من حلم (العَوْلَمَة) إلى قفص ( الهَيْلَمَة) الجذر العميق للحرب الروسية الأوكرانية
الجمل - د.نزار العاني:
ما حدث ويحدث في العقود الخمسة الماضية غريب وعجيب ! وفي قراءاتي لكتاب "تاريخ البشرية" لأرنولد توينبي 1 ، وموسوعات أخرى مشابهة مثل "قصة الحضارة" لوِلْ ديورانت ، وغيرها من موسوعات تملأ رفوف مكتبتي ، أرى أن عصرنا هو عصر سقوط مريع لِبُنَى الأديان والفلسفة والفكر وتشظي الدول والمجتمعات .
السقوط والنهوض مسألة تتكرر عَبر الحقب والعصور ، ولم يَخلُ التاريخ أبداً كما يقول ابن خلدون من هذه الوتيرة . ويرى توينبي أن هذه الوتيرة تعطلت سنة 1897، وهي النقطة الزمنية التي خرج التاريخ فيها من تخبطه الدائم ، وتقدم ليضع الكون والعالم والحضارة نهائيا في قبضة الغرب : "وبدا التاريخ..وكأنه انتهى به المطاف إلى حالة من الاستقرار أساسها سيطرة الغرب الحالية .. على أن روسيا لم تكن بعد عضواً من الدرجة الأولى في نادي الغرب" (1ص 10) . وآل الحراك البشري وانتهى عَبْر آلاف السنين إلى مقولة غير موضوعية ، مفادها أن الغرب هو السيد الأبدي، والآخر ، كل آخر ، هو العبد والمملوك.
هذا القطب الغربي الحاضن للفكر الرأسمالي المزركش بثوب الحرية الشخصية، وحرية السوق ، استولد من نقائص وسطوة ذلك الفكر وثغراته الظالمة ، نقيضه الإشتراكي المتكىء أخلاقياَ وإنسانياً على عَرَق وتعب عمال مناجم الفحم في إنكلترا ، وكانت تجربة روبرت أوين (1771 - 1858) العظيمة منصّة انبنى فوقها العمل التعاوني والنقابي ، وكذلك الفلسفة الفابية الاشتراكية (1885) ، وكان للأدب مساهمة في تعميق جذور هذا النقيض للرأسمالية والترويج له بكتابات جورج برناردشو (1856- 1950) . أما العمارة الاشتراكية الشاهقة فقد شيّدها كارل ماركس وإنغلز وجدل هيجل.
وكما تقاسمت السماء أضواء الأديان ، تقاسمت الأرض وتقاسم البشر أنوار الرأسمالية والاشتراكية ، وحدثت المصيبة حين تقابل رب الرأسمال مع رب الاشتراكية ، وصارا وجها" لوجه ، وأحدهما مع أوثانه ، يعمل على افتراس الآخر وأوثانه ، تماماً كما في الحرب الطاحنة لمئات الأرباب في الزمن الإغريقي .
كتلتان وجعبتان مليئتان بالأطروحات والشعارات والكلام الفائض عن الحاجة ، وأحيانا الرصاص ، وربما اليورانيوم في لحظة طيش ! وقد لخص المناضل والفيلسوف الشيوعي الفرنسي روجيه غارودي (1913 – 2012 ) رأيه بهذه المحنة في سيرته الذاتية المذهلة "جولتي في العصر متوحداً" 2.
فعلاً كان غارودي متوحداً ووحيداً ، وأصفه أنا بدونكيشوت النقائض : هو متدين مسيحي ، وماركسي ، ومادي ، وقائد شيوعي لم يحتمله الحزب فطرده، ويعتقد بأهمية الفرد ، ولا يقبل التطرف الأيديولوجي مهما كان ، وبارع في السجال الحواري وتلاقح الأفكار ، وهيغلي وجدلي للعظم ، وصديقا لسارتر ، وأخلص في حياته لامرأة واحدة !
من هذه الخلطة و(الفتوش) العقائدي ، وضع غارودي في سلة واحدة كل هذه النقائض ، وحاول كسر الحواجز بينها ، وفشل فشلاً ذريعاً . قضى عمره متنقلا بين البلدان والعواصم يبشر بتركيبة (الفتوش) ، ويأس في أواخر عمره فتمسك وقبض على نعنع الإسلام ، وهو الذي كتب : " الله مات " !
نعود إلى الكتلتين الكونيتين ، أعني الرأسمالية والاشتراكية ، إذ أن الفيلسوف الجوّال غارودي وقد نفض يديه من صراع الحضارات ، أقر واعترف قائلاً أمام " بن بيللا " الذي سأله عن التجربة الكوبية : " هذا الاستقطاب حول كتلتين هو مأساة عصرنا المركزية " (2 ص 170 ) ، وفي ذلك اللقاء تناول غارودي مشروع بناء نظام جديد في العالم .
بهذه المقدمة التاريخية وتحت مظلتها أستطيع فهم جذور ودوافع الحرب الروسية الأوكرانية الحالية ، وكذلك كل الحروب في أمريكا اللاتينية ، وفي فيتنام والجزائر ورواندا والمئة حرب في أفريقيا وأفغانستان والعراق وسورية ولبنان ، للاستحواذ على الموارد من الشق الغربي المهيمن ، وصاحب مدرسة (الهيلمة والعنطزة الأمريكية) ، ومن تعلم في هذه المدرسة التي أصبحت شريعة !
كل ما يخطر على أذهانكم من أسباب لهذه الحرب وغيرها من الحروب خطر على ذهني ، ولكن في الكواليس العميقة لمسرح التاريخ تكمن مشكلة الكتلتين ، الرأسمالية التي ابتكرت وخططت للعولمة ، مضمرة أو معلنة ، والشيوعية الاشتراكية التي نسجت ورسمت خريطة للأممية ، مضمرة أو معلنة ، والبداهة والمنطق يقولان أن التلاقي ( الفتّوشي) يبدو متاحاً ، ولكنهما اليوم في الحرب الروسية الأوكرانية متقابلتان وجهاً لوجه . أمريكا العظمى ، زيوس الإغريقي الجديد ، يريد بالكرباج سوق الكون والبشرية قسراُ من حلم (العَوْلَمَة) إلى قفص ( الهَيْلَمَة) ! لذا ، وجهاً لوجه ، فلاديمير بوتين وفلاديمير زيلنسكي .
ملاحظة : يعتقد بعض المؤرخين أن اسم "فلاديمير" الشائع جداَ مشتق من اللفظ العربي الفولاذ ، ومن الفولاذ تصنع أدوات الحرب ! وللراغب في معرفة أصل هذه التخريجة ، يمكن العودة إلى الكتب التي تناولت بعثة الخليفة العباسي المقتدر (895- 932) ، وكان من بين أعضاء البعثة "ابن فضلان" الذي ترك كتابا عن هذه الرحلة .
دمشق 15 اكتوبر 2022
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* باللهجة العامية تعني الفوضى والسلب بالحيلة .
1- أرنولد توينبي، تاريخ البشرية ،ترجمة د. نقولا زيادة،الأهلية للنشر والتوزيع ،ج 1 ، ط 1988.
2- روجيه غارودي ، جولتي في العصر متوحدا، ترجمة د. ذوقان قرقوط ،دار الأنصار ،ط 1992 .
التعليقات
مقال جميل دكتور نزار سؤالي…
مقال جميل دكتور نزار سؤالي هل فلاديمير بوتن يمثل الوريث الشرعي للشيوعية ؟؟.
إضافة تعليق جديد