أوسڤالد شبنغلر وأفول الغرب
مشير باسيل عون
نشأ الفيلسوف المؤرخ الألماني أوسڤالد شبنغلر (1880-1936) على حب البحث المضني، لا سيما الرياضيات والفيسيولوجيا. بعد أن أنهى دراسته الثانوية في مدينة هاله (Halle)، انتسب إلى جامعتي مونشن وبرلين، ومن ثم إلى جامعة هاله. أمضى بضع سنوات في تدريس الرياضيات، ولكنه ما لبث أن تخلى عن مهنة التعليم، ووقف ذاته على البحث في حركة التاريخ. فذاع صيته في عام 1918 في إثر نشر كتابه الشهير "أفول الغرب: ملامح مورفولوجيا تاريخ العالم "(Der Untergang des Abendlandes. Umrisse einer Morphologie der Weltgeschichte)، وهو المؤلف الذي كان قد أنشأه قبل الحرب العالمية الأولى. في جميع أبحاثه واستقصاءاته، يعمد إلى كتابة فلسفة في التاريخ تستند إلى أحكام المورفولوجيا المقارنة التي تبحث في شكل البنى والهيئات التي تنشأ عليها الكائنات الحية.
بين الثقافة والحضارة
يناصر شبنغلر مبدأ الثورة المحافظة التي تستصفي أبلغ ما ينطوي عليه تراث المجتمع من قيم سامية، ولكنه سرعان ما يبين أن الثقافة الأوروبية أشرفت على النهاية، لذلك لم يعد أمام أوروبا سوى الاكتفاء بالتقدم الحضاري المحض. لا بد من التذكير بأنه يميز الثقافة من الحضارة، فيصرح بأن الثقافة، حين تتصلب وتتحجر وتتجمد، تتحول إلى حضارة وتنبئ ببداية الأفول، ذلك بأن "الحضارة قدر الثقافة المحتوم" (شبنغلر، "أفول الغرب"، ص 43). الحضارة، في عرفه، ترمز إلى طور انتصاب المدينة اللاشخصية المجهولة الهوية، وتفكك الانتماء الوطني واندثاره في لجة المواطنة الكونية وديمقراطية الجماهير المغفلة، وسيادة مذهب اللذة المطلقة، واستفحال المادية، وسيطرة المنطق الكمي في تقويم حقائق الوجود، وهيمنة المال. لا ريب في أن جميع الظواهر المقلقة هذه ترسم قدر الغرب رسماً لا مهرب منه. تحت وطأة هذه العبوديات، لا يستطيع المرء إلا أن يصاحب مراسيم القدر، معتصماً بحكمة الفلاسفة الرواقيين الذين ينصحون الإنسان المفطور على الحتميات التاريخية بأن يساير الأقدار التي توجه مصائر الذين يرتضون بها، وتجرف الذين يعاندونها (Ducunt volentem fata، nolentem tahunt).
ومن ثم، لا يصيب الانحطاط إلا الثقافة، أي الإبداع الفكري، في حين تستمر الحضارة على نموها وازدهارها بفضل التقدم التقني. غير أن الإنجازات العلمية والصناعية لا تنشئ بحد ذاتها ثقافة خاصة، بل تضاعف من قدرات الإنسان العملية. ليست التقنية بفكر قادر على ابتكار الخصوصية الثقافية. لا عجب، والحال هذه، من أن يستند شبنغلر إلى نيتشه الذي يعارض الثقافة المبنية على روحية الإله أبولون والثقافة المستندة إلى رؤية الإله ديونيسوس. تنتمي الثقافة الأبولونية إلى الماضي، في حين تنتسب الثقافة الديونيسوسية، ويدعوها أيضاً بالفاوستية، إلى المستقبل.
التحولات الثقافية في الغرب الأوروبي
في كتاب "الإنسان والتقنية. إسهام في فلسفة الحياة" (Der Mensch und die Technik. Beitrag zur einer Philosophie des Lebens)، يعكف على التأمل في مالات الحضارة التقنية المبنية على الابتكارات الآلية الإنتاجية، والمدعومة بالنمو الديموغرافي المقلق. في هذا السياق، يمكن القول إنه استبق تحليلات الفيلسوف الألماني هايدغر (1889-1976) الذي انتقد هيمنة التقنية المعاصرة على الكائنات والكينونة، ذلك بأن شبنغلر عارض بين مسلك الحيوان وتصرف الإنسان، فأظهر أن ما يميز الإنسان إنما هو القلق الذي يجعله ينظر إلى المستقبل، في حين ينحصر هم الحيوان بالنطاق المكاني الآني. على قدر ما يتأمل المرء في قدرات اليد الصانعة، يتبين له أن التقنية اليدوية أوشكت أن تناقض متطلبات الحياة الإنسانية، حتى إنها جعلت الناس يفكرون بأياديهم، فتعزز في الحضارة الغربية ما بات يدعى "فكر اليد"، يقابله "فكر العين" الذي تتصف به الحيوانات الكواسر.
بعد انقضاء زمن "اليد المسلحة"، ظهر زمن الكلام المقترن بالآلة المنتجة وبمؤسسة الصناعة. أما الطور الأخير في المأساة الغربية، فيتجلى في هيمنة زمن الآلة، يعقبه انحلال كل مظاهر الصناعة الآلية، ليحل محلها الزمن الفاوستي المنسوب إلى فاوست (Faust)، بطل مسرحية الأديب الألماني الألماني غوته (1749-1832). ينفرد هذا الزمن بالتنازع بين الخير والشر، على غرار مأساة فاوست عينه الذي ناصر الشر بعد أن باع نفسه للشيطان طمعاً بالمعرفة اللامحدودة والمتعة الأقصى. في إثر ثقافة اليد، وثقافة الكلام، وثقافة المؤسسة الإنتاجية، يرسم شبنغلر ملامح الثقافة الغربية الأوروبية المنحلة في سمات المجتمع الذي يضحي بالقيم الروحية والمثل الأخلاقية في سبيل تعزيز المخيلة التقنية المتفلتة من رقابة الحكمة القديمة. فإذا به يفصل بين شغف الاختراع التقني، وعواقبه الجسيمة على الحياة والناس، ذلك بأن غنى هذا الاختراع لا يضاهيه سوى فداحة التهور الذي يفضي بالإنسان إلى الإعدام الذاتي. في تخيل مشهدي مستقبلي، يبتكر شبنغلر استعارة بليغة، إذ يحذرنا من "غثيان الآلات" التي لن تطيق احتمال التهور الاختراعي المسرف الذي سيقبض على كيان الإنسان المخترع عينه، ويحبس على وجدانه، ويغلق على وعيه إغلاقاً مطبقاً. لا غرابة، والحال هذه، من أن يفضي غثيان الآلات الخائنة إلى اندحار الحضارة التقنية الغربية. أما المصير المحفوظ للإنسان الغربي، فيتصوره شبنغلر في مشهد الموت الجريء الكريم الذي يضطلع به المرء مرفوع الرأس، عالي الجبين!
الثقافات العالمية وأطوارها التاريخية
انتقد شبنغلر المركزية الأوروبية، من بعد أن استجلى ثماني ثقافات عالمية ظهرت في أزمنة مختلفة وفي بقاع متنوعة: القديمة، والمصرية، والبابلونية، والهندوسية، والصينية، والمكسيكية، والعربية، والغربية. كل ثقافة من هذه الثقافات تنتسب إلى رمزية خاصة تمنحها هيئتها المميزة. على سبيل المثال، الثقافة الإغريقية القديمة رمزيتها الجسد المادي المنعزل، والثقافة الغربية الفضاء اللامتناهي، والعربية المغارة، والمصرية الطريق الذي يسلكه الإنسان في حياته في اتجاه واحد لا يحيد عنه. بما أن هذه الرمزيات متباينة، يعلن شبنغلر أن كل ثقافة تدور في فلكها الخاص عاجزة عن دخول الثقافات الأخرى والنفاذ إلى تصوراتها ورؤاها.
مثل الثقافات كمثل الكائنات الحية، إذ إنها، وفقاً لتحليلات شبنغلر، أشبه بأجسام عضوية "تنمو في نبل عدم الاكتراث بغايتها، شأنها شأن أزهار الحقول. على غرار النباتات والحيوانات، تنتمي إلى الطبيعة الحية التي تناولها غوته، لا إلى الطبيعة الميتة التي اعتمدها نيوتن" (شبنغلر، "أفول الغرب"، ص 33). سيراً على نهج المؤرخ الأندلسي ابن خلدون (1332-1406)، يعلن شبنغلر أن كل ثقافة من هذه الثقافات تختبر أطواراً شتى من النمو، فتنتقل من الطفولة إلى الشباب، فإلى النضج والشيخوخة. يتجلى ربيع الثقافة في طورها البطولي، إذ تستيقظ النفس فيها وتختار رمزيتها الأصلية، منشئة بذلك زمن الأساطير التأسيسية. يتجسد صيفها في طورها الإنضاجي. أما خريفها، فيبلغ ذروة القدرة الابتكارية في النفس، في حين يفضي الشتاء إلى طور الخمول والركود.
شبنغلر وتعزيز التيار الفكري الأوروبي المحافظ
تناول المؤرخ البلجيكي الشاب داڤيد إنغلز (1979) نظرية شبنغلر، واستخرج منها اثني عشر دليلاً على التشابه البنيوي بين أزمة الاتحاد الأوروبي في القرن الحادي والعشرين وأزمة سقوط الجمهورية الرومانية في طورها المتأخر. بفضل تخصصه الدقيق بالحضارة الرومانية وآلهتها ومؤسساتها وشرائعها، استطاع أن يبين في كتابه "الأفول" (Le Déclin) كيف أن إشكالات بناء الهوية الجماعية في الاتحاد الأوروبي تشبه عوارض التأزم الذي أصاب الجمهورية الرومانية، ذلك بأن الأوروبيين ما برحوا يتجاهلون انغلافات الأحياء الجماعية والمتحدات العرقية التي تسور مدنهم الكبرى بزنار ناري حراق قد يشعل حروباً أهلية تقضي على الإرث التنويري كله. وعلاوة على ذلك، لا يريدون أن يعترفوا بعلامات الانهيار الاقتصادي الوشيك، وبأسقام الشلل الفكري السياسي الذي يعطل مسار ابتكار الحلول الناجعة.
بعد أن درس داڤيد إنغلز في جامعة بروكسل الحرة، وأشرف على إصدارات علمية بارزة تروم أن تحيي فكر شبنغلر الاستشرافي، التحق بجامعة بوزنان البولونية مسؤولاً وناشطاً في معهد زاخودني، يصرف جهده في تحليل تاريخ الغرب الفكري واستجلاء خصوصية الهوية الأوروبية، لا سيما في سياق العلاقات الألمانية البولونية. أما مسعاه الفكري الأرحب، فيملي عليه أن يعزز جمعية الدراسات المتخصصة بفكر أوسڤالد شبنغلر (Oswald Spengler Society)، وقد شارك في تأسيسها عام 2017، ويجعلها تسهم في إحياء الفكرة الأوروبية. من خصائص هذا المسعى أن يعتمد المفكرون سبيل الإصلاح المحافظ الذي يرمم المؤسسات الأوروبية ويصون فيها روحها الثقافي التقليدي الأصيل، لذلك أشرف على نشر مجموعة أعمال مشتركة وضع لها عنواناً لاتينياً لافتاً "تجديد أوروبا" (Renovatio Europae)، وابتكر مفهوماً ثقافياً جدلياً سماه "الغروبية" (hespérialisme) وجعله يضم في وحدة توفيقية محبة الوطن الأوروبي الأرحب والنزعة الثقافية المحافظة. وما لبث أن كلل هذه الجهود ببحث صغير أعلن فيه عن التزامه الدفاع عن أوروبا الثقافة والفكر حتى نستطيع "نحن معشر الأوروبيين، الذين يعشقون الغرب وتاريخه وتراثه وتقاليده، أن نظل، في سياق العالم المابعد أوروبي، أوفياء أمناء على اقتناعاتنا الذاتية الخاصة، وأن نورثها فلذات أكبادنا من الأجيال الناشئة".
جدلية الوحدة والتنوع في الثقافات الإنسانية
من الانتقادات التي يمكن أن يسوقها المرء إلى نظرية شبنغلر اقتصار تحليله على الجانب التجريبي المحض، وهيمنة الخلفية الفيسيولوجية على معايناته الميدانية، فضلاً عن ذلك، يعيب عليه المنتقدون أنه أغفل عن حقيقة انتمائه الغربي الأوروبي، فسارع إلى استخراج خصائص الثقافات الأخرى، مخالفاً ما سبق أن أعلنه من استحالة التداخل والتنافذ والتقابس بين الثقافات، لا سيما إذا كانت كل ثقافة قائمة في برجها العاجي وقلعتها المنعزلة لا تستطيع أن تتصل بنظيراتها حتى تتعرف عليها وتستكشف مكانزها.
من الثابت أن هذه التقسيمات استهوت غير مفكر من مفكري فلسفة الحضارات، ومنهم على سبيل المثال أستاذ العلوم السياسية الأميركي صامويل هانتنغتون (1927-2008) وأستاذ الاقتصاد السياسي الباحث الأميركي فوكوياما (1952) وسواهما. غير أن المرء ينبغي أن يستفسر عن حقيقة هذه التمايزات وشرعيتها وملاءمتها وقائع الاختلاف الناشب في عمق الوجود الإنساني التاريخي. فهل الناس على الاختلاف الثقافي الحاد هذا، وهل التباين في التصورات والرؤى والأنظومات والأفكار ناشئ من الانتماءات البيئية والانتسابات الجغرافية والاختبارات الاجتماعية والممارسات الاقتصادية، وهل البنية الذهنية الفوقية الظاهرة متأثرة بالبنية الاقتصادية-الاجتماعية الباطنة المنحجبة وحسب، على ما يذهب إليه أصحاب النظرية النقدية الماركسية، وهل يمكن الناس، على اختلاف اختباراتهم الثقافية، أن يتفقوا على ضمة من المبادئ الإنسانية التي تنطوي عليها شرعة حقوق الإنسان الكونية حتى يتعايشوا ويتعارفوا ويتسالموا ويتعاونوا ويتقابسوا من غير أن يكفر ويقصي ويفني بعضهم بعضاً؟
أكتفي بهذه الأسئلة، وفي اعتقادي أن الاختلاف سنة الحياة، لا سبباً للموت الحضاري. لا شك في أن لكل أنظومة ثقافية هويتها وخصائصها وميزاتها وفرادتها. من أبسط الأمثلة النظر في بعض السمات الثابتة في وجدان الناس في بعض البيئات الثقافية. فهل العفوية الأفريقية ستختفي وتحل محلها الانضباطية السكانديناڤية، وهل الشاعرية الوجدانية العربية ستزول وتنوب منابها العقلانية الألمانية الصارمة؟ ثمة عقلانيون عرب ووجدانيون ألمان، ولكن السمة الغالبة في المسلك الفردي والجماعي تحدد صفات الأمم، ذلك بأن الأمم ليس بعضها نسخة طبق الأصل عن بعضها الآخر. فلا ضير على الإطلاق في الاختلاف، ولكن هل يجوز لنا أن نتصور علاقات الحضارات بعضها ببعض على هذا النحو من التجابه الحاد والتصارع المهلك؟ أفلا يجدر بنا أن ننظر في خصائص كل حضارة، من غير أن نعزلها في بيئتها الخاصة ونربط عليها في هيئة واحدة نهائية؟ رأس الحكمة في هذا كله أن نسعى إلى تكاملية حضارية تستصفي الأبهى والأرقى والأجدى في كل ثقافة إنسانية، وتستجلي سبل التقابس الذي يصون الذاتية ويغني الغيرية، فلا تؤله الأولى ولا تجرم الثانية.
إضافة تعليق جديد