العلمانية المغدورة
لؤي ماجد سليمان:
حفل تأبين الكتروني فقير على الصفحات الافتراضية ومواقع التواصل الاجتماعي لشخصية سورية بحجم مفكر، لم يذكرني إلا بمدينة تدمر حين دخلتها داعش، هل تموت الأوابد ؟ لا أرغب في تعداد ترجماته أو حصر مؤلفاته والإشادة ببحوثه، إذ يتبادر إلى ذهني بحثه الصادر عن مجلة الآداب اللبنانية عام 2007 الذي جاء ضمن عدة بحوث تتحدث عن «العلمانية في السياق العربي الإسلامي» والذي أهداه المفكر (جورج طرابيشي) للسيدة الراحلة (ليلى فرعون) حرم رئيس الوزراء الأسبق سليم الحص التي بقيت على دينها الأصلي إلى أن حانت ساعة وفاتها، فطلبت أن تعتنق الإسلام، وهذا ما لم تكن مطالبة به من قبل زوجها أو أحد سواه، لكنها عللت رغبتها بأنها لا تريد أن تدفن إلا إلى جانب قبره وليس في مقبرة أخرى، هي إشارة ومساهمة منها لتحول ثقافة الكراهية الدينية، إلى رسالة المحبة العابرة للمذهبية والطائفية، وتنويه من الباحث (طرابيشي) على أهمية تلك الرسالة وما تحمله من مضامين في زمن أهم سماته الادعاء.
*الاشكالية
الدراسة ذاتها «العلمانية كإشكالية إسلامية – إسلامية» طرحها في مؤتمر»العلمانية في المشرق العربي» الذي كان من المفترض أن يقام على مدرج جامعة دمشق عام 2007، وتحول بطلب من وزير الثقافة رياض نعسان آغا وقتها إلى ورشة عمل صغيرة بعد اعتذار الجامعة عن استضافته، وتحويله إلى (مائدة عمل مستديرة) في المركز الثقافي الدنماركي بدمشق القديمة، بعيداً عن الجمهور وأعين وسائل الإعلام.!
وقتها طرح (طرابيشي) دراسته وقدمها كفلسفة وآلية لتسوية العلاقات لا بين الأديان المختلفة فحسب، بل كذلك بين طوائف الدين الواحد، موضحاً كيف أن الإسلام العربي بواقعه الديموغرافي يتألف من غالبية سنية، وأقليات شيعية ونصيرية ويزيدية وإسماعيلية ودرزية وغيرها، فمن منظور هذه التعددية يجب عدم اعتبار العلمانية وتصويرها على أنها قضية مسيحية - إسلامية فقط.
كان ذلك بمثابة رد على المنظرين الذين يعتبرون أن الإشكالية الرئيسية في مسألة العلمانية، تتمثل في كونها مفهوماً مستورداً من الغرب ولا يصلح للتطبيق في مجتمعاتنا، وهي مطلب مسيحي وجد لفصل الكنيسة عن الدولة، بينما رآها المفكر الراحل مطلباً للأقليات بغض النظر عن انتمائهم الديني، فالعلمانية تقدم لهم ضمانة للمساواة أمام القانون، مبرّهناً على وجود الصراع الطائفي في الإسلام، أضف إلى ذلك أن هذه الحجج غير كافية لإلغاء تطبيق العلمانية في العالم العربي طالما أنه هناك حاجة وصراع مستمر أشد ضراوة، فهي لا تختلف عن «الديمقراطية» التي صنعها الغرب واستوردها العرب ويدعون تطبيقها.
غير أن (طرابيشي) اعتبر الطائفية ثابتاً دائماً في التاريخ الإسلامي وان كانت استمرت عشرات السنوات بين الكاثوليكية والبروتستانتية وكان من نتائجها تكريس العلمانية، فإن الحروب الإسلامية استمرت مئات السنين بين السنة والشيعة ولم ينتج عنها منذ (صفين) و(الجمل) حتى هذا التاريخ إلا البغض والكره بين السنة وباقي الفرق، وبين السنة والأديان الأخرى، وهذا ما أشار إليه (جورج) لكن بشكل مهذب في المؤتمر ذاته معتبراً أن «الضغائن والأحقاد في المجتمعات ذات البنية القبلية ترفع الثأر إلى مرتبة القانون».
رأى صاحب «من النهضة إلى الردة» أن هناك إشكالاً نظرياً خطيراً تثيره الديمقراطية المفصولة عن توأمها العلمانية، من باب أن فلسفة الديمقراطية وآليتها تقومان على اعتبار الأمة والشعب هما مصدر التشريع، والحقيقة التي لا لبس فيها اليوم على الأقل؛ أن الإسلام اعتمد بشكل أساسي في التشريع على القرآن والسنة، إذ كان (طرابيشي) يطالب بضرورة مزاوجة الديمقراطية والعلمانية.
كما أن إشكالية مصدر التشريع – برأي المفكر السوري - خلقت إشكالات نظرية وعملية، الأولى تتعلق بمسألة المساواة في العلاقة بين الجنسين، والثانية تتصل بنصاب العلاقات الجنسية في قانون العقوبات، إذ أن المساواة باتت من بديهيات الديمقراطية في العالم المعاصر، بينما في الواقع، فإن الشرع الإسلامي لا يقر للمرأة بهذه المساواة، سواء في الزواج والإرث، أو في (الإمامة) التي يحجبها عنها تماماً.
أدرك (طرابيشي) إن لامساواة متعددة الوجوه ترزح تحتها المرأة العربية أبرزها «قانون الأحوال الشخصية» المرتبط بالشرع الإسلامي، إضافة إلى مسألة الإرث التي تناولها في بحوثه -لا من حيث أنها لا مساواة فحسب - بل من حيث الدور الذي تلعبه هذه المسألة في الحراك الطائفي، فموضوع (حق الأنثى) في الإرث يختلف بين الفقه السني والفقه الشيعي الذي يثبت حق الفتاة في الإرث كاملاً إذا لم يكن لديها إخوة ذكور، ولهذا يضطر بعض الآباء للتحول عن مذهبهم السني الأصلي إلى المذهب الشيعي ليضمن حق توريث الإناث في غياب الذكر! ومن مشاهير من فعل ذلك رياض الصلح رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، وسليم الحص رئيس الوزراء السابق.
أما فيما يتعلق بالعلاقات الجنسية، فإن قانون العقوبات وحسب ما طورته الأنظمة الديمقراطية يميز بين مفهوم الخطيئة ومفهوم الجريمة - برأي طرابيشي - ولا يعتبر العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج أو العلاقات المثلية جريمة يعاقب عليها القانون، بينما في الشرع الإسلامي يعتبر ذلك جرماً يستحق العقاب ويستوجب الجلد والرجم حتى الموت أحياناً، وذلك حسب الدولة أو المملكة. من هنا جزم (طرابيشي) بضرورة علمنة قانون العقوبات وإلا لن يكون هناك «ديمقراطية جنسية» كما يستحيل إلغاء العقوبات الجسدية من قانون العقوبات، وعليه لا ديمقراطية بلا علمانية لأنه في ظل العلمانية يمكن للمرء أن ينعتق من عقليته الدينية الطائفية.
ما يميز صاحب «هرطقات» أنه في بحوثه حول العلمانية وضع يده على الجرح بشكل مباشر ليبين المشكلة الطائفية الحقيقية في الوقت الذي تحاول الحكومات والأنظمة العربية وكثير من الباحثين ورجال الدين تصديرها على أنها مشكلة إسلامية مسيحية مرتبطة بالغرب، بينما الحقيقة أعمق من ذلك بكثير، وما صور التآخي بين رجال الدين المسيحي والإسلامي، وثنائيات المحبة، وعناق الهلال للصليب التي يصدّرها الإعلام العربي إلا حقائق غير كاملة من حيث الطرح، ولعلاج المشكلة الطائفية والتعصب نادى (طرابيشي) بضرورة النظر إليها كإشكالية إسلامية- إسلامية أولا، ثم الخروج للتآخي مع الكنيسة و(الغرب الإفرنجي).
*سيف التراث
حروب نقدية عديدة خاضها هذا المفكر العنيد، فبدأها في حقول النقد الأدبي ونقد الرواية، وآخرها في نقد التراث العربي الإسلامي، إذ يقول: «ما من ثورة وما من تغير يدخلاننا العصر من دون الارتباط بالتراث ونقده» ليخوض حروباً بعدها للدفاع عن وحدة التراث بعيداً عن الصراعات الإيديولوجية، ففي كتابه (مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة) هاجم (طرابيشي) توفيق سلوم صاحب (نحو رؤية ماركسية للتراث العربي) وتناول (زكي الأرسوزي) كمعبر عن النموذج القومي العلماني، ومحمد عمارة كممثل للتيار القومي الإسلامي وغيرهم من المفكرين كان أهمهم (الجابري) الذي تصدى لكتابه «نقد العقل العربي» الرحلة النقدية التي استمرت قرابة عقدين من الزمن خصصها (طرابيشي) لكشف الشواهد التي زيّفها المفكر المغربي لتخدم ما صاغه من إشكاليات انطلاقاً من موقف إيديولوجي مسبق، وتوظيفه الابستمولوجيا في خدمة الايدولوجيا، وهي إيديولوجيا متعصبة لما يطلق عليه بالعقلانية المغربية ضد اللاعقلانية المشرقية، وللبيان السني ضد العرفان الشيعي، وللإسلام السياسي ضد الإسلام الروحي.
حياة مليئة عاشها هذا الرجل مفعماً بالمعارف والعلوم والنظريات من هيجل إلى سارتر وكارل ماركس؛ نثر الكثير من الدراسات والأفكار بذوراً له في حقول الوعي العربي وملفاته المعطلة، ناهيك عن الغربة التي عاشها في فرنسا والتي جعلت من التراث وطناً وملاذاً له في المهجر، وسلاحاً وظفه في معركة الحداثة ضد موجة الأصولية من خلال الرجوع إلى المواقع التراثية التي يتحصن بها خصومه ومن ثم نقدها. لقد نبش (طرابيشي) في تاريخ الأسلاف ليؤكد نظريته بأن مشكلة العقل العربي ليست مستوردة وليست وليدة الحاضر، إنما متأصلة فينا كعرب من الماضي، من النصوص القديمة والأصولية الدينية التي يجب أن تكون نقطة البداية في أي مشروع حضاري علماني يحرر الأجيال من التخلف والرجعية والتفكير الإقصائي الذي نسب سببه إلى العقل وطرق التفكير وليس المعتقدات الدينية فقط: «لن نستطيع أن نخوض معركة الحداثة ونحن عراة من النقد الحقيقي».
ما ذكره (طرابيشي) في مجمل بحوثه وحواراته ومؤلفاته لخصه في «ست محطات في حياتي» كانت أولاها هروب الطفل (جورج) من المسيحية بعد تدينه المفرط بسبب خوفه من (الإله الذي ينتقم من طفل لخطيئة ارتكبها ولا يشفى غليله منه إلا بحرقه ملايين السنين)! ومدرس الديانة الإسلامية الذي اعتبر أن (كل من هو غير مسلم عدو للإسلام)، وإصرار رفاقه الحزبيين المسيحيين الذين ادعوا التقدمية على فكرة ثأر الذكورة من الأنثى بحجة الشرف، ليؤكد (طرابيشي) أن قضية الوعي الاجتماعي لا تتعلق بانتماء ديني، أو إيديولوجي، وإنما بقضية العقل البشري وبنيته المرضية الرجعية، ليعتمد المفكر الراحل في ذلك على المكبوت في اللاوعي كنظرية فرويد «التداعي الحر» التي تتمثل في الرغبات المكبوتة والبدائية ولا تحكمها أعراف ولا قوانين ونظرية «الهو» شخصية الطفل الذي يتعامل مع الدنيا بسجيته، و(إنسان الكهف) الذي لم يعرف سوى قانون الغاب.
إضافة تعليق جديد