محاكمة ألبير كامو

29-08-2022

محاكمة ألبير كامو

كيف لتلك الجملة الشهيرة التي بُترت من سياقها العام أن تمحي كل مواقف ألبير كامو وتختزله فقط في ذلك القائل في ستوكهولم ذات 12  يناير 1957: “أؤمن بالعدالة و لكنني أدافع عن أمي قبل العدالة”؟
ولكن ماذا وقع بالفعل في ذلك اليوم الكاموي المشؤوم؟
في تلك الندوة الجانبية المنظمة مع الطلبة على هامش الاحتفال بمراسيم تسلمه جائزة نوبل، سأله شاب جزائري يدعى سعيد كسال كان مقيما بالسويد بصرامة عن صمته حيال ما يحدث في الجزائر آنذلك: ” لقد وقّعت على كثير من العرائض لصالح البلدان الشرقية ولكنّك ومنذ ثلاث سنوات لم  تفعل شيئا من أجل  الجزائر ولم تقم بإدانة القمع الاستعماري؟ ” واختتم تدخله الطويل الغاضب قائلا:” تحيا الجزائر الحرَّة!  أحسَّ كامو بظلم شديد واضطر أن يجيب بعد أن حاول سعيد كسال  مقاطعته عدة مرات فقال: ” لقد فرضتُ على نفسي الصمت خلال عام وثمانية أشهر وهذا لا يعني أنني توقفت عن الفعل. لقد كنت ولا أزال دائما نصير جزائر عادلة ينبغي أن يعيش فيها الشعبان في سلام ومساواة. لقد قلت ورددت أنه يجب أن ينعم الشعب الجزائري بالعدالة..لقد بدا لي أنه من الأحسن انتظار وقت مناسب لأجمع بدل أن أفرّق… لقد نددت دائما بالرعب. ويجب علي أن أندد بالإرهاب الذي يمارس بلا أدنى تبصر في شوارع مدينة الجزائر مثلا والذي يمكن أن يضرب أمي أو عائلتي في يوم من الأيام. أؤمن بالعدالة و لكنني أدافع عن أمي قبل العدالة”.
كان كارل غوستاف بورستروم مترجم كامو الشهير حاضرا بجانب دومينيك برمان صحفي جريدة ‘لومند’ الوحيد الذي نقل الجملة القاتلة: “أؤمن بالعدالة و لكنني أدافع عن أمي قبل العدالة “، والتي استقبلها مدير جريدة لومند  آنذاك هربرتبوف ميري بسعادة عظمى قائلا: “كنت على يقين بأنه  سيقول حماقات.” ونشرها يوم  14 يناير  بتلك الصيغة المبتورة  عمدا وتناقلتها الصحافة الدولية وتمّ تأويلها تأويلات لا تعد و لا تحصى.  وأدت تلك الضجة الإعلامية إلى اختصار ما قاله الكاتب في جملة واحدة سهلة ” بين العدالة وأمي أختار أمي.” وهي صيغة لم يتلفظ بها الرجل ولم يكن قصده المفاضلة بين العدالة وأرض مولده بل كان يريد شجب العنف. ولكن مترجم كامو قدّم بعض التدقيق إلى أوليفيه تود الذي كان يحضر لكتابه الشهير عن حياة كامو: “من حيث الشكل و المضمون كان يريد القول إذا كان هذا ما تقصدون به من كلمة عدالة، إذا كانت تلك عدالتكم وإذا كانت أمي في قطار تراموي في مدينة الجزائر فإذن أنا أفضّل أمي عن هذه العدالة.” وتطرف بعض الفرنسيين في تأويل العبارة فرأوا أن كامو قد برهن أنه يفضل أمه على 10 ملايين من العرب. ولم تترك سيمون دو بوفوار الفرصة تمرّ للانتقام منه بسبب رفضه أن يكون عشيقا لها في زمن مضى فكتبت أن “بقوله هذه الجملة قد انحاز صاحب نوبل الجديد لمعسكر الأقدام السود”.
ولم يفهم الفيلسوف ميشال أونفري صاحب أهم عمل حول كامو وأدبه ما فهمته سيمون دو بوفوار فيقول: “اختيار الأم هنا أو في مكان آخر، كما في  استكهولم، هذا يعني الانحياز لمعسكر الناس البسطاء  الذين لا صوت لهم. هو الانحياز لحزب الشعب ضد الأقوياء حتى و إن كانوا معارضة. تحت ظل أمه الدائم كان كامو صوت من لا صوت لهم. كان صوت كائنات بلا كلمات”.


*المصدر: كتاب «والفيلسوف إذا سُئل، لماذا اختار البير كامو أمه؟»
تأليف: حميد زناز

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...