جورج شتاينر الفيلسوف المترحل بين المآسي واللغات
مشير باسيل عون:
اشتهر الفيلسوف والناقد الأدبي الفرنسي - الأميركي جورج شتاينر (1929 - 2020) بعشقه اللغات الإنسانية وشغفه بالآداب القديمة الكلاسيكية، وكان حريصاً على استجلاء طبيعة العلاقات التي تربط اللغة بالاجتماع الإنساني، يكب على مقارنة الدلالات المختلفة التي تختزنها اللغات البشرية. درس الأدب المقارن في أرقى الجامعات العالمية (أوكسفورد وهارفرد وكامبريدج وجنف)، مستخدماً اللغات الأربع التي كان يتقنها وهي الألمانية والفرنسية والإنجليزية والإيطالية)، ونشر عشرات الكتب ومئات المقالات في الأدب المقارن والنقد الأدبي واللسانيات وتاريخ الفلسفة وتاريخ الحضارات.
ولد شتاينر في باريس من أسرة نمسوية يهودية هربت من ڤيينا اتقاء شر النازية المستفحل، وكان والده يدرك أخطار الحقد الأعمى بين الشعوب، فأصر على تلقين ابنه اللغات الأوربية القديمة والحديثة، حتى إنه كان يتلو عليه وهو في سن الخامسة من عمره، مقاطع من ملحمتي الشاعر الإغريقي هوميروس. قبل احتلال النازيين مدينة الأنوار باريس نزحت الأسرة مرة أخرى إلى الولايات المتحدة الأميركية، إذ استطاع الابن الموهوب أن يواصل دراساته العليا في جامعة شيكاغو، ويعد بعد ذلك أطروحة الدكتوراه في جامعة أوكسفورد، وقد تناول فيها موت التراجيديا (The Death of Tragedy).
صدمه العنف الإنساني الذي بلغ ذروته في المحرقة اليهودية فوصف نفسه بالبدوي المترحل الذي ينزح من أرض إلى أخرى خوفاً من الهلاك. أنشأ يقول في مذكراته (Errata. An Examined Life)، "للأشجار جذور، ولي ساقان أدين بحياتي لهما". عانى منذ ولادته تشوهاً في ذراعه اليمنى فاحتضنته والدته وحولت الإعاقة إلى بركة سماوية تعفيه من الخدمة العسكرية، وتحرره من أجل مواصلة التحصيل الدراسي الجامعي في زمن الاضطرابات الجيوسياسية الأوروبية قبيل الحرب العالمية الثانية.
بركة اللغات
لم يكن شتاينر يؤمن بالحدود المعرفية التي رسمتها التقاليد الأكاديمية بين حقول العلوم، لذلك كان يسعى إلى إعادة ربط الفكر بالفن والعلوم، ومن أبرز القضايا التي كان يدافع عنها الانفتاح اللغوي الذي يجعل الإنسان لا يكتفي بلغته الأم، بل يعكف على إتقان لغات أخرى سيراً على نهج الأديب الألماني غوته (1749-1832) الذي كان يصرح بأن الإنسان الذي لا يملك إلا لغة واحدة إنما يجهل لغته الأم (" No monoglot truly knows his own language "). ومن ثم ينبغي للأديب أن يغترف من جميع المعارف والعلوم، لا أن يحصر ثقافته في حقل اختصاصي واحد. الإنسان الأديب من يعنى بالاطلاع على إبداعات الفنون وفتوحات العلوم. الحقيقة أن اللغة حمالة أوجه، إذ يستخدمها الإنسان إما لنشر فضائل الحب والغفران والإبداع وإما لزرع الأحقاد والضغائن وتدمير البنى وإعدام الناس.
انتمى شتاينر إلى عوالم ثقافية شتى، لا سيما الفرنسية والألمانية والإنجليزية، ومن ثم كان يستفسر عن الاختلاف بين الإنسان ذي اللسان الواحد والإنسان ذي الألسنة المتعددة، ويذهب إلى أن تعدد الألسن يغني الوجدان ولكنه يوشك أن يسلخ الإنسان عن جذور منبته وتراب أرضه.
غالباً ما كان يمتدح الأديب الإيرلندي صمويل بكيت (1906-1989) الذي كان يتنقل بين الفضاءات اللغوية، فيكتب تارة بالإنجليزية وتارة بالفرنسية، مفجراً بركاناً هائلاً من المعاني التي لا تنغرس في تربة دلالية واحدة. من عبقرية هذا الأديب أنه من النادرين الذين استطاعوا أن ينقلوا من لغة إلى أخرى، الطرف والنوادر التي تجسد فرادة الإفصاح عن ذهنيات الشعوب الخاصة، وكذلك فعل الروائي الروسي -الأميركي ڤلاديمير نابوكوڤ (1899-1977)، والروائي أوسكار وايلد (1854-1900).
لذلك يجمع الباحثون على القول إن شتاينر باحث مقتدر في علوم اللغة، وخبير متمكن من اللغات، وعاشق مولع بالنصوص التراثية القديمة، وعارف متضلع من علوم المسرح، وفنان شغوف بالموسيقى وموسيقي ماهر، وفيلسوف يهوى استنطاق العناصر الجمالية في الوجود.
خالط الفلاسفة وعاشر الشعراء فاستلهم من الجماعتين عمق التدبير ورقة التعبير. كان يعتقد أن التراث الفكري الفرنسي يختزن نصوصاً بديعة ألفها فلاسفة تألقوا في بلاغة البيان وسحر الكلمات، وغالباً ما كان يستعين بالفيلسوف الفرنسي آلان (1868-1951) الذي كان يعد قراءة نصوص الأديبين بالزاك وستاندال من أرقى الصنائع الفلسفية، أما الشخصية الفلسفية الفرنسية الفذة التي جمعت المجدين، مجد الفلسفة ومجد الأدب، فسارتر (1905-1980) الذي كان يصبو إلى أن يصهر في وجدانه الإبداعي شخصية سبينوزا وشخصية ستاندال، ذلك بأنه كان يحيا بالكلمة ويتماهى بإيحاءاتها واستدعاءاتها.
خصوصية التناول الفلسفي
يسأل شتاينر في كتابه "شعر الفكر" (Poésie de la pensée) هل تكون الفلسفة مستودع اللامقول، أي كهف الأمور التي لم يقلها أحد البتة؟ ولا يلبث أن يصرح بأنه كان يغار من علماء الرياضيات والموسيقيين، إذ إن لغتهم كونية يفهمها الجميع من غير عناء، لا ضرورة في نظره لترجمة لغة الموسيقى أو لغة الرياضيات، إذ إنهما تنطقان نطقاً فصيحاً بمجرد التعبير عن مضامينهما الهندسية الجمالية. أما اللغات الأخرى فينبغي أن نترجمها، أي أن ننقلها من فضاء ثقافي إلى آخر، أو من مستوى إدراكي إلى آخر داخل الفضاء الثقافي عينه، ذلك بأن الكلام متنوع بتنوع الكائنات الإنسانية، فلكل إنسان لغته الوجدانية الخاصة.
إذا كان الأمر على هذا النحو وجب علينا أن نسأل، ما حال الفيلسوف الذي يبحث عن حقائق كونية عامة تصلح للوضعيات الإنسانية المشتركة؟ كيف يتصرف باللغة التي تعانده وتتمرد عليه؟ هل يستطيع أن يعطل مقاومة اللغة وعصيانها؟ من الواضح أن ملاذ الخلاص التأمل في اختبارات عظماء المفكرين والأدباء الذين عاركوا اللغة حتى صرعتهم.
حين ينظر شتاينر في تاريخ الفلسفة الفرنسية، يدرك أنها دأبت منذ القرن الـ 17 على مخاطبة الوعي الأخلاقي الذي يستنهض الإنسان الكوني المنعتق من قيود الانتماءات القومية والوطنية والمحلية.
ذلك أن الفلسفة الفرنسية تتميز بالتواطؤات المغنية بين المتافيزياء والشعر، وأيضاً بين المتافيزياء والفن، لا سيما الرسم والموسيقى بخلاف الوضعية الفلسفية البريطانية التي لا تعنى إلا نادراً بمثل الارتباطات الترفيه المجردة هذه. يعود الفضل في ذلك إلى الفيلسوف الفرنسي موريس مرلو-بونتي الذي سارع بعد الحرب العالمية الثانية إلى التأمل الفلسفي في اللوحات والرسومات التي تسحر العين الجسدية سحراً يجعل البصيرة الجوانية تعشقها للتو. كل فكر لا يستنطق الموسيقى يحرم نفسه من متعة الارتقاء الجمالي.
يعتقد شتاينر أن تفكيكية دريدا لم تنجح في فرنسا إذ إنها أهملت الفنون وخصوصاً الموسيقى والرسم، مع أن هذه التفكيكية المبنية على مهارة تطويع الكلمات وسوقها في لعبة التقابل والتعارض والتورية والتعرية انبثقت من المذهب الدادائي السريالي. من واجب الفلسفة إذاً أن تصغي إلى الصوت المباغت في الوجود الإنساني، صوت المعجزة المتجلية في الصنيع الفني.
خصوصية اللغة الإنجليزية – الأميركية
من جراء هذه الاختلافات، أخذ شتاينر يتأمل في مصير الجزيرة البريطانية التي فرضت لغتها الإنجليزية على جميع الشعوب، مع أن نفوذها السياسي والاقتصادي تضاءل خلال القرون الثلاثة الأخيرة. ليست الولايات المتحدة الأميركية صاحبة الفضل في انتشار اللغة الإنجليزية، بل طبيعة هذه اللغة التي تنفرد بسهولة نحوها وصرفها، ولكنها أيضاً تتميز بتفاؤليتها التي تنطوي عليها عبارات الأمل المحتشدة في اصطلاحاتها وجملها، ذلك بأنها لغة الوعود المشرقة التي لخصها إعلان الاستقلال الأميركي (1776) في عبارة السعي إلى السعادة. ومن ثم يلاحظ شتاينر الذي علم اللغة الإنجليزية أن أفعالها مجبولة على استباق المستقبل، أو قل على استحضاره قبل أوانه في روحية الاستشراف الرجائي. ليس فيها تشاؤمية المثالية الألمانية أو كوارثية اللغة الروسية أو غيبيات اللغة الفرنسية الماورائية المبنية على انعطابية الخطيئة الأصلية وأزوف زمن الدينونة الشاملة، وقد يكون من خصائص التفاؤلية الإنجليزية - الأميركية هذه أنها أفلحت في توليد معجم الاصطلاحات التقنية التي غزت الوعي البشري منذ سبعينيات القرن الـ 20.
إرباكات الترجمة ووعودها
استناداً إلى مثل الاقتناعات الفكرية هذه تناول شتاينر في أبحاثه اضطرابات الثقافة الغربية ومسائل التنوع اللغوي وقضايا الترجمة ومشكلات التقابس الفكري بين الحضارات. استودع كتابه المشهور "بعد بابل: شاعرية القول والترجمة" (Après Babal. Une poétique du dire et de la traduction) خلاصة أبحاثه في مسائل الترجمة، ومن غير مواربة يعلن مبايعته روحية بابل التعددية التي تعترف بغنى التنوع اللغوي، ذلك بأن بابل ليست رمز التشتت اللغوي، بل تجلي الفسيفساء الحضارية التي تستند إلى كنوز اللغات البشرية المختلفة. التباين اللغوي بركة علوية، لا لعنة أرضية استجلبتها مخاصمات البشر، ومن ثم فكل لغة إنما تفتح لنا نافذة نطل منها على عالم جديد يحيي فينا الرغبة في الاستكشاف والاغتناء.
ثمة رابط عضوي بين لغة المعلوماتيات الرمزية الاختزالية وبنية اللغة الإنجليزية النحوية، وبخلاف ذلك كله تستثير اللغة الألمانية إرباكات العقل، إذ إنها تنفي أفعالها وتلقي بها في أواخر جملها، حتى إن القارئ يحتار في تحديد طبيعة الكلام قبل إنهائه، ويتردد في الإفصاح عن أحاسيسه قبل أن ينهي قراءة الجملة الألمانية الطويلة المتشعبة، ومن ثم انحصرت اللغة الألمانية بالنخبة القادرة على الامتحان الوجداني، في حين استطاعت الإنغجليزية - الأميركية أن تمنح جميع الناس القدرة على التعبير عن أبسط مشاعرهم الحياتية، فاستوت على مقام بلاغة الإنسان العادي البسيط.
في هذا السياق، يستوقف شتاينر اختلاف أنثروبولوجي في المسلك اللغوي، إذ يقرّع الناس في بعض المناطق الفرنسية المحافظة الدخلاء الذين يتلعثمون بنطق لغتهم ويلحنون في استخدام قواعدها، في حين أن معظم الشعب الأميركي يعد الخطأ اللغوي في كلام الوافدين أو حتى المقيمين دليلاً على نزاهة الإنسان الذي لا يتهيب الإفصاح عن ذاتيته إفصاحاً حرا لا تردد فيه ولا تورية، فالإنسان الذي يتلعثم بكلامه صادق شريف لا ينتوي مخادعة الناس وتضليلهم.
لا شك في أن التباين الأنثروبولوجي هذا يظهر خصوصية الحضارة الرومانية اللاتينية التي تشربتها اللغة الفرنسية وأثرت في المسلك الاجتماعي الذي يفرض استقامة التعبير وحسن الكلام، وحتى الزعماء السياسيون الفرنسيون كانوا على عرق من الفصاحة جعلهم يسحرون ألباب المستمعين، أما المجتمع الأميركي المعاصر فيكتفي معظم سكانه بنحو 1000 كلمة يستخدمونها في التعبير عن اختباراتهم اليومية المألوفة.
التطرف الجنسي في تحليلية فرويد النفسية
تنوعت اعتناءات شتاينر البحثية، إذ تناول غير مفكر من المفكرين النابغين الذي مهروا القرن الـ 20 بإسهاماتهم الجليلة، وكان يتأمل في نصوص فرويد فينزعج من مقولة اللاوعي التي تحرم الإنسان من وضوح الرؤية، على نحو ما كانت تربكه مقولة الفلسفة التفكيكية التي تؤيد البنيوية في إخراج الإنسان الواعي من متون النصوص. إذا كان النص مغلقاً على ذاته، لا يحيل إلى أي وجود أو وعي أو اختبار إنساني خارجي، فإن الحياة تصاب بالانعطاب العدمي الشامل، ويعتقد شتاينر أن فرويد من أعظم أدباء السرد الألماني وأنه استحق جائزة غوته الأدبية ومدائح توماس مان (1875-1955) الصادقة. غير أنه كان يصبو إلى جائزة نوبل في الطب وعلوم الفيزيولوجيا على الرغم من نبوغه في السرد والتحليل النفسي، ولم يوفق في تشريح الوعي الإنساني فتطرف في ربط اضطرابات هذا الوعي بالتنافس الجنسي بين الأب والابن الذي يشعر بأن والده يسلبه حنان والدته.
يعترض شتاينر على مثل هذا التحليل، إذ لا يجوز أن يفترض المرء أي نوع من أنواع الارتباط الغرائزي بين الابن والأم، ذلك بأن مثل هذه الفرضية تعبر عن اعوجاج خطر في ذهن صاحبها. عقدة أوديب، في نظر شتاينر، من أفظع النظريات عبثية واستهتاراً بمقام الكائن الإنساني، وعلاوة على ذلك يظن شتاينر أن المرضى النفسيين تغيرت طبيعة اضطراباتهم المعاصرة، لذلك لم نعد نعثر اليوم على شخصيات تشبه مرضى فرويد المفضلات من نساء فيينا البورجوازيات المصابات بالهيستيريا الطباعية المزاجية.
لا شك في أن الأحلام تنطوي على جانب جنسي غرائزي، بيد أن الغالب فيها تشابك القرائن الوجودية التاريخية التي تطبع سيرة الإنسان الحالم في يقظته. يذكر شتاينر قصة المريض الذي كان يحيا في برلين العام 1933 ويعاني اضطراباً في حركات جسمه، عاجزاً عن رفع يده اليمنى، فإذا بجواب فرويد يستند تلقائيا إلى عقدة الإخصاء الذاتي التي تشل حركة اليد، في حين أن جمعية الأطباء كانت تميل إلى إيثار التسويغ الذي يربط الشلل بعقدة الخوف من رفع اليد الإجباري من أجل تحية هتلر.
ومن ثم لا يستحسن شتاينر تحليلات فرويد الجنسية المتطرفة بل يؤثر الاستناد إلى التحليل الأنثروبولوجي الثقافي الاجتماعي، والثابت مع ذلك أن فرويد يستثير فينا تلك الغربة المقلقة التي تجعلنا نسائل تحتيات باطننا ومنطويات جوانيتنا، علنا نعثر على تسويغٍ مقنعٍ يريحنا من عناء البحث عن أسباب بؤسنا ويؤهلنا لمواجهة فكرة الموت.
تلاقي الشعر والفلسفة: هايدغر وتسيلان
يصر شتاينر على عمق الروابط التي توحد الفلسفة والشعر في مسعى البحث عن معنى الوجود، ومن الأمثلة البليغة على العلاقة الوثيقة هذه تعلق هايدغر (1889-1976) بشعر هلدرلين (1770-1843)، غير أن شتاينر يؤثر النظر في علاقة الشاعر باول تسيلان (1920-1970) بفيلسوف الإرباك الأعظم هايدغر، ذلك بأن تسيلان كان يعشق نصوص هايدغر ويعلق عليها ويراسله بين الحين والآخر، ويبدو أن الرسالة الأخيرة التي كان يزمع أن يكتبها قبل انتحاره كانت موجهة إلى هايدغر.
يعتقد شتاينر أن مثل هذه العلاقة بين الفيلسوف والشاعر إنما ترتقي إلى قمة التقابس الفكري بين البشر وتجسد أبلغ تجليات التواصل الوجداني، وهي شهيرة قصيدة توتناوبرغ (Todtnauberg) التي أنشأها تسيلان في وصف صومعة هايدغر في الغابة السوداء جنوب ألمانيا.
لا شك في أن ما يصعق شتاينر التناقض الحاد بين شاعر المحرقة تسيلان وفيلسوف القومية الجرمانية هايدغر، يلتقيان على قمة الإبداع متجاوزين حدود التنافر المطلق بين التصورين القوميين هذين، ولا يستطيع المرء أن يدرك معنى هذا التلاقي التضادي إلا أن العقل الأعلى يمكنه أن يستجلي مقاصد الحدث المتجسدة في معنى الأصالة، وفي جميع الأحوال لا ينتقد شتاينر هايدغر إلا لاقتناعه بأن "النقد فعل شكر" على نحو ما كان يردد في محاضراته.
مأساة اليهود: جريمة اكتشاف الوعي
فضلاً عن الأبحاث اللغوية والدراسات الأدبية والفلسفية المقارنة أنشأ شتاينر بعض الروايات الخيالية القصيرة التي استودعها اقتناعاته الفكرية، ومن بين هذه الروايات قصته الفلسفية "نقل أدولف هتلر إلى سان كريستوبال" (The Portage to San Cristobal of A. H.)، وفيها يتخيل أن الزعيم النازي لم يقض نحبه في برلين، بل فر إلى أميركا الجنوبية واختبأ في مجاهل الأمازون حتى عثر عليه في سن الـ 90 كوماندوس يهودي بقيادة الناجي من المحرقة إمانويل ليبر، فنقله إلى العالم المتحضر من أجل محاكمته.
اللافت في القصة الخيالية هذه أن شتاينر شاء أن يحلل تحليلاً حضارياً أسباب العداوة المستحكمة بين الشعوب الأوروبية واليهود، فإذا به يخلص إلى أن النازية تعبير عن رغبة أوروبا في الثأر من الفكر اليهودي الذي اكتشف مقام الوعي، ولا ريب في أن مثل هذا الادعاء استثار انتقاد المجتمع الأوروبي الأدبي والفلسفي فانهالت عليه الردود لتبين له أن مأساة الشعب اليهودي في ألمانيا ترتبط بأسباب اجتماعية واقتصادية وسياسية أشد تعقيداً من مثل التسويغ الفلسفي التبسيطي هذا.
إضافة تعليق جديد