من حلم (العَوْلَمَة) إلى قفص ( الهَيْلَمَة) الجذر العميق للحرب الروسية الأوكرانية

15-10-2022

من حلم (العَوْلَمَة) إلى قفص ( الهَيْلَمَة) الجذر العميق للحرب الروسية الأوكرانية

Image

الجمل - د.نزار العاني:
 
ما حدث ويحدث في العقود الخمسة الماضية غريب وعجيب ! وفي قراءاتي لكتاب "تاريخ البشرية" لأرنولد توينبي 1 ، وموسوعات أخرى مشابهة مثل "قصة الحضارة" لوِلْ ديورانت ، وغيرها من موسوعات تملأ رفوف مكتبتي ، أرى أن عصرنا هو عصر سقوط مريع لِبُنَى الأديان والفلسفة والفكر وتشظي الدول والمجتمعات .
السقوط والنهوض مسألة تتكرر عَبر الحقب والعصور ، ولم يَخلُ التاريخ أبداً كما يقول ابن خلدون من هذه الوتيرة . ويرى توينبي أن هذه الوتيرة تعطلت سنة 1897، وهي النقطة الزمنية التي خرج التاريخ فيها من تخبطه الدائم ، وتقدم ليضع الكون والعالم والحضارة نهائيا في قبضة الغرب : "وبدا التاريخ..وكأنه انتهى به المطاف إلى حالة من الاستقرار أساسها سيطرة الغرب الحالية .. على أن روسيا لم تكن بعد عضواً من الدرجة الأولى في نادي الغرب" (1ص 10) . وآل الحراك البشري وانتهى عَبْر آلاف السنين إلى مقولة غير موضوعية ، مفادها أن الغرب هو السيد الأبدي، والآخر ، كل آخر ،  هو العبد والمملوك.
هذا القطب الغربي الحاضن للفكر الرأسمالي المزركش بثوب الحرية الشخصية، وحرية السوق ، استولد من نقائص وسطوة ذلك الفكر وثغراته الظالمة ،  نقيضه الإشتراكي المتكىء أخلاقياَ وإنسانياً على عَرَق وتعب عمال مناجم الفحم في إنكلترا ، وكانت تجربة روبرت أوين (1771 - 1858) العظيمة منصّة انبنى فوقها العمل التعاوني والنقابي ، وكذلك الفلسفة الفابية الاشتراكية (1885) ، وكان للأدب مساهمة في تعميق جذور هذا النقيض للرأسمالية والترويج له بكتابات جورج برناردشو  (1856- 1950) . أما العمارة الاشتراكية الشاهقة فقد شيّدها كارل ماركس وإنغلز وجدل هيجل.
وكما تقاسمت السماء أضواء الأديان ، تقاسمت الأرض وتقاسم البشر أنوار الرأسمالية والاشتراكية ، وحدثت المصيبة حين تقابل رب الرأسمال مع رب الاشتراكية ، وصارا وجها" لوجه ، وأحدهما مع أوثانه ، يعمل على افتراس  الآخر وأوثانه  ،  تماماً كما في الحرب الطاحنة لمئات الأرباب في الزمن الإغريقي .
كتلتان وجعبتان مليئتان بالأطروحات والشعارات والكلام الفائض عن الحاجة ، وأحيانا الرصاص ، وربما اليورانيوم في لحظة طيش ! وقد لخص المناضل والفيلسوف الشيوعي الفرنسي روجيه غارودي (1913 – 2012 )  رأيه بهذه المحنة في سيرته الذاتية  المذهلة "جولتي في العصر متوحداً" 2. 
فعلاً كان غارودي متوحداً ووحيداً ، وأصفه أنا بدونكيشوت النقائض : هو متدين مسيحي ، وماركسي ، ومادي ، وقائد شيوعي لم يحتمله الحزب فطرده، ويعتقد بأهمية الفرد ، ولا يقبل التطرف الأيديولوجي مهما كان ، وبارع في السجال الحواري وتلاقح الأفكار ، وهيغلي وجدلي للعظم ، وصديقا لسارتر ، وأخلص في حياته لامرأة واحدة !
من هذه الخلطة و(الفتوش) العقائدي ، وضع غارودي في سلة واحدة كل هذه النقائض ، وحاول كسر الحواجز بينها ، وفشل فشلاً ذريعاً . قضى عمره متنقلا بين البلدان والعواصم يبشر بتركيبة (الفتوش) ، ويأس في أواخر عمره فتمسك وقبض على نعنع الإسلام ، وهو الذي كتب : " الله مات " !
نعود إلى الكتلتين الكونيتين ، أعني الرأسمالية والاشتراكية ، إذ أن الفيلسوف الجوّال غارودي وقد نفض يديه من صراع الحضارات ،  أقر واعترف قائلاً  أمام " بن بيللا " الذي سأله عن التجربة الكوبية : " هذا الاستقطاب حول كتلتين هو مأساة عصرنا المركزية " (2 ص 170 ) ، وفي ذلك اللقاء تناول غارودي  مشروع بناء نظام جديد في العالم .
بهذه المقدمة التاريخية وتحت مظلتها أستطيع فهم جذور ودوافع الحرب الروسية الأوكرانية الحالية ، وكذلك كل الحروب في أمريكا اللاتينية ، وفي فيتنام والجزائر ورواندا والمئة حرب في أفريقيا وأفغانستان والعراق وسورية ولبنان ، للاستحواذ على الموارد من الشق الغربي المهيمن ، وصاحب مدرسة (الهيلمة والعنطزة الأمريكية) ، ومن تعلم في هذه المدرسة التي أصبحت شريعة ! 
كل ما يخطر على أذهانكم من أسباب لهذه الحرب وغيرها من الحروب خطر على ذهني ، ولكن في الكواليس العميقة لمسرح التاريخ تكمن مشكلة الكتلتين ، الرأسمالية التي ابتكرت وخططت للعولمة ، مضمرة أو معلنة ، والشيوعية الاشتراكية التي نسجت ورسمت خريطة للأممية ، مضمرة أو معلنة ، والبداهة والمنطق يقولان أن التلاقي ( الفتّوشي) يبدو متاحاً ، ولكنهما اليوم في الحرب الروسية الأوكرانية متقابلتان وجهاً لوجه . أمريكا العظمى ، زيوس الإغريقي الجديد ،  يريد بالكرباج سوق الكون والبشرية قسراُ من حلم  (العَوْلَمَة) إلى قفص ( الهَيْلَمَة) ! لذا ، وجهاً لوجه ، فلاديمير بوتين وفلاديمير زيلنسكي .
ملاحظة : يعتقد بعض المؤرخين أن اسم "فلاديمير" الشائع جداَ مشتق من اللفظ العربي الفولاذ ، ومن الفولاذ تصنع أدوات الحرب ! وللراغب في معرفة أصل هذه التخريجة ، يمكن العودة إلى الكتب التي تناولت بعثة الخليفة العباسي المقتدر (895- 932) ، وكان من بين أعضاء البعثة "ابن فضلان" الذي ترك كتابا عن هذه الرحلة . 
دمشق 15 اكتوبر 2022
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* باللهجة العامية تعني الفوضى والسلب بالحيلة .
1- أرنولد توينبي، تاريخ البشرية ،ترجمة د. نقولا زيادة،الأهلية للنشر والتوزيع ،ج 1 ، ط 1988.
2- روجيه غارودي ، جولتي في العصر متوحدا، ترجمة د. ذوقان قرقوط ،دار الأنصار ،ط 1992 .

التعليقات

مقال جميل دكتور نزار سؤالي هل فلاديمير بوتن يمثل الوريث الشرعي للشيوعية ؟؟.

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...