لو سالومه رفيقة الفلاسفة
مشير باسيل عون:
اشتهرت المحللة النفسية الروسية المولد لو سالومه (1861-1937) بقدرتها الاستثنائية على مرافقة عظماء الفلاسفة والأدباء والشعراء، واستكشاف وجدانهم الأعمق، ومشاركتهم في الغوص على معاني اختباراتهم الحياتية، لا سيما العاطفية الغرامية منها. من أبرز أصدقائها الحميمين نيتشه وفرويد والشاعر النمساوي ريلكه (1875-1926)، والفيزيائي الفيلسوف الألماني باول ره (1849-1901). ولدت في مدينة بترسبورغ في أسرة أصلها من شمال ألمانيا ترتبط بجماعة الهغنو (Hugenots) البروتستانتية الفرنسية، وكانت الابنة الوحيدة التي أتت بعد خمسة أبناء ذكور. من جراء التنشئة الدينية البروتستانتية المتشددة، انتفضت الابنة المتحررة على راعيها المتزمت الذي اختاره والدها لكي يمنحها الثقافة الدينية الضرورية، وغادرت حضن الكنيسة، ولو أنها ظلت أمينة على الاختبار الجواني الروحي الذي طفقت تنميه في البحث العقلي الناشط في حقول الفلسفة والأدب والدين وعلم النفس.
يبدو أن والدتها كانت ترغب في ابن سادس، فإذا بالحياة ترزقها هذه الابنة، فتصيب الوالدة بالخيبة الرقيقة. أما صورة الأشقاء الخمسة، فحملتها في وجدانها طوال حياتها كلها، حتى إنها كانت تتصور الرجال في هيئة الإخوة الذين يحيطون بها ويمحضونها الثقة والعطف والرقة. حرمتها الحياة من شقيقين توفيا في سن مبكرة، فعاشت في صحبة الثلاثة الذين كانت ترافقهم في جميع نشاطاتهم الترفيهية والرياضية. نشأت على التأمل والحلم، يرعاها والدها الذي رزق الابنة المدللة في سن متقدمة من عمره. بفضل العلاقة الوالدية الرقيقة هذه، استطاعت أن تحظى بتنشئة مدرسية مميزة، حتى إن أباها استقدم لها المعلمين يدرسونها في المنزل. منذ نعومة أظفارها أتقنت اللغات الروسية والألمانية والفرنسية، إذ نشأت في بيئة روسية وفي أسرة ألمانية تتكلم اللغة الفرنسية.
الشابة المتحررة من التقاليد
شاءت الصدف أن تلتقي في مدينتها بترسبورغ قسيساً بروتستانتياً هولندياً عقلانياً منفتحاً متحرراً، كان اسمه هندريك جيو (Hendrick Gillot) وكان يكبرها بخمس وعشرين سنة. تجرأت، في سن السابعة عشرة، فكتبت إليه رسالة شخصية تسأله فيها الاستنارة والاسترشاد، "إن الشخص الذي يكتب إليك، سيدي القسيس، صبية عمرها سبع عشرة سنة، تحيا حياة العزلة بين أعضاء أسرتها وفي محيطها. وحيدة تعيش، إذ لا يشاركها أحد في آرائها، ولا يلبي أي إنسان رغبتها المضطرمة في الاستزادة من المعرفة. ربما طريقتي في التفكير تعزلني عن مخالطة الشابات اللاتي ينتمين إلى جيلي وبيئتي. لا يستطيع المرء أن يتصور في حياة شابة مثلي وضعاً أسوأ من ذلك الذي يفضي بها، في ما تستحسنه وما تستقبحه وفي طباعها وآرائها، إلى الإعراض عن القاعدة السائدة، ولكنه من أقسى ضروب الألم أن يحتفظ المرء لنفسه بكل ما يدور في خلده خوفاً من صدم الآخرين وتكديرهم، وأن ينعزل انعزالاً مطلقاً عن الناس اجتناباً للإفصاح عن نهج مسلكه المبهج الهني الذي يجعله يستحق ثقة الآخرين ومحبتهم"، ما إن وصلت الرسالة حتى سارع إلى الاستجابة، وقبل أن يعتني بتنشئتها الثقافية. فعكفت على مرافقته والإصغاء إلى إرشاداته، من دون علم والديها اللذين عرفا بالأمر بعد حين وارتضيا على مضض، إذ إن ابنتهما كانت تقضي وقتاً طويلاً في مكتب القسيس.
بفضل ثقافة هذا الواعظ الإنسية الواسعة، استطاعت سالومه أن تتعمق في نصوص اللاهوت والفلسفة، وأن تطلع على عالم الأديان المقارنة، وأن تغرف رقة التعبير من ينابيع الأدبين الألماني والفرنسي. في كتابها "في النضال من أجل الله" (Im Kamp um Gott)، صرحت بأنه كان يجسد لها صورة رجل الله الذي كان عليها أن تثق به وتخضع له. اشتدت روابط الصداقة بين الاثنين، فأكبا كلاهما يتعرف إلى ألمع الأدباء والفلاسفة واللاهوتيين، ويقرآن معاً نصوصهم ويعلقان عليها طوال ساعات من التأمل المشترك والتباحث الحصيف. غير أن الطالبة النبيهة سلبت فؤاد المعلم، فهام بها هياماً أفضى به إلى التفكير الجدي بتطليق امرأته والاقتران برفيقته الشابة. غير أن سالومه رفضت رفضاً قاطعاً، إذ إن الزواج لم يكن يستهويها آنذاك. على الرغم من هذه المحنة، ظل الاثنان على صداقتهما الفكرية الروحية العميقة، بفضل نضج الطالبة الروحي وعذوبة معشرها.
لا ريب في أن فكر هذا القسيس المنفتح جعلها تتصور الله في هيئة الكائن اللطيف الرقيق الذي يعطف على أبنائه ويحثهم على الإفصاح عن مكنونات وجدانهم. لم يكن إله الشريعة والعقاب، بل إله الرقة الذي يفاجئ الإنسان بأبهى الهدايا والنعم الحياتية. من شدة القربى التي اختبرتها في محضره، أخذت تستأنس بصحبته وترتاح إلى مفاتحته في المساء بأسرارها الدفينة، فتخاطبه مخاطبة الرفقة البريئة التي تتكل على سعة معرفته وعمق حكمته، وفقاً لما كانت تدونه في مذكرات سيرتها الذاتية (Lebensrückblick. Grundriss einer Lebenserinnerungen).
الحب العذري في الحياة المشتركة
إثر موت والدها المفاجئ عام 1879، انتقلت سالومه برفقة والدتها إلى زوريخ بسويسرا حيث استطاعت أن تلتحق بجامعة المدينة التي كانت من الصروح الأكاديمية القليلة التي كانت تقبل انتساب الطالبات إليها. أمضت سالومه فيها سنة واحدة تابعت فيها بعض المواد في الفلسفة وعلم النفس واللاهوت، بيد أن صحتها تدهورت جراء التهاب حاد في رئتيها، فنصحها الأطباء باجتناب المناطق الباردة الرطبة والإقامة في مناطق الدفء، فيممت شطر روما عام 1882.
في المدينة الخالدة هذه اصطحبتها والدتها إلى صالون أدبي تعرفت فيه إلى الفيزيائي الألماني الفيلسوف باول ره، الذي ما لبث أن سحر بعذوبة منطقها وافتتن بسحر رقتها، فطلب أن يخطبها، ولكنها رفضت فكرة الزواج، واقترحت أن يسكنا معاً سكنى الأخ والأخت يتشاركان في اختباراتهما الوجدانية والفكرية. قبل باول ره الاقتراح، ولكنه تمنى أن ينضم إليهما نيتشه الذي تربطه به صداقة متينة. وافقت سالومه، فالتقياه في روما. وتكرر الإرباك الوجودي في علاقات سالومه بالرجال، إذ شعر نيتشه على الفور بشغف شديد أخذ بمجامع قلبه، فراح يفاتح صديقه ره ويسأله أن يطلب يد سالومه بالنيابة عنه. وكما فعلت مع جيلو وره، رفضت فكرة الزواج، واقترحت الصداقة الفكرية الثلاثية الأطراف، والاقتصار على حب أفلاطوني عذري مطلق. فرضخ نيتشه، بعد انصياع باول ره، وانضم إلى الشركة الفلسفية الثالوثية هذه، وركب المركب مذعناً للنفوذ المعنوي الهائل الذي كان يشع من شخصيتها الأنثوية الفاتنة.
سار الثلاثة على دروب السياحة في مناطق سويسرا وإيطاليا الخلابة، ولكن نيتشه ظل يحلم بفرصة إقناع سالومه، فعاود الكرة في الـ13 من مايو (أيار) 1882، من غير أن يحظى بموافقتها. فرضخ أخيراً واقتنع بمشروع الحياة الفكرية المشتركة. في هذه الأثناء، استعلمت شقيقة نيتشه المحافظة إليزابت عن أوضاع شقيقها، وأدركت خطورة الأمر، فسارعت إلى انتشاله من الوضعية الحياتية الشاذة هذه، وفي ظنها أن سالومه امرأة خسيسة النفس، خبيثة النية، تجري في دمها عصارة العهر والفجور. كان الثلاثة يبحثون عن موقع طبيعي أثري أو دير رهباني مهجور لكي ينشئوا فيه مسكنهم الحياتي المشترك ومنتداهم الفكري الخاص. ولما لم يعثروا على مبتغاهم قفلوا عائدين إلى ألمانيا وأقاموا في مدينة لايبتسيش.
الزواج الأفلاطوني
أغاظ سالومه وباول ره كلاهما فيلسوف الإنسان الأعلى، إذ إنهما تركاه فجأة وحيداً يتخبط في اضطراباته النفسية الخطيرة. غير أن نيتشه ظل يحن إلى الحياة المشتركة هذه، ويراسل سالومه راغباً في رؤيتها، ومجتهداً في تفسير القطيعة، وهو ما برح يظن أنها رفضت الزواج منه بسبب طباعها الغريبة، وبسبب حقد شقيقته إليزابت. ولم يفته أيضاً أن ينتقد مسلك باول ره نفسه الذي انتهى به المطاف إلى الاستئثار بصحبة سالومه، ذلك بأن ره وسالومه استقرا وحدهما في برلين، وعاشا بضع سنوات معاً قبل أن تقرر سالومه عام 1987، خلافاً لكل التوقعات، أن تتزوج المستشرق الألماني ذا الأصول الملكية الأرمنية والماليزية فريدريش كارل أندرياس. ويبدو أن هذا الزواج الذي أقام شعائره الدينية صديقها القديم القسيس جيلو كان مقيداً بمقاصد العفة المطلقة، مشروطاً بعدم إنجاب الأولاد، بيد أن سالومه لم تقطع علاقاتها العفيفة بالرجال الآخرين، ولو أنها ظلت أمينة على زواجها حتى موت زوجها في عام 1930. من جراء حرصها على عفة الزواج، امتنعت عن زوجها امتناعاً مطلقاً، حتى إنه حاول أن يجامعها في أثناء نومها، فاستيقظت مذعورة وأوشكت أن تخنقه من شدة غيظها. أما الأمومة، فكانت تتصورها خصباً في الكتابة، واستثماراً في استكشاف مطاوي النفس الإنسانية، مع أنها تبنت عام 1933 ماريا أبل (Maria Apel) التي اعتنت بها في أثناء مرضها.
نيتشه واختبار التسامي الخلاق
كان نيتشه يصر على فرادة العلاقة التي كانت تربطه بسالومه، ويخصها بإكرام وجداني فريد، إذ عدها من أخصب العلاقات الإنسانية التي عقدها في أثناء حياته القصيرة. بفضل المقابسات الفكرية السديدة التي جرت بينهما، اكتملت عدته الفلسفية، على نحو ما كان يصرح به، من أجل كتابة رائعته "هكذا تكلم زرادشت". غير أنه كان يبحث عن ارتباط زواجي قصير الزمن، إذ إن وضعه الصحي لم يكن يهيئه لمشروع حياتي طويل الأمد، وذلك من بعد أن ترك التعليم الجامعي في بازل وعانى ضعفاً في النظر وارتباكاً في القدرات الذهنية. فكان يبحث عن طالبة نجيبة تساعده على تدوين أفكاره، وتجمع إرثه وتستثمره في بناء عمارة فلسفية أمينة على تصوراته الثورية. في الفصل الأول (شخصية نيتشه) من الكتاب الذي أعدته سالومه في سيرة الفيلسوف العاشق هذا (Friedrich Nietzsche in seinen Werken)، تصف اللقاء الذي جمع الثلاثة في بازيليك القديس بطرس بروما، وتستفيض في إبراز خصائص الهيكل الجسدي الذي كان نيتشه يحمله في عناء وحشمة، والذي كان يجعله متعثراً في تصرفاته وأفعاله، مع أن معاينتها تقاسيم يديه كانت توحي إليها بعظمة عبقريته. ومن ثم، اقتصر وصفها على تصوير السيرة الفلسفية التي يجسدها هذا الفيلسوف، عوضاً عن التعبير المباشر عن أثر هذا الحضور في وجدانها الأنثوي، بيد أن نيتشه أرسل آنذاك قولته الشهيرة مخاطباً المرأة الفاتنة "من أي كوكب نجوم سقط كلانا حتى التقينا على الأرض؟".
في أثناء الأسابيع الثلاثة التي جمعت نيتشه وسالومه في توتناوبرغ، استطاع نيتشه أن يؤثر في إنشائية المرأة المتقدة الذكاء، وتمكن أيضاً بفضلها من الإفصاح عن أعمق تأملاته في الصداقة العاطفية التي تربط الرجل بالمرأة. المشكلة أن كلاً منهما كان يبحث عن مثال أعلى يختبره على طريقته الخاصة. كان نيتشه يروم التسامي الإبداعي الذي يفجر طاقات التجاوز الكامنة في عمق الإنسان، في حين كانت سالومه تصبو إلى اختبار التسامي الإلهي، وقد تجلى في هيئة الخصب الروحي. غير أن هذا التعاون لم يدم طويلاً، إذ عجز نيتشه عن أمرين: إقناعها بالزواج، وتحويلها إلى طالبة مريدة تؤيد أفكاره وتثق بتعاليمه.
ريلكه وتجديد الولادة
أعلن ريلكه في أحد نصوص مذكراته أنه لم يشعر بدفق الحياة وفورانها، ويحس عظمة الزمن الحاضر، ويؤمن بوعود المستقبل الآتي، على نحو ما كان يختبر ذلك كله في حضرة سالومه. حين كان يعاني مخاطر الانحلال الذاتي والضياع النفسي واندثار القوام الوجودي المتزن، التقاها كمن يلتقي ملاك الخلاص ينتشله من وهاد العذاب ويعيده إلى جادة الحياة. في إحدى رسائله، أباح لها بأنه يود أن يذوب أمام نعمة محضرها، كما تذوب الشمعة التي تضيء مذبح العذراء مريم. وحده هذا الشاعر استطاع أن يلهمها مصالحة التسامي الروحي والانغراس المادي في ملذات الانصهار الجسدي. حين التقيا عام 1897 في مونشن، كان يجسد لها، وهو الشاب النضر الذي لما يزل على عذريته الذكورية، صورة الانسجام المطلق بين رفعة الحب العذري ومتعة العشق الجسدي.
أما سالومه فأثرت فيه تأثيراً بالغاً حتى إنها حررته مما كان يزعجه في أنوثة اسمه (René)، فوشحته بهوية جديدة مطلقة عليه اسم العديل الألماني (Rainer) الأفصح تعبيراً عن ذكوريته. فإذا بها تحرره من رباط الأمومة لتأسره في كلف الأنوثة. أما موضوع التقابس الروحي فكان التأمل في مقام المسيح، على نحو ما تجلى في قصائده وفي نصوصها الصوفية. كان المسيح يجمعهما بحيث تبين لريلكه أن تأملات سالومه تمنح قصائده بعداً لاهوتياً صوفياً جليلاً. من المحزن أن العلاقة الاستثنائية هذه لم تدم طويلاً، إذ فتر التواصل بينهما في عام 1901، وما لبث أن انقطع في عام 1903، مع أن المراسلة ظلت ناشطة حتى مماته.
لا بد من ذكر النضال القومي الذي جمعهما أيضاً في الذود عن التراث الفكري الروسي، إذ أكبا يدبجان المقالات التي تمتدح خصوصية التراث الروسي، وتمجد عظماءه في جميع حقول الإبداع الإنساني. غير أن روسيا التي وحدت جهودهما شهدت أيضاً على القطيعة بعد سفرهما إليها عام 1900، إذ أدركت سالومه خطورة المرض النفسي الذي ابتلي به ريلكه، فنصحته بأن يبحث عن علاج نفسي يداوي أعماق باطنه المسكون بأحلك الخيالات العذابية. ظلت تشجعه على الكتابة الشعرية حتى يختبر أقسى ألوان الألم النفسي، فيتحرر منه في إبداعات شعره. ويبدو أنه انهار كلياً من بعد أن أنهى قصائده الرثائية الشهيرة (Duineser Elegien). في نهاية المطاف، أصبحت علاقتها به علاقة معالجة نفسية بمريضها المعذب، على غرار علاقتها بنيتشه وسيرته المضطربة.
فرويد وسر الباطن الإنساني المعذب
لم يتورع فرويد عن البوح بسر تعلقه بشخصية سالومه الفاتنة التي كانت تؤازره في بعض جلسات التحليل النفسي، حتى إنه كان يستشعر حضورها المعنوي حين كانت تغيب عن محاضراته التي كان يهدي أغلبها إلى طيفها الحائم في صالات الإلقاء. في عام 1911، التقته في مدينة ڤايمار لمناسبة المؤتمر التحليلي النفسي الثالث، وخلدت اللقاء في صورة مشهورة تظهر فيها مع فرويد وامرأة كارل غوستاڤ يونغ. كان لقاء فرويد في نظرها ميلاداً ثانياً، إذ عقدت العزم على التخصص بالتحليل النفسي في برلين وڤيينا. كانت تعنى أولاً بنظرية عالم النفس النمساوي ألفرد أدلر (1870-1937) وتتابع محاضراته. لما علم فرويد بذلك، اضطرم صدره حسداً، ولكنه ما لبث أن استوعب المنافسة، وآثر تعزيز علاقة الصداقة المتينة التي ربطته بسالومه ووضعتها في دائرة مساعديه الأقربين.
من شدة شغفها بالتحليل النفسي أهملت الكتابة الأدبية وأكبت تتعمق في الحقل النفسي الواعد هذا. يجمع الباحثون على أن فرويد غرم بها، مع أنها كانت تطور معارفها وتحاليلها وتخالفه في بعض النظريات النفسية التي لها صلة بالنرجسية. وما لبث أن اعترف لها بفرادة تناولاتها ومقارباتها. في إحدى رسائلها إلى فرويد صرحت بأنها كانت تترقب التحليل النفسي منذ طفولتها ترقب الحلم الواعد، لذلك راحت تمارس المهنة في غوتينغن حتى وفاتها، وقد حملت إلى التحليل أبعاداً فلسفية ميتافيزيائية لم يكن مجتمع المحللين النفسيين ليرضى بها آنذاك.
ملتهمة الرجال وملهمتهم
كانت سالومه تتمتع بروح حرة منعتقة من قيود الأعراف السائدة، وتحظى بشهرة أدبية فريدة في صالونات برلين وڤيينا الأدبية. تأثرت تأثراً بالغاً بفلسفة سبينوزا ونقدية كانط، وأولت المسعى الروحي مقام الصدارة في تأملاتها وأبحاثها. كانت تفرض وجودها بقامتها الفارعة الأنيقة، وشعرها الذهبي البراق، ونظرتها الثاقبة، وثقتها الشديدة بذاتها وإدراكها مقدار قيمتها ومبلغ أثرها في الناس المتحلقين حولها. كانت تتحرك بجسدها تحركاً حراً مستنداً إلى الحرية الكيانية التي كانت تعتصم بها. فتتيح لذكائها المتقد أن ينتشر حولها ويفعل فعله الإغوائي الحاسم. يبدو أنها كانت لطيفة التكوين، ممشوقة القد، ترتسم على جسدها آثار الامتزاج الأنثوي الذكوري النادر. ومن ثم، كان الرجال يشعرون بوطأة نفوذها وسحر اقتدارها، فينصاعون إلى إيماءاتها، من بعد أن تجردهم من ذكوريتهم الاستعلائية، حتى إن بعض المحللين النفسيين رشقوها بتهمة المرأة التي تخصي الرجال وتحرمهم من قوتهم الاقتحامية الرمزية. لم تكن ترضى بالاتكال على الآخرين في معيشها ومصروفها، فدأبت تستثمر قلمها في سبيل الاسترزاق الكريم، ناشرة المقالات الأدبية والإخبارية في بعض الصحف والمجلات البرلينية والنمسوية. كانت تهوى السفر والترحال واستكشاف التراثات الإنسانية الخالدة.
من غرائب شخصيتها الأنثوية أنها لم تكن تكتفي بعلاقة وجدانية واحدة، بل كانت تميل إلى تنويع ارتباطاتها طلباً لمتعة الفكر وملذة التشارك الوجداني. فإذا بها ترتبط عاطفياً بباول ره ونيتشه وريلكه وفرويد، وأيضاً بالمحلل النفسي النمسوي ڤيكتور تاوسك (1879-1919)، طالب فرويد ورفيقه في المهنة. أفادت من جميع هذه العلاقات لكي تختبر طبيعة النفس الإنسانية، وتطبق معايناتها الحياتية الوجدانية على المرضى الذين كانت تعالجهم.
نصيرة الفكر والآداب، عاشقة الجمال، متربعة على عرش الإغواء الفلسفي، ملتهمة الرجال وملهمتهم، ما إن تلتهم وجدانهم الضائع حتى تلهمهم الإبداع الراقي، فتتصرف فيهم تصرف ربة الفن والإلهام، تهيمن على حركة الإنشاء الأدبي على غرار شقيقاتها الإلهات الإغريقيات الثماني اللاتي كن يحمين الفنون والآداب والشعر والموسيقى، وفقاً للميثولوجيا الإغريقية. قيل فيها إنها كانت تستطيع أن تستولد الصنيع الأدبي الراقي من عبقرية الرجل، وذلك من بعد مرور تسعة أشهر على رمقه بعينيها الساحرتين اللتين توقظان مخيلته الراقدة وتخصبانها بأروع البذار الإلهامية. من مفارقات شخصيتها أيضاً أنها، في نضج أنوثتها، كانت تسبي الرجال وتسحرهم بجمال قامتها ولطف دلالها، ولكنها كانت تأبى التخلي عن حريتها وعذريتها، وترفض الاستسلام لمغامرة الالتحام الجسدي. يقينها الأرسخ أن الحياة ينبغي أن تكون مجبولة على ثالوث الحب والجمال والحرية.
إضافة تعليق جديد