على المستويات الثلاثة التي أشرنا إليها سابقا، وكأنههم “مستلبين”. وبالتالي، يفقدون القدرة على دمج وجودهم الشخصي ضمن ماضٍ غني بالدلالات وبمستقبل حاملٍ للمعنى، يمكن أن يوجههم على المدى المتوسط نحو الفعل الذي يحقق لهم استقرارا نسبيا على الأقل. وليس من شك أنّ هذا الشكل من إزالة الطابع التزامني المتعلق بالفاعلين يمكن أن يكون نتيجة للشكل الأول الذي تحدثنا عنه سابقا. ويمكن أيضا أن يزول الطابع التزامني الموجود بين الأنساق الوظيفية والأنساق الاجتماعية الفرعية.
وهكذا، وحسب التشخيص الرائج في العلوم الاجتماعية، بل وحتى ما يتم تناوله في الصحف والخطب السياسية أيضا، فإنّه ليس من شك أنّ الحياة الاقتصادية والعلمية والتقنية ستسير بسرعة فائقة حتى تسمح بتسيير “سياسي” وتنظيم “قانوني” للتغيّرات الاجتماعية. والحالُ أنه لم يعد الاقتصاد والعلم والتقنية من جهة، والقانون والسياسية من جهة أخرى يسيران في الاتجاه نفسه و”يخطوان الخطوة نفسها”. بهذا، نستطيع القول بأنّ العديد من الدراسات السوسيولوجية أصبحت تميل إلى القول بوجود “قطيعة” فيما يخص تطور الحداثة، وهذا ما دفع أصحاب هذه الدراسات إلى وصف العصر الحالي ﺑ” الحداثة الثانية” أو “الحداثة التأملية” أو “الحداثة الليبرالية الموّسعة” أو “الحداثة المتأخرة” أو “ما بعد الحداثة”. بهذا الصدد، يجدر بنا أن نشير إلى وجود نقاش دائر الآن في ميدان العلوم الاجتماعية بخصوص مفهوم القطيعة التي أشرنا إليها سابقا؛ هل هذه القطيعة بنيوية أم ثقافية؟ متى وأين بدأت من الناحية التاريخية؟ هل تمثل بداية لعصر جديد؟ وإذا كان الأمر كذلك، متى بدأ هذا العصر؟ وهل يتعلق الأمر بقطيعة ضمن الحداثة نفسها أم قطيعة مع الحداثة؟
إضافة تعليق جديد