بديع جحجاح في: درويش من حبق
الجمل: صدر في دمشق كتاب "درويش من حبق" وهو كتالوك يشتمل على مجمل مشروع بديع جحجاح الفني في سورية وقدم له كوكبة من النقاد السوريين ليبدأ الكتاب بسيرة حياة الفنان كما يرويها هو حيث يقول:
لم أكن أعلم أن هناك عالماً خارج حدود منزلي الذي تربيّت فيه ولا ثقافةً أوسع مما يحيط بقريتي ولا مدينةً أبعد وأجمل من مدينتي.. فجأة استيقظت من الأنا الأسيرة، فركضت إلى أعلى التل المجاور، وقفزت إلى الغيم، لأهبط وأرتطم بأسفل الوادي، ثم أغرق في النهر الذي غسلني وأعادني طفلا لأكون هدية المحيط، وأولد من جديد بأجنحة وسعها الفضاء، فأصير كوناً..
بعد السيرة يفتتح بديع عالمه بالكشف عن رموز دوران (أفلا .. مشروع تفكير) : تستند رباعية أفلا على أربع آيات من القرآن الكريم، وتتماهى مع الإنجيل المقدس .. ويقول بديع أن مشروعه لايتكئ على الماورائيات، بقدر عنايته بقدرة العقل على اكتشاف أسرار الوجود لتحقيق طمأنينة روحيّة، تتطلع إلى متعة فكرية وبصرية باللون والخط، في كيمياء خاصة تبعث طاقة الحب المتجددة لدى المتلقي.
وتحت عنوان (التكوين) يعترف أنه لم يكن يدرك أن بحثه الفني عبر معرض (دوران أفلا .. مشروع تفكير)، سوف يقوده إلى نص تشكيلي عرفاني مغاير، سيجد تجلياته على نحوٍ أعمق في فضاء القرآن الكريم، خصوصاً لجهة لغز العلاقة بين الإنسان وخالقه حيث يتشكل رمز الجوهر من مجموعة أشكال تشبه أنصاف قلوب تتركب مع بعضها لتنتج شكل الدرويش بحالة الدوران يرفع يده اليمنى للأعلى ليأخذ الطاقة من الكون ويبذرها باليد اليسرى جهة القلب في كبد الأرض بعقل متصل عارف يذوب عشقا.
ويقول بديع أنه لم يكن يدري ان الدرويش الساكن بداخله قد أيقظته الحرب ومنذ ذلك الحين لم يتوقفا عن الدوران ..ويؤكد تأثره بشمس التبريزي وجلال الدين الرومي ورابعة العدوية وابن عربي والحلاج والنسيمي والنفري وأبي العلاء المعري وابن رشد ونوح.. والكثيرون من الذين أيقظتهم الحرب بداخله ليكونوا الجزء الأهم من وعي الدرب التي سلكها لإنقاذ روحه والسعي لنشر طاقة الروحانيات عبر الفن في المجتمع من خلال الكلمة الطيبة ودمج المعارف وتوحيد الطاقة وجعل الحرب كابوسا محتملا لن يدوم ومختبرا لإعادة تشكيل الوعي جهة الارتقاء بالانسان.
ويرى الفنان والناقد التشكيلي طلال معلا أن بديع يعتمد على روافد معرفية تراثية وطبيعية وعقائدية وصوفية للإجابة عبر الفن عن الكثير من التساؤلات العميقة لدى الآخر سواء تلك الوجودية أو الماورائية بصفاء جمالي متجدد يكشف عن أسلوبه في التعبير وطريقته في الإفصاح عن أسرار الإبداع وتجاوز الواقع النمطي وبما يمنحه المزيد من الحرية لتصور الكمال الذي يسعى إليه الفن.
ويقول الناقد سعد القاسم أن بديع بدأ مع تخرجه من كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق عام 1996 رحلة طموحة متعددة التوجهات، رحبة الأفق، مزج فيها بين دراسته التخصصية، وميوله الفنية الأولى، وسعيه لتقديم الجديد المبتكر في العلاقة بين الفن والجمهور، وبين مفاهيم العصر وإرث الماضي. وخاصة بين التصميم، أو الرمز الغرافيكي، واللوحة الفنية، ليقدم من خلال هذه الثنائيات رؤية خاصة تقدم نفسها بشكل جديد في كل تحول لها. وترتقي بتجربته التشكيلية إلى إدماجها مع الحرف واللحن والحركة والكلمة، متخطياً الخلاف القديم – الجديد عن أي أشكال التعبير أقرب إلى التشكيل: الأدب أم الموسيقا..
الناقد والروائي خليل صويلح يرى أن تجربة بديع جحجاح لا تنتمي إلى الحروفية على نحو صريح، بل تسعى إلى مقاربة روح الأيقونة الشرقية باستخدام العناصر نفسها، لكن من الضفة المقابلة. هذا اللجوء إلى الصوفية عبر اللون والخطوط الليّنة والإشارات التجريدية، يبدو خياراً مفتوحاً على مقترحات أخرى، ستجد طريقها إلى محترف هذا الفنان الذي يريد كسر الحواجز بين اللوحة والمتلقي عبر مخاطبته بمفردات الموروث الروحي للمنطقة، ذلك أنّ حركة الدرويش الراقص هي أيضاً محاولة لعناق الآخر بذراعين مفتوحتين.
الكاتب والناقد نبيل صالح يرى أن بديع جحجاح لم يتأثر كثيرا بالمدارس الأوروبية وأن همه تركز على إنتاج فن محلي يناسب الثقافة الشرقية والإسلامية خصوصا، فدخل من باب الصوفية معتمدا على الشعر الصوفي والنصوص المقدسة ورقص الدراويش ومفهوم الدوران والإنعتاق من الجسد للإتصال بالمطلق والتماهي مع وحدة الوجود.
ويرصد الفنان والناقد عمار زينب حسن تجربة بديع وهي تتحرك من لحظة الصفر إلى حالة من الاكتمال والنضج، تماما كما البذرة التي تضمر الشجرة فيها بالقوة، ثم تظهر بالفعل بظروف مؤاتيه، وهكذا يرى أن هذه الشجرة جاءت كنتيجة لتجربة، كان فيها بديع جحجاح النقطة أو البذرة، وعبر ظروف مؤاتيه بمعنى امتلاك مهارات فنية وعلى رأسها طاقة اللوغو كان لبديع أن يتحول فيها إلى شجرة تلقي مع الأيام ثمارها كنطف او بذار وعي وما أن تصادف ظرفاً مؤاتيا في عيون عشاق الدوران حتى تصبح المحبة موجودة بالفعل.
بينما ركز الأديب والناقد سامر محمد اسماعيل على تجربة صالة وغاليري ألف نون للفنون التي جاءت بمثابة المكان المستحيل على العنف وثقافة الظلام، فبعد جهود كبيرة ودقيقة قدمها الفنان بديع جحجاح انطلقت هذه الدارة في عز الحرب السورية، فكانت المكان الأكثر شجاعة في مجابهة خطاب الكراهية، والفسحة التي قدمت رؤيتها الكونية لمدينة مثل دمشق كانت وما زالت قاطرة الوعي العربي في الشرق القديم.
ويضيف سامر اسماعيل : أن هذا المحترف الفني الثقافي أطلقه الفنان بديع جحجاح دامجاً بين عدة مستويات من التلقي للوحة التشكيلية، وجنباً إلى جنب مع رقص المولوية والأناشيد الصوفية، خالصاً إلى صياغة سمعية بصرية للنصوص التي اشتقها من القرآن والإنجيل في آن معاً، فعبر رباعية "الإنسان، الضوء الحركة، الطاقة" كانت المغامرة الجديدة التي ضمنها بديع مناخات مغايرة نحو تحقيق لوحة حروفية ذات دلالات صوفية اقتبست حركة راقص المولوية للإطلالة على الدوخة السورية المعاصرة، ولتكون هذه اللوحة بمثابة احتجاج علني على العنف بكل أشكاله.
إضافة إلى الكتابات النقدية حول مجمل مشروع الفنان جحجاح الفني احتوى الكتاب على كم كبير من اللوحات والأعمال الفنية التي تشرح فكرة المشروع ورسالته السورية إلى العالم في 240 صفحة أشرفت دار دلمون الجديدة على طباعتها بشكل فني أنيق وتجدونه في جناح الدار بمعرض مكتبة الأسد الوطنية.
إضافة تعليق جديد